من يتابع عن قرب وبموضوعية التطورات الاخيرة في لوحة العراق السياسية المعقدة يجد أن بدايات ايجابية جدية قد طرأت على الوضع في البلاد. البداية الاولى هي التطور الجدي الذي طرأ على القوات المسلحة العراقية وأدائها، الجيش والشرطة وأجهزهتهما الاستخباراتية. فقد بدأت هذه القوات تتحول من الضحية الى المبادرة في مطاردة عصابات القاعدة وفلول النظام السابق والجريمة المنظمة وقلعها من المواقع التي تسلطت عليها في الفترة السابقة.
وبدأت هذه القوات بإستكمال ملاكاتها من الأفراد والمعدات بحيث لم يعد بإمكان الارهابيين وفلول النظام السابق المواجهة معها، وأخذت تضرب اماكن تحشد المواطنين العراقيين عشوائياً وجنونياً وتهرب من وجه قواتنا المسلحة. كما بدى واضحاً في الفترة الأخيرة المشاركة الواسعة والفعالة للعراقيين في دعم قواتنا المسلحة ورفدها بالمعلومات وأماكن اختباء الإرهابيين وفلول النظام، مما ضيق الخناق على تحركاتهم. كما كُسر حاجز الخوف عند العراقيين بحيث أخذوا يبادرون الى مواجهة الارهابيين في مناطقهم، وهذا ما شاهدناه في محافظة الانبار وديالى لاحقاً واخيراً في محافظة صلاح الدين. ولم يتردد ابناء بعض مناطق بغداد من حذو خطوات أقرانهم في المحافظات الساخنة، وراحوا يطاردون ويتعقبون المجرمين في العامرية وغيرها من محلات بغداد الساخنة. ويشارك في الحملة ضد هذه العصابات حتى من كان يتستر على أفعال هذه الزمر أو يشترك معها بعد أن تم أفتضاح نواياها والتي لا علاقة لها بـ “الجهاد “أو “المقاومة”، بل تدمير البلاد وقتل العراقيين وعرقلة بناء دولتهم وحرمانهم من نعمة الكهرباء والماء الصافي والوقود والتعليم والطبابة والخدمات العامة. ولهذا السبب إختفت أخيراً حتى مفردة “الجهاد” أو “المقاومة” من على صفحات أجهزة الإعلام “شريفها” و “سافلها”، ومن التداول على ألسن العراقيين لأنها أصبحت ضرب من التندر والضحك على الذقون. ولم نعد نسمع في العراق من كلمة سوى القضاء على الإرهاب ودحر من يخطط له ويشجعه.
إن حصيلة هذه المطاردات هي تطهير مناطق واسعة من المحافظات الثلاث التي طغى عليها الارهابيون وفلول صدام. كما تم قتل اعداد واسعة من المجرمين والقتلة بحيث وصلت أعداد من قتل من العرب فقط ما يزيد على 4000 من جنسيات سعودية وسورية واردنية وأفغانية وشيشانية ومغربية …الخ حسب الإحصاءات الحكومية. وإذا أضفنا الى ذلك قرابة 1000 إنتحاري فارقوا الحياة بعد أن أحرقوا الاخضر واليابس في بلادنا، وما يزيد على 2500 من المعتقلين من المجرمين العرب في السجون العراقية، يصبح من قتل أو سجن قرابة 8000 آلاف عربي شاركوا في قتل العراقيين وتدمير بلادنا. وهو رقم كبير رغم أن هذا الرقم قد يزيد بسبب أن الكثير منهم قد دفنوا سراً ولا تعرف الجهات العراقية الرسمية أماكن دفنهم. أما أعداد من فارق الحياة من الارهابيين ومن “حزب العودة” من العراقيين فلم ينشر سوى من أعتقلوا ويبلغ عددهم قرابة 10000 سجين من أنصار الارهابيين وحماتهم أو من فلول العهد السابق. هذه الحصيلة دليل على تنامي قدرة العراقيين على إشاعة السلام والأمن في ربوع بلادهم. ويلاحظ في هذا الإطار أن اجواءً بدأت تسمو على المشاركين في العملية السياسية.، أجواء بعيدة عن المضاربات الطائفية والمذهبية وبعيدة عن العبث بمستقبل البلاد تحت واجهات طائفية ومحاصصتها، وبعيدة عن العبث بالسلاح وملثميه في شوارع هذه المحافظة بذرائع دينية كاذبة ولتصفية الحسابات مع منافسيهم السياسيين. وبدأ بعض المشاركين يدرك إن المساهمة في مؤتمرات في مدينة “اشرف” العراقية وبرعاية مجاهدي خلق أو الاجتماع في تركيا بواجهة طائفية وإجتماعات ولقاءات عبثية أخرى لم “تشبع البطن” ولم تجلب الامن والسلام لهم ولا لمنافسيهم ولا للشعب العراقي. لقد أدرك هؤلاء أن عليهم الجلوس تحت قبة مجلس النواب وحل المشاكل دون اللجوء الى جيوشهم الجرارة المدمرة والخطابات النارية التحريضية التي تهز أعصاب مرضى السياسة وعشاق الطائفية وناكري الهوية العراقية.
إن المشهد العراقي لم يقتصر على ذلك بل تعداه الى بدايات وخطوات جدية نحو إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، الى جانب خطوات مماثلة في إعادة أعمار ما هدمه النظام السابق أو ما هدمته فلوله وحلفائه من الارهابيين الغرباء القادمين من خارج حدود البلاد. ففي غالبية المحافظات بدأت حركة إعمار واسعة يمكن ملاحظتها، في ظل وجود إحتياطي في الخزينة المركزية ما يربو على 40 مليار دولار، في كل محافظات كردستان العراق وفي المحافظات الجنوبية وغالبية محافظات الفرات الأوسط والوسطى وتمثل محافظة النجف نموذجاً لذلك. كما تعاد تدريجياً بعد تطبيق خطة فرض القانون الحياة لمؤسسات الدولة والتعليم والمؤسسات الخدمية والتجارية التي دمرت وتعطلت بفعل سيطرة البرابرة على محافظة الأنبار وديالى وصلاح الدين وبعض مناطق بغداد. ولابد من القول أنها بدايات …. وبدايات ناجحة تعيد الأمل والحياة والتفاؤل للعراقيين بمستقبل بلدهم، وما زلنا نحتاج الى خطوات جدية سريعة والى أن يبادر السيد نوري المالكي الى تشكيل حكومة فعالة ماهرة بوزراء خبراء في مهنهم ويتمتعون بالنزاهة كي يتم الاسراع بردع الإرهاب وحلفائهم والسير بالعملية الديمقراطية الدستورية، ونخرج البلاد من هذا الجحيم الذي فرض عليه من قبل أعداء الحياة.
أزاء هذه البدايات الناجحة لا يتوقع العراقيون أن يجمد الأعداء نشاطهم التخريبي، بل سيسعون بشكل محموم الى التفتيش عن سبل بائسة يائسة أخرى كي يظل صوتهم “يلعلع” على شاشات قنوات الارهاب التلفزيونية، كي يشوهوا حقيقة الوضع في البلاد أو يحلموا بأحلام سوداء لهذا البلد الكريم. وفي هذا الإطار يمكننا النظر الى “اللملوم” الذي يجتمع في دمشق في هذه الأيام لدراسة الوضع في العراق، ووضع “خططهم” الشريرة ضد العراقيين لفترة ما بعد إنسحاب القوات الدولية من العراق. أننا لا نتوقع الا أن ينتهي هذا الإجتماع بنفس النتيجة الفاشلة البائسة لمثيلاتها من إجتماعات “مدينة أشرف” أو أنقرة أو دمشق السابق، والذي أنهى إجتماعه بالتراشق بكل ما تيسر في الإجتماع. والسبب بسيط وهو أن من يتصدر هذا الإجتماع هو حارث الضاري عراب منظمة القاعدة الإرهابية والمدان عراقياً وصاحب رسائل التوسل الى إبن لادن. وقد إبتعد علماء العراق عن هيئته المسلحة المشبوهة وكتائبه المدمرة، ولم يعد لها تلك “الوجاهة” والفرصة التي تمتعت بها بعيد سقوط النظام. أما الطرف الآخر فهم فلول النظام السابق وحزبه المدان في العراق. فمن تبقى منهم لم يبادروا حتى من باب ذر الرماد في العيون، الى إدانة أو نقد نهج الحزب أثناء فترة حكمهم، هذا النهج القائم على نهب الدولة بما فيها وحتى نهب آثارنا القديمة وإستخدام السلاح الكيمياوي ضد العراقيين وتسمميم المعارضين بالثاليوم وحفر القبور الجماعية ونشرها في كل أنحاء العراق، والعدوان على الغير وقتل حتى العرب بكل ألوانهم وغيرها من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية. فأي عراق يريده هذا الحزب الفاشي بعد إنسحاب القوات الدولية من العراق؟ هل هي عودة لإستخدام السلاح الكيمياوي ضد العراقيين وتصفية العراقيين وبالآلاف في مسالخ أقبية التعذيب؟. أما من يسير في ذيل هذا وذاك ممن كان يقف أمام أبواب سفارات صدام في الخارج ويتستر على جرائمه ويتغزل برسائله ومقالاته بالنظام السابق و”مآثره” وبحارث الضاري و”صولاته”، أو يدون المقالات بدون حرج مدحاً وثناءً لـ” مقاومة” قطع الماء والكهرباء والوقود عن العراقيين، فلا يمكن أن ينتظر أن ينتظر الحصول على موقع بين العراقيين ولا موقع قدم في العراق عند إنسحاب القوات الدولية منه. إن هؤلاء لا يقدمون حلولاً لمشاكل العراق، بل يسعون الى تصفية حسابات مع أحزابهم وتنفيذ أجندة أقليمية لحكومات مجاورة لا تريد للعراق الا الدمار وفشل التجربة الديمقراطية. وهذا ليس بالجديد فلنا في سلوك هذه الحكومات بعد ثورة تموز خير مثال.
أما رعاية الحكومة السورية المتكررة لمثل هذا العبث، وهي التي توقع الاتفاقية تلو الاتفاقية مع الحكومة العراقية ولا تنفذ بنودها، فله هدف آخر لا علاقة له بالعراق بقدر ما له علاقة بمشاكل الحكومة السورية الاقليمية والدولية. أن الحكم السوري يكرر نفس فشله في لبنان ثم الثأر لهذا الفشل، وبمسعى أن يصبح العراق “الملعب الرئيسي للحكم السوري” كي يلوح بهذه الورقة دولياً بعد أن أحترقت الورقة اللبنانية. أنه لأمر يثير العجب أن يتخلى الحكم في سوريا عن ملاعبه السورية الأصلية في “الجولان” و “الإسكندرون”، وهي مناطق سورية محتلة، لترسل “لاعبيه” و”إنتحاريه” لقتل العراقيين وتهديم العراق دون أن يوجه العراقيون أي أذى أو مس الى سورية الشقيقة ومصالحها. فلماذا؟ أنه السؤال الكبير: لماذا يوجه الحكم السوري كل ثقل “لاعبيه” الى الساحة العراقية، فيرسل قبل أيام 250 حزاماً ناسفاً لقتل العراقيين!! إنه سؤال لا يمكن أن يجيب عليه الا الشعب السوري، وعليه أيضاً أن يضع حداً لهذا التطرف والجفاء ضد العراق ولهذه التحالفات المشبوهة للحكم في سوريا سواء مع الارهابيين المحترفين أو مع محترفي العنف الديني من حكام إيران.
وما على الأطراف العراقية الوطنية المخلصة والحكومة العراقية ومجلس النواب والرئاسة الا الكف عن هذه الدبلوماسية الفاشلة القائمة على السكوت على من يرتكب القتل ويحيك الدسائس ضد العراق. وعلى هذه القوى أن تكون صوت الشعب الحق وأن تفضح هذه الأطراف قبل خراب البصرة.
adelmhaba@yahoo.co.uk