في إنتخابات شارك فيها ما لا يقل عن 50 مليون مواطن، وتنافس فيها نحو 85 ألف مترشح على 17 ألف منصب على المستويين القومي والمحلي، وشابها كالعادة العنف (قتل ما لا يقل عن مائة شخص، كان من بينهم 38 مرشحا لعضوية البرلمان، على أيدي مسلحين مجهولين)، وشراء الأصوات، وتبادل الإتهامات، والتذمر من الإنتظار الطويل، وتعطل أجهزة الإقتراع، والإعتداء على بعض المراكز الإنتخابية البالغ تعدادها نحو 76 ألف مركز يمتد عبر أكثر من 700 جزيرة، إختارت الفليبين مؤخرا رئيسا جديدا (الخامس عشر منذ الإستقلال) ونائبا للرئيس، وأكثر من 300 نائبا لشغل مقاعد مجلسي النواب والشيوخ، إضافة إلى نحو 17500 موظف رسمي محلي.
وكما كان متوقعا فقد جاءت نتائج الإنتخابات الرئاسية لصالح “نوي نوي أكينو الثالث”، الإبن البكر والوحيد للرئيسة الراحلة “كورازون أكينو”(من مواليد العام 1960، وحاصل على بكالوريوس الإقتصاد من كلية الآداب بجامعة أتينيو بمانيلا في عام 1981 ، وشغل منصب نائب حاكم مقاطعة تارلاق قبل إنتخابه عضوا في مجلس الشيوخ الرابع عشر، وكان قد تعرض إلى جروح خطيرة أثناء محاولة إنقلابية قادها بعض صغار ضباط الجيش بقيادة العقيد “جورجيو غرينغو” ضد والدته في عام 1987 ). حيث نال الرجل نسبة من الأصوات تجاوزت 40 بالمئة بقليل، متفوقا بذلك على تسعة مترشحين آخرين في مقدمتهم الرئيس الأسبق/ ممثل السينما السابق “جوزيف إيسترادا” الذي كان قد أطيح به في عام 2001 قبل أن يكمل ولايته بحجة إنغماسه في الفساد وتلاعبه بالمال العام، ورجل الأعمال السيناتور “إيمانويل فيلار” المدعوم من قبل الرئيسة المنتهية ولايتها “غلوريا ماكاباغال أرويو”.
كان من الممكن أن تعتبر هذه النتيجة بمثابة صفعة للأخيرة و عهدها الذي يصفها فليبينيون كثر بالفساد، وانتشار المحسوبية والرشوة، وإستغلال النفوذ، وتزوير الإنتخابات للبقاء في السلطة على نحو ما قيل في إنتخابات العام 2004، لولا أنها أتت بمجلس للنواب يسيطر عليه أنصار السيدة “أرويو” من مرشحي حزبها السياسي المعروف بإسم “لاكاس كامبي” والذي إنقسم في وقت سابق حول تسمية مرشحه لخوض الإنتخابات الرئاسية إلى فريقين: فريق يدعم وزير الدفاع “غيلبيرتو تيودور” الذي حل في آخر قائمة المتنافسين، رغم ألمعيته وشهاداته الأكاديمية العالية (خريج جامعة هارفارد الإمريكية العريقة)، وفريق يدعم السيناتور “إيمانويل فيلار”.
ومعنى وجود مجلس نواب يسيطر عليه هؤلاء، بل وتحتل “أرويو” بنفسها أحد مقاعده، هو أن الرئيس الجديد، الذي ينتظر أن يتولى مهام منصبه رسميا إبتداء من الأول من تموز القادم لفترة مدتها ستة أعوام، سيبقى مكبل اليدين لجهة اجراء الإصلاحات التي يرمي إليها من أجل محو الصورة التقليدية لبلاده كأحد أفقر بلدان جنوب شرق آسيا، وأكثرها فسادا وخللا لجهة العدالة الإجتماعية. وفي مقدمة تلك الإصلاحات فتح ملفات الفساد في عهد سلفه مع تقديم المفسدين إلى العدالة، وإيجاد حلول لحركات التمرد الشيوعية والإسلامية، وإصلاح الموازنة الذي يشكو من عجز بمقدار 7 بلايين دولار إمريكي، ومحاربة البيروقراطية المتفشية في أجهزة الدولة والأمن، وإنتشال الملايين من الفقر المدقع.
والمعروف أن “نوي نوي أكينو” حقق إنتصاره في السباق الرئاسي رغم أنه كان آخر من طرح إسمه ضمن المترحشين. حيث لم يدخل الرجل السباق إلا بعد وفاة والدته في أغسطس الماضي من تداعيات مرض السرطان. وهكذا، ومثلما حدث سابقا في أكثر من بلد آسيوي، إستغل “نوي نوي”، الوريث السياسي الوحيد لأسرة أكينو، حزن وعواطف الجماهير الجياشة تجاه والدته الراحلة الموصوفة بأيقونة الديمقراطية ذات الرداء الأصفر، ليرشح نفسه للمنصب الأعلى في بلاده. غير أن لبعض المراقبين قراءة مختلفة تقول أن منصب رئيس الجمهورية في الفلبين قد لا يبقى المنصب الأهم. وهذه القراءة تستند ، بطبيعة الحال، إلى حقيقة وجود طموحات لا محدودة لدى السيدة “أرويو” للبقاء طويلا في المشهد السياسي، خصوصا وأنها تنتمي إلى عائلة “ماكاباغال” السياسية العريقة، وتملك هي وزوجها “خوزيه ميغيل” المنحدر من عائلة “أرويو” الإقطاعية المعروفة ثروات طائلة. هذا ناهيك عن حيويتها وشبابها (رغم تجاوزها الستين من العمر)،ومؤهلاتها العلمية العالية (درست في الولايات المتحدة في جامعة ييل الراقية في نفس الفترة التي كان فيها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون يدرس فيها، وتحمل شهادة الدكتوراه في الإقتصاد من جامعة الفلبين).
وبعبارة أخرى، يتوقع الكثيرون أن تلجأ السيدة “أرويو” أولا إلى إستغلال عضويتها في مجلس النواب وسيطرة أنصارها عليه للفوز بمنصب رئيس المجلس، ثم الإنطلاق من ذلك لإحداث تعديلات دستورية من شأنها تحويل الفلبين من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني. وعليه فإن تمكنت “أرويو” وأنصارها من فرض هذه التغييرات بإستخدام أغلبيتهم البرلمانية، فإن الأخيرة ستصبح من موقعها المتوقع كرئيسة للحكومة هي صاحبة النفوذ الأقوى في البلاد، وليس رئيس الجمهورية.
أما الجديد في إنتخابات هذا العام، فهو إجراء عمليات التصويت والفرز آليا، بدلا من التصويت والفرز اليدويين، مما جعلها ناجحة وبعيدة نسبيا عن التزوير. فللمرة الأولى في تاريخ الإنتخابات الفلبينية، لم يكتب المقترعون بخطهم أيديهم أسماء مرشحيهم، وإنما قاموا بتظليل دوائر في ورقة الإقتراع قبل وضعها في الصناديق. ومن هنا قيل أن الفائز الأكبر في إنتخابات 2010 هو المقترع نفسه كونه أجبر السلطات على تغيير ما كان يسمح في الماضي بأعمال تزوير واسعة.
ومن نتائج الإنتخابات التي لم ترض “نوي نوي أكينو”، سقوط مرشحه لنيابة الرئاسة السيناتور “مانويل روكساس” الذي تغلب عليه بفارق بسيط مرشح الرئيس الأسبق “إيسترادا” لنيابة الرئاسة، ألا وهو عمدة حي المال والأعمال الراقي المعروف بإسم مكاتي “جيجومار بيناي”. غير أن الأخير يمكن أن يتحالف مع الرئيس المنتخب، أو على الأقل أن يتكيف معه دون صداع أو مشاكل خلال السنوات الست القادمة، على فرضية أنه واحد من أصدقاء والدته الراحلة، وإحدى الشخصيات التي وقفت إلى جانبها أثناء ما عرف بثورة “قوة الشعب” ضد ديكتاتورية فرديناند ماركوس في عام 1986 ، هذا ناهيك عما هو معروف من وقوف الراحلة “كورازون أكينو” إلى جانب “جوزيف إيسترادا” في محنة إقصائه من السلطة في عام 2001 ، وإعتراضها على وصف تلك الواقعة بثورة قوة الشعب الثانية.
ومن المهم في سياق حديثنا عن الإنتخابات الفليبينية أن نتطرق إلى البرنامج الذي خاض به “نوي نوي أكينو” السباق الرئاسي، مع مقارنته ببرامج أهم وأبرز منافسيه أي “إيمانويل فيلار”. لقد وعد “نوي نوي” شعبه بالعمل على ترسيخ دولة القانون والنظام عبر القضاء على الميليشيات المحلية التي عادة ما تؤلفها العائلات الإقطاعية النافذة في مناطق نفوذها من أجل حماية مصالحها الخاصة ومعاقبة خصومها ومنافسيها و رجال الإعلام المنتقدين لها بالإغتيال والإعتداءات المسلحة (يبلغ عدد هذه العائلات نحو 250 عائلة طبقا لتقارير “مركز الشفافية والحكم الرشيد” الذي يتخذ من مانيلا مقرا له)، كما شدد على أهمية تعزيز دور ومكانة الطبقة الوسطى المتعلمة، متعهدا بحمايتها وتوسعتها وإيلائها إهتماما خاصا بإعتبارها المحرك الرئيسي للنمو. ومن جهة أخرى تعهد “نوي نوي أكينو” ببدء مفاوضات جادة مع المتمردين من مواطنيه المسلمين في جنوب البلاد المضطرب، مع عرض مناصب رسمية عليهم مقابل إلقاء السلاح، وحث فعاليات جديدة مثل علماء المسلمين، وزعماء تنظيمات المجتمع المدني، وأئمة الجوامع، وعمداء العائلات المسلمة، للإنخراط في محادثات السلام. وهذا البرنامج يختلف، بطبيعة الحال، عن برنامج “إيمانويل فيلار” الذي لم ينفعه في تحقيق الإنتصار، لا تركيزه على نصرة الفقراء والطبقات المهمشة، و لا إنفاقه جزءا معتبرا من ثروته الطائلة المتأتية من المضاربات العقارية على الدعاية الإنتخابية لنفسه، ولا وعوده بإيجاد حل سلمي لمشكلة مقاطعات الجنوب المسلمة من خلال تنمية تلك المقاطعات تعليميا وصحيا وإداريا وزراعيا، وتنصيب حكومة محلية تتحلى بالمصداقية والشفافية.
ورغم الإختلاف ما بين “نوي نوي” و “فيلار” في كيفية معالجة التمرد المسلح في الجنوب بقيادة “جبهة مورو الإسلامية” التي لا تعترف بدستور الفلبين، وبالتالي قالت أن الإنتخابات لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد، ولن تعترف بنتائجها (أكثر أعمال العنف أثناء الإنتخابات وقعت في المقاطعات الجنوبية المتمردة)، فإن الرجلين شددا كل على حدة على ضرورة أن تحل مشاكل الجنوب ضمن الأطر الدستورية، وليس خارجها (بمعنى ألا يتجاوز الحل منح الحكم الذاتي للمقاطعات المسلمة ضمن سيادة ووحدة أراضي الجمهورية الفليبينية) بل حبذا أن يكون الحل مرتكزا على إتفاقية عام 1996 التي عقدت ما بين حكومة الرئيس الأسبق “فيدال راموس” وزعيم جبهة تحرير مورو الوطنية البروفسور “نور ميسواري”. تلك الإتفاقية التي قوبلت بالارتياح في عواصم عدة، ومن قبل منظمة المؤتمر الإسلامي أيضا، قبل أن تتجمد بسبب حدوث إنشقاق في صفوف “مورو”، وتمرد على رئيسها المعتدل “ميسواري” وولادة ما سمي بجبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة “سلامات هاشم”.
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh