منذ انفتاح الولايات المتحدة على الصين في عهد رئيسها الأسبق ريتشارد نيكسون، وتأسيس البلدين لعلاقات دبلوماسية كاملة، وما تلا ذلك من تقليص واشنطون لروابطها مع تايوان، واحتلال بكين لمقعد الصين الدائم في مجلس الامن بدلا من تايبيه، وتتابع دول العالم على سحب اعترافها من تايبيه لصالح بكين إلى حد أن الأولى لم تعد لها روابط دبلوماسية إلا مع حفنة صغيرة من دول أمريكا الوسطى أو ما اصطلح على تسميتها بجمهوريات الموز.. مذاك وتايوان تعيش في عزلة دبلوماسية، بل إن هذه العزلة راحت تصاحبها تدريجيا عزلة تجارية واقتصادية كنتيجة لبروز الصين كقوة اقتصادية عالمية مؤثرة ذات حضور قوي في الأسواق بمنتجاتها المتنوعة.
وهكذا مضى زمن كانت فيه تايوان صوتا مؤثرا في شؤون العالم من خلال مجلس الأمن، وقوة ذات شأن في أسواق المال والأعمال بفضل اقتصادها الرأسمالي الحر الجاذب للاستثمارات الأجنبية، وجيوشها من العلماء والمبتكرين والصناعيين، ووجهة مرغوبة لاستيراد آخر المبتكرات التكنولوجية بأسعار تنافسية.
وقد بذل قادة تايوان شتى المحاولات، وسلكوا مختلف الدروب، علهم ينجحون بشكل من الاشكال في العودة الى الساحة الدولية سياسيا واقتصاديا، غير انهم لم يوفقوا في معظم الأحايين، فاكتفوا بما هم عليه من رخاء وازدهار تم تحقيقه في الستينات والسبعينات يوم أن كانت بلادهم قبلة المستثمرين الآسيويين والامريكيين.
اليوم يتجدد الأمل لدي التايوانيين لجهة احتمال استعادتهم لوهج مضى ومكانة تضعضعت، خصوصا بعد أن أقدم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب على ما لم يقدم عليه أحد من اسلافه منذ الرئيس الاسبق جيرالد فورد. والاشارة هنا هي الى الاتصال الهاتفي القصير بين ترامب ونظيرته التايوانية «تساي اينغ وين» بعيد فوز الأول في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المنصرم. ذلك الاتصال الذي جن معها جنون بكين وعدّها قادتها خرقا لأحد مبادئ الدبلوماسية الأمريكية منذ 40 عاما (منذ اعتراف واشنطون بالنظام الشيوعي في بكين في 1979 وسحب اعترافها تلقائيا من تايبيه، جرى العرف على ألا يجري أي رئيس أمريكي في السلطة أو رئيس أمريكي منتخب اتصالات بزعماء تايوان) تجنبا لإغضاب الصين، وتأكيدا على قبول الولايات المتحدة بـمبدأ الصين الواحدة الذي ينطوي على اعتبار تايوان إقليما صينيا مارقا يجب استعادته بالقوة إنْ لزم الأمر.
وقد تجلى غضب بكين من تصرف ترامب في مقالات وتعليقات عديدة نشرتها الصحف الصينية مثل صحيفة «غلوبال تايمز» التي وصفت ترامب بـ«جاهل في الدبلوماسية تماما كطفل صغير»، وحذرت من أنه إذا دعمت واشنطون استقلال تايوان وزادت مبيعات الاسلحة للجزيرة، فإن الصين قد تقدم الدعم المعنوي او العسكري لقوى معادية للولايات الامريكية.
ولعل ما زاد من فرح التايوانيين، وأغضب الصينيين في المقابل أن ترامب رد على الانتقادات الصينية الموجهة إليه بتصريح هدد فيه باحتمال استئناف علاقات بلاده المقطوعة مع تايبيه، ناهيك عن قوله:«لا يمكن لأمة أخرى أن تقول لي يجب ألا أرد على اتصال هاتفي». ثم قوله:«ليس علينا أن نتقيد بسياسات الصين الواحدة إلا في حال ابرامنا اتفاقا مع الصين في قضايا أخرى». وأخيرا السماح للرئيسة التايوانية التوقف في ولاية تكساس الأمريكية وهي في طريقها إلى أمريكا الوسطى لحضور حفل تنصيب الرئيس النيكاراغوي الجديد، على الرغم من تهديدات ووعيد القادة الصينيين.
والتايوانيون، بطبيعة الحال، خير من يعرف أن إبرام اتفاق أمريكي ـــ صيني حول القضايا الأخرى التي وردت على لسان ترامب، وعلى رأسها التبادل التجاري والسياسات الحمائية وملف الشركات الامريكية المهاجرة إلى الصين لن تكون عملية سهلة في ظل إدارة الرئيس الامريكي الجديد المعروف عنه خبرته الطويلة في مفاوضات المال والأعمال وصفقاتها. كما أن ترامب لن يكون ذلك القائد المتردد (كسلفه أوباما) فيما يتعلق بالطموحات العسكرية الصينية في المحيطين الهندي والهادئ، والتي ظهرت تجلياتها مؤخرا في عرض البحرية الصينية لعضلاتها في بحر الصين الجنوبي من خلال تسييرها لحاملة الطائرات «لياوننغ» وقيامها باختبار مقاتلاتها الجديدة من نوع «FC 31». فالرئيس الامريكي المنتخب التزم أمام شعبه أن يعيد لأمريكا صورتها كقوة عظمى فعلية بعدما سلبها أوباما تلك الصورة بسياساته غير الحاسمة، وبالتالي فالمتوقع منه ألا يصمت إزاء بكين على نحو ما فعله أوباما إزاء موسكو. كما ينتظر منه أن يثير موضوع تلكؤ بكين في عزل نظام بيونغيانغ عن العالم.
على أنّ هناك من المحللين من يرى أنّ على تايبيه ألا ترقص فرحا، وأنْ تدرك أنّ ترامب يعرف أنّ مسألة تايوان ذات حساسية بالغة للصين، وبالتالي فهو ربما يستخدمها كورقة تفاوض على أمل الحصول على تنازلات من بكين في القضايا التجارية والعسكرية، بل أن ترامب صرح بشيء من ذلك بنفسه في مقابلة له مع شبكة «فوكس نيوز» الأخبارية بتاريخ 11 ديسمبر المنصرم. وهناك من يحذر تايوان من المراهنة على تصريحات ترامب لجهة كسر عزلتها، موضحا أن ترامب لا يزال شخصية غامضة، مندفعة، تطلق الكلام الفضفاض المقرون بأسلوب مسرحي. غير أن ثعلب الدبلوماسية الامريكية العتيد «هنري كيسنغر» يجد في غموض سياسات ترامب حيال العديد من الملفات الدولية والاقليمية فائدة كبيرة وفرصة عظيمة للولايات المتحدة كي تستعيد نفوذها وتمسك زمام المبادرة، وذلك طبقا لما ذكره في مقابلة له مع شبكة CBS الاخبارية. وربما أراد كيسنغر بكلامه هذا أن يقول: «إن الغموض مطلوب لتشتيت انتباه الخصم وجعله يضرب الأخماس في الأسداس إزاء ما أنت مقبل عليه».
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين.
aaaelmadani@gmail.com