لم تشهد حياة البشر السياسية عبر أطوار تطورها خللا مثلما شهدته في تحالف الدين والسلطة. الرابطة بينهما أدت الي انهيار حضارات قامت قبل نضج هذا التحالف. وعندما تأسست مجتمعات علي هذا التحالف فان عصرها كان عصر الظلام بجدارة. هكذا هي أوروبا بعد سيادة الدين المسيحي لحوالي الألف عام حتى بدأ عصر النهضة ثم التنوير وخلخلة العلاقة بين الدين والسلطة. جاء الإسلام في قلب عصور الظلام تلك مسلحا بفكرة الحكم بالدين من اليوم الأول. فهو لم يدخل في أطوار الاقتراب أو محاولة الاستحواذ علي السلطة بل مارس وضع اليد عليها حتى ولو كان المحكومين من غير المسلمين. كان هذا هو حال كل مكان وصله الغزاة العرب حاملين الدين لنشره ومبررا للحصول علي السلطة وبالتالي الثروة.
في هذا الإطار فإن الحديث عن الحرية أو الحقوق في الإسلام أو المسيحية يعتبر من اللغو لان السلطة الكنسية والإسلامية من أهل السنة المسلمين خاصة مارسا دورا طاغيا في تشكيل العقل السياسي الجمعي العام حيث التركيز علي العبادات واعتبارها أولوية لدي المحكومين بينما الهدف ليس سوي إبعاد نظر المحكومين عن أحقيتهم في تقرير مصيرهم سياسيا وفي نفس الوقت التركيز علي ما تمليه السلطة من طاعة المؤمنين لها. لهذا كان عسف السلطة الدينية طاغيا رخم مقولات الرحمة التي تملا نصوص الأديان.
فتاريخ السلطة في الإسلام هو ذاته تاريخ الإسلام بالإخضاع شبه التام للأفكار الدينية الإيمانية التي تقص في معظمها إن لم يكن كلها سير الأولين في الماضي وكيف كان الوصول إليها عبر كل الطرق والأساليب. وبغض النظر عن صدق التراث الديني من عدمه، فالهدف هو تمرير فكرة إن الخضوع للدين هو ذاته الإخضاع لممارسات سنن الأولين والموتى التي لا تبديلا لها. بهذا الإخضاع تمت مصادرة المستقبل والحاضر لصالح الماضي ولإعادة تمثله وإنتاجه. فرسخت في ذهنية الفرد المسلم الحالي التضحية بالحاضر والمستقبل معا. وتلك بالضبط هي سمة عصور الظلام. تلك العصور الني غادرتها أوروبا باستبعادها المسيحية من نظام الدولة وفصلهما تماما عن بعضهما فيما يسمي العلمانية بينما بقي عالم الإسلام يرفل في ظلام مجتمعاته حتى يومنا هذا دون بصيص أمل لا من داخل الإسلام ولا حتى بتقليد الغرب الذي أشغلت السلطة المتحالفة مع الدين نفسها بالسب والتجريح للحضارة الغربية وبانجازاتها الإنسانية وليس بالنقد الموضوعي لها.
كان الهدف من الربط بين السياسي (الإيديولوجي) وبين الديني (الإيماني) عند أهل السنة (العسكر) ألا يكون الفرد حاكما لذاته برأي مختلف عما تمليه الايديلوجيا الدينية وأيضا لعدم تاهيله للوصول الي سده الحكم من القاعدة الي القمة، إنما بتوقيفه علي حدود النص ترديدا وعباده وليس فهما وتجاوزا له. هنا نجد التركيز والتكرار الدائم علي فكرة الطاعة المملاة من الدين والمخصصة ومطبقة علي الفرد لصالح السلطة. فحيثما حكم الإسلام تم استبعاد البشر من السياسة، وكانت مصر المثال شديد الوضوح، ولضمان الاستبعاد في كل العصور بعد إن تفشي الإسلام فيهم قالت عنهم السلطة السياسية أنهم أكثر شعوب الأرض تدينا. بالتالي وعلي نفس الأسس يمكن طرح السؤال: وهل أصحاب السلطة القادمين دائما من الخارج هم أكثر أناس بعدا عن الدين؟ فعندما خرج نابليون قاصدا مصر اتبع نفس النصيحة الميكيافيلية وهو مازال علي سطح سفينته مغازلا المصريين في عقيدتهم ومكرها إياهم في حكامهم. كان العلماني الفرنسي يعلم ما خفي علي مؤمني مصر لأكثر من سبعة ألاف عاما. وربما كان الموقف المصري مرتبكا إزاء هذا الفاتح الفرنسي العظيم لذات السبب في كشفه عما يتوجب عليهم عمله إزاء من ربط السلطة بالدين. فتلك هي السنة التي مارسها كل الحكام الغزاة المسلمين لمصر حتى ولو كانت مصر مسلمة من قبلهم بقرون. حارب نابليون المماليك وحارب المصريون نابليون لكن بعد هزيمة الجميع ورحيل الفرنسيين والانجليز لم يدرك المصريين طبيعة الصراع علي السلطة ونوع التهم المتبادلة ابتغاء السلطة من جميع المتحاربين. لهذا تمت تولية محمد علي الذي يجمع فضلات ومخلفات جميع من حاربوا معارك الحملة الفرنسية إضافة الي تراث حكام مصر منذ غزو العرب لها. فهو عثمانلي (أجنبي) ينتمي الي الدولة العثمانية (الإسلام) وهو جندي ( عسكر) وفضلا علي كل هذا أمي لا يعرف القراءة والكتابة، وهو فضل عند الإسلام على أية حال.
تبدو الأمور أكثر وضوحا والإجابات أكثر إقناعا وشفافية لو تم تفكيك كل المقولات التي رددها المحكومين باعتبارها آيات بينات في ضوء ما تقوله أبواق السلطة. ولنفس السبب ظلت السلطة تؤكد إن الدين ليس شيئا جزئيا في حياه الناس إنما هو منهاج شامل للمجتمع بأكمله، هادفة من وراء ذلك تذويب الفرد عقلا والجماعة أخلاقا في دائرة المباح حلالا والمحرم حراما عدا الوصول الي السلطة. وهو بالضبط ما يجري حاليا في فضائيات الفتاوى غوصا في دوائر الحلال والحرام إشغالا لهم عن فكرة أن إيمانهم يمكن إن تكون لها علاقة بالسياسة، بينما السياسي يملي الأفكار الدينية علي المحكومين لانه في كرسي السلطة!!!
ومن هنا يمكن فهم مسالة التجريس للعلمانية وكيف أنها كفر بواح. فإعلام السلطة ومن خلال الدعاية الدينية يجرم العلمانية هادفا لبقاء الفرد في غيبوبة الدين وتسبيحا لتقوي وورع من في السلطة الرافعين أعلام الإيمان في مواجه الكفر البواح دفاعا عن الشعب المؤمن، أي الغائبة عنه حقائق الوجود. هذا العمى السياسي أصاب أيضا المعارضة السياسية فتوصلت قريحة البعض الي تجزيء العلمانية بهدف إضعافها. فقال بعلمانية جزئية وأخرى كلية. الاولي تبقي الإيمان والاخري كافرة. هؤلاء المثقفين كجماعات معارضة علي يقين بحكم تعلمهم في الغرب ومعرفتهم بنظمه المتطورة إن الحل لكل مشاكلنا يكمن في فكرة العلمانية كحل ناجع للمرض الطويل الناتج عن فيروس تحالف الدين والسلطة. لهذا خصصت السلطة لهم الجوائز واسبغت الالقاب لان افكارهم التجزيئية ليست سوي غرف إنعاش متنقلة للنظم القائمة علي التحالف التاريخي الذي قسم الكعكة فجل الإيمان من نصيب الشعب والسياسة والسلطة من نصيب الحاكم ولو كان أجنبيا. فما هي العلمانية الجزئية تلك اللهم الي هي إبقاء الدين والسلطة متحالفين معا ككمامة اوكسيجين لنظم مازالت تسعي لمد زمن عصور الظلام.
وتبدو مشكلة التحالف في منطقة الشرق الأوسط بلا حل تقريبا ليس فقط لان هناك صفوف متراصة من رجال الدين ورجال السلطة ومثقفين يقفون متحالفين معا إنما لأسباب تاريخية طويلة اختص بها الإسلام كحالة مزمنة بأكثر من باقي الديانات. فالإسلام لم تكن له مؤسسة كنسية. بمعني إن وجوده كان منبت الصلة بالدولة وذلك بحكم ظهوره في مجتمع قبلي بدوي لم يعرف الدولة ككيان سياسي سابق علي الدين. وينطبق الأمر كذلك علي الدولة عند العرب التي لم توجد قبل إن يظهر الإسلام. وبمجئ الإسلام جاءت معه الدولة في آن واحد. وحتى لا نخدع أنفسنا عبر الألفاظ ودلالاتها فالدولة بعد الإسلام هنا المقصود بها السلطة وليس الدولة بالمعني السياسي لكيان اجتماعي ممتد عبر علاقات ارتضاها الناس فيما بينهم علي مدي عصور طويلة مثلما هو حال مصر وارض بابل وبلاد فارس والصين. ولتصحيح الأمور نقول ثانية إن الإسلام والسلطة جاءا متزامنين يد بيد ولا موقع للدولة بمعناها العام هذا الأمر وهو ما يثبته القول السلفي الأصولي إن الإسلام وطن ودين ودولة. بتفكيك هذه المقولة في ضوء حركة تاريخ الإسلام وظروف نشأته في بيئته القبلية بمكن أعاده صياغتها بان الإسلام سلطة وعبادات علي ارض وجد.
ربما ظهرت الدولة فيما بعد مثل دولة بني أمية وبني العباس والأيوبيين والمماليك ثم العباسيين بوضع اليد علي السلطة وشنق الحكام السابقين. لكن وللحقيقة وارضاءا للضمير الممتد معنا منذ زمن الفراعنة العظام فان هذا الدولة الإسلامية ليست سوي ضم قسري للممالك والكيانات والدول السياسية السابقة علي الإسلام لا أكثر ولا اقل. وبقي الأمر علي هذا الوضع الجامد لأسباب متعددة أهمها إن السلطة والدين بتحالفهما ابقيا كل هذه المجتمعات في غيبوبة عبر فكرة الخضوع الكامل لمن هم وكلاء عموم الأديان ويمسكون بالسلطة حتى لو ذهبت الإنسانية الي الجحيم. أنهم يدافع عن كلاهما أي عن التحالف هذا بالموت المسمي جهادا. وهو أمر غاية في الغرابة في عرف الأسوياء عقليا. فما الحاجة للصراع باسم الدين من اجل السلطة بتفضيل الموت عن الحياة؟
فالأوطان والأمم والدول بمعناها الصحيح تعرف الموت من اجل الدفاع عن الوطن. لكن الإسلام اقر قاعدة غاية في الغرابة والشذوذ بان جعل الموت شهادة من اجل الوصول للسلطة (تحت مسمي الدعوة) ولو علي أنقاض أي دوله وكيان قائم. هذا الموقف المتناقض أيضا ايدته تحالفات الدين والسلطة باعتبار الشهادة اسمي ما يمكن للمؤمن حيازته عندما ينشر الدين أي عندما يحاول حيازة السلطة أو مدها علي مواقع جغرافية جديدة بشعوبها وفي نفس الوقت إغراق شعبها في غيبوبة العبادات مع تمجيد للسلطة ممثلة في الخلفاء. وتلك هي بالضبط عقيدة أهل السنة والجماعة عندما يكون هناك ضحايا جدد علي طريق الغزوات أو الفتوحات باسم الدين. اما عن فساد الحكم والسياسة في المجتمع المسلم فتقول ايديولوجية نفس الجماعة بالصبر علي ظلم الحكام وفسادهم. وفي الحالتين يفتي اهل السنة بطاعة المتغلب والحائز علي السلطة بالسيف حتي ولو كان فاسدا. هكذا يصبح كل مجتمع، مسلم او غير مسلم، اسيرا في نظر اهل السنة لانهم حائزين علي السلطة باسم الدين كوكلاء له ولو باالعنف. وتصبح اي مناطق جديدة ليست باكثر من مشروع فريسة وضحية لتحالف السلطة والدين باسم الفتح ونشر الدين ثم بقائه محنطا في فسادهما الي يوم الحساب، ذلك الحساب الذي يكرهون ممارسته في الحياه الدنيا مثلما تمارسه العلمانية يوميا في حياه الشعوب الديموقراطية. وعلي الجانب الآخر يبرر الدين مسالة خضوع المغلوبين بمقولات طاعة اولي الامر. بهذا يمكن فهم كيف ان الشهادة ليست سوي التضحية ببعض المؤمنين مع صك مضمون الدفع في جنات النعيم في سبيل حيازة السلطة ( الدعوة للاسلام) علي اراضي جديدة. لكن الاكثر غرابة في هذا التحالف المشبوه ان يصبح ممكنا تبرير وصول العبيد الي سده الحكم بحجة ان الاسلام لا يفرق بين البشر طالما كانوا مسلمين. فشواهد التاريخ والتحليل السياسي والانثربولوجي لمفهوم السلطة في الاسلام تطلبت ممن هم حريصين علي هذا الحلف بان ياتوا بالخدم والمماليك والعبيد لضمان الولاء ولا يعطون شئنا لاهل البلاد الاصليين حتي ولو اسلموا وحسن اسلامهم. لهذا فان امة الاسلام التي سادت منطقة الشرق الاوسط عرفت في معظم تاريخها، بدءا من العصر العباسي الثاني، بدولة المماليك اي الخدم والعبيد والخصيان. فاصبح تراث المنطقة هو تراث العبيد بفضل الدين الذي تطلب الطاعة من اليوم الاول كشرط اول للايمان.
مع انشغال المواطن (مواطنة مع وقف التنفيذ) فإن المملوك الذي هو رجل السلطة في الشارع يرتكب كل انواع الآثام. يستحل انساب الاخرين لانه منبت الصلة بالانساب لانه عبد مملوك. تغمض السلطة القائمة عن جرائم مماليكها طالما المواطن مشغول بالعبادات وباتقاء الاذي من رجال السلطة اما بدفع الاتاوة او الرشوة. فالمجتمع المملوكي لا اصول عنده للحكم سوي البطش ولا قواعد لوراثة السلطة الا بالانقلاب والغدر اعتمادا علي خلو الدين من وسيلة لتداول السلطة واستمرارها بامن وكفاءة. يقوم المملوك بكل الوظائف الممكنة والغير مطلوبه منه طالما السلطة في مامن من الشعب. فعندما ادخلت الدولة العباسية نظم استحضار المماليك من تركيا وشرق اوروبا لحماية الخلافة فسقطت هي بفضل هؤلاء الجند العبيد واستمر الامر حتي الدولة العثمانية عندما ادخلت النظام الاوروبي بتنظيم الجندية والجيش فإنها اوكلت لهم تنظيمات جباية الضرائب واعمال الشرطة لكن هذا لم يجعل الدولة العثمانية دولة اوروبية بفضل تمسكها بالدين كاهم اداه في ضبط سلوك الفرد اجتماعيا وسياسيا. ولذات السبب سقطت الخلافة الاسلامية بفضل اوروبا التي فصلت الدين عن الدولة وجعلت للجيش مهام محدده ومتخصصة في الحرب وليس في قمع مواطنيها. فكان الارث الطوبل لتحالف الدين والسلطة هو ذاته العبئ الداخلي فسبب سقوط الخلافة وتحول جيشها الي مرتزقه حتي في الدول التابعة والخاضعة لما كرسه العرب منذ ظهور الاسلام,
المشهد الدال علي هذا الارث التاريخي للمماليك والممتد تاريخيا رغم ما قيل بقيام ثورة وتحرر واشتراكية وحرية الي آخر اليافطات المزيفة في مصر كاكبر دولة عاصرت الحكم المملوكي لفترة طويلة (750 عام) هو مشهد الخفير- وريث الشرطة المملوكية – في فيلم ” الزوجه الثانية” للمخرج العظيم صلاح ابو سيف. فالفنان عبد المنعم ابراهيم قام بكل الوظائف في القرية بدءا من خدمة منزل العمده والعمل علي تمرير سياسته وسرقة الطيور والدواجن وخدمة البهائم وسرقتها والشهادة الزور تعونا مع مشايخ الدين لسرقة الحريم والتنطع علي كل الموائد وفرض الاتاوة. الوظيفة الوحيدة والتي تدل عليها البندقية والزي الرسمي والطربوش الحكومي بايقونته لا نجد لها من صدي في مهامة الوظيفية. كان خفيرا في زمن الثورة لكنه يحمل ارثا مملوكيا ممتد معه منذ استحل الدين السلطة واستخدمت السلطة الدين فجعلته يخدم من في السلطة زورا وبهتانا حتي استحلال الاعراض.
elbadrymoh@aol.com