قد لا نستطيعُ أنْ نتحسَّس جمال الأشياء، في ذاتِها ولِذاتها، إلاّ عندما نتخلّقُ كثيراً في تجربة الحقيقة. ولكنْ هل يُمكن للحقيقة أنْ تتمثّل في تجربة، أمْ إنّ الحقيقة، تبقى على الدوام فكرة عائِمة وهائِمة في رِحاب الاحتمالات، وفي التخيّلات الذهنيّة، والأوهام الشعوريّة، والاعتقادات الدارجة؟
ربما وحدهم أولئكَ الذين يتخلّقونَ جديداً دائماً، في انشغالاتهم الفكريّة والتفكيريّة والإبداعيّة، يدركونَ تماماً، ماذا يعني أنْ تكون الحقيقة تجربة. تجربةٌ ذاتيّةٌ كاملةٌ وخالِصة، تتلخّصُ فيها توجّساتهم واختياراتهم ومعانيهم وتصوّراتهم. ويجدونَ أنّ الحقيقة، ليست سوى تجربة مكثّفة وعميقة من تجلّيات الذات، في أفكارها وممارساتها وتوجّساتها وشكوكها وآفاقها واشتهاءاتها المعرفيّة، وفي تماهيها الخلاّق مع تحوّلاتها، وفي توافقاتها الوميضة مع أنساقها في التغيير والتجديد..
وربما الحقيقيّون، يجدونَ في تجربة الحقيقة، تلكَ اللحظات التي تلهِمهُم دفقة الضّوء الساطعة. إنّها اللحظات الصانِعة لذلكَ التّوق الشهي، في الانسجام والتعالق الحميميّ مع تدفقات الأفكار الحرّة، والفلسفات الخلاّقة، والتأملات المضيئة. وتجربة الحقيقة، لا يُمكن لها أنْ تكون فاعلةً وحقيقيّة وناجزة وناطقة وملهمة، إلاّ حين تتجسّد بعمق في أفكارهم وفي فلسفاتهم وفي تأمّلاتهم. تلكَ الحقيقة التي تعني لحظة الخَلق الحرّ للفكرة أو للطريق أو للمعنى، وتعني تالياً معايشتها بِكلّ تلكَ المهارة الذاتيّة في ممارستها، وفي رعايتها بوعيٍّ وتبصّر، وتعني أيضاً، بِشكلٍ حقيقيّ، قدرتهم على نقدها أو تجاوزها، إلى لحظاتٍ أرحب وأعمق..
وثمة إثارة معرفيّة بالغة التشويق، في تجربة الحقيقة، تلك الإثارة التي عادةً ما نجدها خلف الأشياء، وما وراء الظواهر، وما بين الأفكار، وتحت الركام، وفي انسيابات الذاكرة. إنّها الإثارة المعرفيّة التي تتوهّجُ سطوعاً في مخاض الخَلق، خلق المعنى الذي ينسجم بفاعليّة مع وجود الذات على قيد التجربة والممارسة، ووجودها في غمار تلك الإثارات، خالِقةً للفكرة واللحظة والذاكرة..
أليس أمراً مثيراً، أن نتقصّد المعاني والأفكار في إثاراتٍ من التفكير والسؤال والدهشة والخيال، بعيداً عن التفسيرات التلقينيّة الساذجة، وبعيداً عن منطوقات المنقولات التراثيّة، وبعيداً عن قوالب الثقافات الأسمنتيّة الجامدة، وبعيداً عن منطق الافهامات اليقينيّة. أليست ثمة إثارة معرفيّة خلاّقة، في أنْ نبقى نتساءل عن حقيقة الإنسان، في كونهِ واهباً لوجوده، وفي كونه صانعاً لحاضرهِ ومستقبله، وفي كونهِ أيضاً متسائِلاً عن توجّساته وقلقه وأفكاره، وفي كونهِ لاهثاً خلف ما يروي ظمأه الفكري، وفي كونهِ مستنطقاً للغموض والخيال والمتاهات، وفي كونهِ باحثاً عن معنىً يمنح وجوده جوهر الحقيقة، وفي كونهِ أيضاً صارخاً ومحدّقاً ومفكّراً. أليسَ في كلّ ذلك ثمة إثارة خفيّة، قد تكون عصيّة على التفسير، ولكنها في مطلق الأحوال، صانعة للحظة الخَلق الحرّ للأفكار في تجربة الحقيقة، ودافعة للتساؤل الحرّ في خضمّ تدافع المعاني والمفاهيم. هذه الإثارة فعلٌ تفكيريٌّ مفعمٌ بِخلق اللحظات التساؤليّة والنقديّة، والتي تتجّذر عميقاً في التكوينات الجوهريّة لتجربة الحقيقة..
في تجربة الحقيقة، تسعى الذات الخالِقة للحظتها التفكيريّة والنقديّة، إلى تهشيم الوهم، وتحرير العقل من ترسّبات المفاهيم الاستلابية. لأنّها، أيّ الذات في تجربتها لحقيقتها الناطقة والملهمة مع الحياة والواقع والأفكار والتصوّرات والتوجّسات، تحدُّق هنا في الجانب الشاخص والواقعي من الأشياء. إنّها تتجاوز الوهم لِصالح الواقع. الواقع الذي تعرفُ كيف يكون
ناطقاً ومفعماً بِوعيّ اللحظة. الوعيُّ الذي يستدعي لحظته الطافحة بالذاكرة المعرفيّة، والمسكونة في الوقتِ ذاته بِقدرة الخَلق، خلق الواقع الذي ينتصر للعقل، والواقع الذي يستنير بِالفكرة والفهم والتحليل والسؤال، والواقع الذي يستجلي تجربة الحقيقة في تجلّيات لحظة الوعيّ ووعيُّ اللحظة..
في تجربة الحقيقة، ثمّة طريق، يتجذّر رسوخاً عند كلّ نقطةِ فهم، من حيث أنّ الفهم، محطّات فكريّة ونقديّة في تفكير الإنسان، تتراكم معرفيّاً، وترتحلُ بانسيابيّة خلاّقة من محطّةٍ إلى أخرى، عبر تلك اللحظات البارقة بِمتعة الاستدعاء الذاتيّ الحرّ للأفكار والتساؤلات والذاكرة الملهمة. والفهم في معناه الأشدُّ سطوعاً هنا، هوَ ذلكَ الوضوح الناصع في إعطاء الأشياء، معانيها المنسجمة مع تخلّقات الذات في تجربة الخَلق. فمثلاً لا تعني الحرّيّة، وغيرها من قيم الذات شيئاً، إذا كانت فارغة من المعنى الخاص الذي يستخلصه الإنسان، توافقاً عميقاً مع ثراء تجربته الفكريّة والتفكيريّة، ومع ما يستطيع أنْ يجدهُ فهماً حقيقيّاً، يرتكزُ عليه للانطلاق مجدَّداً في ذات الطريق ذاته. إنّه الطريق الذي لا يتوقّف عند نقطةٍ ما، بل يبقى مفتوحاً على تلك الآفاق الطليقة من الأفكار والاحتمالات والتخلّقات والابداعات. إنّه يسير حثيثاً نحو هدف الإنجاز، وليسَ الإنجاز في ثقافة تجربة الحقيقة، سوى نقطة الانطلاق مجدّداً في طريق اللانهاية..
والحقيقة قد تكون أشبه بتجربةٍ كاملة في معركة. معركة يخوضها ذلكَ الإنسان الشغوف، باكتشاف المعاني الملهمة لحياتهِ في توجّساته وتأمّلاته وتمرّداته وفلسفاته، حول كلّ ما يجدهُ متداخِلاً بعمق مع وجودهِ في تبصّراتهِ وتفكّراتهِ ووعيهِ وتجاربهِ. إنّها المعركة التي تنتصر فيها اللحظة الخالِقة لتجربتها الحقيقيّة مع تجلّيات الذات في رحابة الأفكار، وهيَ المعركة ذاتها التي تدور راحها في ميدان الفعل والعقل والفِكر والتفكّر، وليس في ميادين التهويمات العابثة والأوهام البائِسة. ففي هذه المعركة، يخسرُ الوهم دائماً، لأنّه ليسَ موجوداً من الأساس، وليسَ هناك معركة إلاّ في رأسهِ..
وقد لا تعني تجربة الحقيقة شيئاً، إذا لم تستطع أنْ تمنحَ الإنسان المتطلّع بممارستها واستنطاقها، جمال الإحساس بها، فالإحساس بِالحقيقة، هو جوهر التجربة ذاتها، وهو نبضها، وأساس وجودها على قيد التخلّق والإبداع. إنّه الإحساس الذي يوفّر في أعماقهِ، شغف التواصل، ومتعة التجلّي، وفلسفة التمرد، ووعيُّ المعنى، وألق اللحظة. وهو الإحساس ذاته الذي يُلهمهُ إدراك الواقع، ومذاق الخَلق، ومهارة الانعتاق، وتجاوز الخوف. وهذا الإحساس الذي يتملّكُ الإنسان عميقاً، يخلقهُ شعوراً، ويبعثهُ مستنطقاً وناقداً ومنتقداً، ويدفعهُ جديداً متجدّداً، لأنّه يضع الإنسان في مخاض الحركة. فالإحساس هنا في فيض تجلّياته حركةٌ لا تتوقف، إنّها الحركة التي تجعلُ كلّ الأشياء، في أعماق الفرد وفي عقلهِ وفي شعوره وفي تساؤلاتهِ وانشغالاتهِ، وفي معرفياتهِ. تدور في حركةٍ تفاعليّة مع إلهامات العقل والشعور والفِكر، وتدور في تجلّياتٍ مفعمة بالقبض والبسط، بالاستحواذ والتخلّي، بالامتلاك والتجاوز، بالتجميع والتفكيك، بالأخذ والعطاء، بالجنون والتعقّل، بالسرعةِ والتمهّل، بالصّخب والهدوء، بالموت والحياة، بالنقص والكمال..
وأنْ تعيش الحقيقة في تجربة، لا يعني سوى أنْ تكونَ عارياً من أيّة حقيقة، وحرّاً تماماً في حقيقتك العارية. العارية من أثقال الافهامات السائدة، ومن أسمال اليقينيّات الاستلابيّة. إنّكَ هنا تملكُ من رحابة الحرّيّة، ما يجعلكَ واثقاً من حقيقة تجربتك مع الحقيقة، إنّك حرٌّ هنا في أنْ تكون حقيقتك، هيَ تجربتك، وأنْ تكونَ ذاتكَ، هي ذات تجربتك. ليست الحرّيّة فقط أنْ تملكَ يقين التخلّي عن كلّ ما يُشوّه حقيقتك العارية، إنّما الحرّيّة هنا، أنْ تملكَ قدرة الاستدعاء الحرّ، لبدائِلكَ الحرّة في الأفكار والتجارب والتصوّرات والمفاهيم والفلسفات. وأنْ تملك وعيّ يقينكَ في تجربةٍ مع حقيقتكَ العارية، يعني أنّكَ في مخاضكَ هذا، أنتَ توجد حرّيتكَ، وتمنحها جوهر التجربة، وأصل الحقيقة، وجمال الممارسة، ومهارة التمرين، وصلابة الاستمرار، وغزارة التواصل الحميميّ. ولذلك، فالحقيقيّون، لا يتوارونَ خلف الأقنعة والظلام والخرائِب والشعارات والتعاليم والقداسات، إنّهم يأتونَ في عين الشمس، يسطعونَ بِحقيقتهم العارية من المذهبيّات والتحيّزات والأدلجات، والعارية من التفسيرات الماضويّة السقيمة والتراثيّات النّصّية..
وفي كلّ تجربةٍ مع الحقيقة، أنتَ تعودُ من جديد إلى نقطة اللاشيء، ولا بدَّ من العودة دائماً إلى اللاشيء، وكم ترى في أعماقكَ أنّ هذه العودة ضروريّة في كلّ مرّة، لأنها تمنحكَ القدرة على ألاّ تستبدُّ بكَ أيّة فكرة أو أيّة حقيقة، خلتها في وقتٍ ما حقيقة مطلقة، أو وجدتها حقيقتكَ الثّابتة. واللاشيء هنا، يعني أنّكَ تدركُ حقيقة حرّيتك، وتدركها جيّداً في تجربتكَ مع الحقيقة، من حيث إنّها وعيُكَ المتجدّد في تخلّقاتك الفكريّة والتفكيريّة والتساؤليّة، وهوَ وعيُكَ الذي لا يحبسكَ في ترهّلات اليقين، أو في تكلّسات الأفكار الجامدة. إنّه يدفعكَ دائماً إلى أنْ تملكَ القدرة، على العودة حرّاً وواعياً ومُدركاً إلى اللاشيء. وأنْ تعود إلى اللاشيء في كلّ مرةٍ، يعني أنّكَ في كلّ تجربةٍ مع الحقيقة، تستطيعُ أن تكون جديداً، ومتجدّداً، ومتخفّفاً من أثقال الحمولات والاكراهات الاستلابيّة المستبدّة. واللاشيء هنا لا يلغي رصيد الإنسان هذا، من تراكماته المعرفيّة، ولا يلغي خبراته الشعوريّة والذهنيّة في تجاربه الدائمة. بل تمنحهُ نقطة اللاشيء من جديد، رصيداً جديداً من الحرّية الوافرة، في اختياراته الحرّة والواعية لها، وتمنحه عميقاً وعيُّ الحرّيّة، في الأخذ والترك، وفي النقد والمراجعة، وفي البحث والتداول، وفي التفكير والتساؤل..
كاتب كويتي
Tloo1996@hotmail.com