منذ عقودٍ من الزمن، اقترن اسم الشرق الأوسط بقضية تحالف الأقليات، وذلك بأشكال مختلفة. وقد انضم عناصر من الأقليات الإقليمية إلى مختلف جوانب هذه القضية. في البداية، أتت هذه الفكرة كرد فعلٍ على وجود الإمبراطورية العثمانية التي ميّزت في أحيان كثيرة المسلمين، خصوصاً السنّة، عن باقي الطوائف في المنطقة. أمّا اليوم، فتشير هذه الفكرة إلى انّ باقي المجموعات ستخضع عاجلاً أم آجلاً إلى شروط الأكثرية الإسلامية في المنطقة بسبب تفوقها العددي. وبالتالي تدعو إلى ضرورة اتحاد الأقليات غير السنية في المنطقة بغية مواجهة الخلل العددي والسيطرة على الأرض الممتدة على ضفة المتوسط والقابلة للحياة سياسياً.
عند قدومي إلى لبنان عام 2000، تولى مسؤولون لبنانيون مقربون من النظام السوري مهمة عرض تلك القضية أمامي بكل جوانبها. وتتضمّن هذه القضية نبذة مفصلة عن السياسة السورية خلال سنوات الاحتلال، التي كانت تسعى إلى تعزيز مكانة بعض العناصر الخاضعين لها والذين اعتمدوا هذه الفكرة، وتعيينهم في مناصب حيوية. وفي هذا الصدد، حظي النظام السوري بتعاون غير مشروط من الرئيس إميل لحود. أمّا في ما يتعلق بعلاقة هذا النظام بالرئيس رفيق الحريري، فطالما تأرجحت بين الحذر والعدائية، ذلك أن دمشق كانت ترى فيه رجلاً غير قابلٍ للضبط ويجدر ضبطه في آنٍ. لذلك، حاربته من خلال شخص الرئيس لحود وأجهزته. ولا بد من الإشارة إلى أن الموارنة كانوا يعارضون هذه السياسة بغالبيتهم في تلك الآونة.
ارتكب النظام السوري خطأً فادحاً في حساباته وبالغ في الثقة بحصانته من العقاب، فقرر أن يمدد لثلاث سنوات إضافية ولاية الرئيس لحود، أحد أهم رجاله، ما أثار حفيظة القيادة المسيحية ووليد جنبلاط والرئيس الحريري. فبدأت بذور التحالف الانتخابي التي تكونت حينئذٍ تثير قلق القيادة البعثية في العاصمة السورية. ومباشرة بعد دق ناقوس الخطر ينجو الوزير مروان حمادة بأعجوبة من محاولة اغتيال ويلقى الرئيس رفيق الحريري حتفه في اغتيال وحشي؛ ثم، يصدر تقرير براميرتز الذي يشير بكل صراحة إلى وجود علاقة مباشرة بين اغتيال الحريري من جهة وإعادة انتخاب الرئيس لحود والانتخابات التشريعية من جهة أخرى. والأمر سيان بالنسبة إلى العمليات الإرهابية التي تلت تلك الأحداث.
وابتداءً من تشرين الأول (أكتوبر) 2004، أرغم اتحاد عناصر المعارضة ورفض الشعب لعمليات الاغتيال ودعم الأسرة الدولية استقلال لبنان، الجيش السوري على الانسحاب من الأراضي اللبنانية. ويبدو أن سورية لم تتمكن من تخطي صدمة انسحابها المفاجئ من لبنان، فقررت الرد على هذه الضربة من خلال تحريض العماد ميشال عون على بقية أطراف المعارضة، محدثةً بالتالي شرخاً في صفوف المسيحيين.
وينضم العماد عون إلى حلف الأقليات والمحور الذي أنشأه النظام السوري وحزب الله والجهات اللبنانية المناصرة لسورية، وتحظى هذه الشراكة برعاية إيران التي تزود هذا الحلف بالمال والسلاح، مقابل حصولها على ورقة عسكرية دبلوماسية في وجه الغرب وإسرائيل وأكثرية العرب.
وفيما لا يخفى على أحد أنّ حزب الله يقاتل منذ سنوات لتحقيق هذه الغاية، من الغريب أن نسمع اليوم مناصري العماد عون، الذين كانوا يؤمنون في الماضي بلبنان واحد غير قابل للتقسيم، يلوحون بالأفكار التالية للدفاع عن سياستهم الجديدة فيقولون:
– «إنّ جماعة الحريري تسعى إلى توطين الفلسطينيين كي تقضي أولاً على الشيعة وثانياً على الوجود المسيحي وكي تحول لبنان إلى أمّة سنية».
– «إن هذه الجماعة نفسها مسؤولة عن الأزمة الاقتصادية والدين العام في لبنان».
– «إنّ حزب الله هو الحزب الأقوى على الساحة اللبنانية؛ وهو يملك زمام التنظيم وقطاع الأموال والأسلحة ويشكل خط الدفاع الأول للمسيحيين».
– «إنّ معارضة النظام السوري لا تصب في مصلحة المسيحيين، فسورية أكبر ضمانة لهم والرئيس بشار الأسد حاميهم».
– «تقع إيران على بعد آلاف الكيلومترات من لبنان، ومصلحتها الوحيدة هي حماية الشيعة في لبنان، ممّا يساعد المسيحيين على تطبيق برنامج عملهم».
– «إنّ «فتح الإسلام» و»جند الشام» وغيرهما من الميليشيات الإسلامية السنية تقف وراء الاغتيالات والعمليات الإرهابية، وهي تحظى بتمويلٍ من آل الحريري؛ وتمر الأسلحة التي تستخدمها عبر مطار بيروت».
بالتالي، تقضي الاستراتيجية العونية بإنشاء حلفٍ مسيحي – شيعي لمواجهة ما تسميه الهيمنة الإسلامية السنية. وسيعمد حزب الله في رأي العونيين الى مقاتلة الأصوليين السنّة والميليشيات الفلسطينية. وفي السياق نفسه «إنّ العماد عون هو الزعيم الوحيد القادر على تطبيق جدول الأعمال هذا؛ والوحيد القادر على مواجهة الميليشيات الإسلامية السنية وإقناع حزب الله بتسليم سلاحه. والمسيحيون سيكونون أول المستفيدين من فتنة سنية – شيعية».
هذه الفكرة التي تُروّج من خلال حملة فعالة، تستغل عدائية المسيحيين الفطرية حيال الطوائف الأخرى – الدرزية والسنية في هذه الحال – وتلقى في المقابل آذاناً صاغية.
وهي تعتمد على تحريفات وتصريحات كاذبة تخالف الحقائق التي تقول مثلاً:
1- تراكم الدين العام بسبب سياسة النظام القديم، الذي كان السوريون، أول المستفيدين من الاقتصاد المحلي، يسيطرون عليه مباشرةً. ما من تعيين كان يحصل أو قرار كان يُتخذ أو عقد كان يُبرم من دون تدخل النظام السوري. ويبدو أن العماد عون يغض النظر بكامل وعيه عن تورط القادة ومشاركة حركة أمل والأطراف الأخرى المناصرة لسورية والتي تتحالف اليوم معها في الأزمة السياسية. يجب أن يكف عون عن إعطاء دروس حول الفساد، فلا يزال العديد من الأسئلة المتعلقة بالشؤون المالية لدى توليه زمام السلطة والأموال المتراكمة باسمه واسم أفرادٍ من عائلته في حسابات مصرفية خارجية، من دون جواب (صحيفة Le Canard Enchaîné، كانون الثاني/ يناير 1990).
2- في وقت كان لبنان يسير فيه على درب الانتعاش الاقتصادي، أتت حرب تموز (يوليو) 2006، التي حظيت بدعم العماد عون، إضافة إلى التظاهرات والاعتصامات والتهديد باللجوء إلى العنف وبتعطيل المؤسسات، لتزيد أضعافاً درجة إفقار الشعب اللبناني. واليوم، يمكن القول بكل ضميرٍ مرتاح إنّ أحداً لم يضر بالاقتصاد اللبناني بقدر ما أضرت به المعارضة الحالية.
3- يتخلى العماد عون عن المواقف السابقة التي كان أعلنها بخصوص النظام السوري، علماً أنّ السوريين، وعلى الرغم من انسحابهم من لبنان، ما زالوا يتدخلون في السياسة المحلية عبر حلفائهم. إنّ سورية هي التي تسلّح وتدير المنظمات الإرهابية في لبنان (راجع الشهادة أمام الكونغرس الأميركي، بتاريخ 19 أيلول/ سبتمبر 2003). واليوم، يريد أن ينفي كل الروابط بين الأجهزة السورية والإرهابيين، وإقناع الرأي العام بأن تيار المستقبل يمارس سياسة التدمير الذاتي ويمول قاتليه. من هم اللبنانيون الذين يصدقون مثل هذا الكلام؟
4- في العام 2005، كان عون يقول: «إنّ المشكلة الأساسية في لبنان هي أنّ حزب الله يفرض شروطاً مسبقة للحوار ويرفض مناقشتها. لذلك، لا يمكنني ان أتحاور معه، لا سيما انه في الآونة الأخيرة عبر القارات متنقلاً من سورية إلى إيران، ويستحيل أن اتبعه. فقد أرسى ركائز دولةً داخل الدولة، مكرساً بالتالي واقعاً لا يمكن تغييره».
اليوم وبعد هذه التصريحات، كيف استطاع عون الادعاء أنه قادر على التأثير على حزب الله وحثه على تسليم سلاحه في يومٍ من الأيام، هو الذي يشكل الحلقة الأضعف ضمن تركيبة تحالف الأقليات؟
من المنطقي ان تُطرح هذه النظرية من منظار النظام السوري أو حتى من منظار حزب الله، الذي تتناقض أيديولوجيته مع التعددية والتوافق في لبنان، فالجميع يعرف جيداً كيف ابصر حزب الله النور وإلى أي مدى يتبع الثورة الإيرانية. إلاّ ان هذه الفكرة تبقى سخيفة بالنسبة إلى أي مسيحي. ومن خلال إنكاره لكل مواقفه السابقة والدفاع عن هذه الأيديولوجية، يزيل العماد عون النقاب عن انتهازية مؤذية وسذاجةٍ لا مثيل لها.
لماذا لا يمكن للبنان، دولةً وشعباً – لا سيما المسيحيين – ان يتقبل هذه الفكرة؟
– لأنها تضع لبنان في خانة النزاع الأبدي.
– لأنها تشل المجتمع من خلال تعزيز الانتماء الطائفي لدى اللبنانيين كافة.
– لأنها تضعف جزءاً أساسياً من الطائفة الشيعية يرفض ان يلعب دور الأداة في السياسة الإيرانية، وتجرده من كل إمكانية للتعبير عن ذاته على الساحة السياسية في وجه حزب الله.
– لأنها ستعزز موقف المتطرفين لتشكل بالتالي الخطر الأكبر على لبنان، في الوقت الذي تجتمع فيه غالبية الطائفة السنية تحت راية لبنان أكثر من أي وقتٍ مضى في تاريخ جمهوريتنا.
– إنّ الظن بأنّ المسيحيين سيلتحقون بكثافة بمناصري هذه السياسة هو خطأ فادح؛ فالغالبية المسيحية سترفضها، ممّا سيزيد من تشاؤمها حيال المستقبل ويتسبب بهجرة سريعة لكل من يمكنهم الإقدام على خطوة مماثلة.
– لأنها تسعى إلى تحويل المسيحيين إلى مرتزقة سوريين – إيرانيين في نزاعٍ لا يعنيهم – لا من بعيد ولا من قريب.
كيف يمكن للأقليات، ولا سيما المسيحيين، أن تدعي الحصول، على المدى الطويل، على السبل اللازمة لتحدي السنة والمحافظة على وجودها في وجه أي خلل عددي؟
ومهما كانت الانتصارات الأولية التي تحققت نتيجة هكذا تحالفٍ، فلا شك انه يخضع مناصريه إلى المعاناة والتدهور.
إنّ تحالف الأقليات ليس سوى ضرب من ضروب الجنون وانتحار جماعي.
فضلاً عن ذلك، كيف تأمل هذه الأقليات تحقيق ما فشلت إسرائيل في تحقيقه على الرغم من عظمتها ودعم الغرب لها، والصمود أمام نزاع طويل الأمد مع الأكثرية الإسلامية؟ وهل تفكر في تمديد حلفها إلى الدولة العبرية؟
تهيمن الخشية من التطرف والأصولية على الأوساط المعتدلة الموجودة داخل الطوائف والمجتمعات. ويرتبط بقاؤها بوحدتها في وجه أنواع التطرف كافة. ومهما تعددت أخطاء الماضي، ينبغي على كل من يملك نوايا حسنة، التغلب على الصعاب من اجل إنشاء علاقة ثقة، فهي وحدها تضمن مستقبلاً قابلاً للحياة، خصوصاً بالنسبة إلى المسيحيين.
عميد الكتلة الوطنية اللبنانية
(الحياة)