تفجر مؤخرا صراع عسكري بين تايلاند وكمبوديا، الدولتان الجارتان والعضوان في رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان)، على إثر تبادل جيشيهما إطلاق النار عبر حدودهما المشتركة البالغ طولها نحو 800 كيلومترا، ثم توسع اشتباكاتهما وامتدت إلى سواحل البلدين البحرية المطلة على خليج تايلاند (على بعد نحو 250 كيلومترا جنوب غرب خطوط المواجهة الرئيسية)، وسط مخاوف إقليمية ودولية من قيام حرب شاملة بينهما. وتفاديا لذلك أقدمت الولايات المتحدة في شخص رئيسها دونالد ترامب على التدخل عبر إتصاله بقيادة البلدين وحثهما على وقف إطلاق النار والبدء في حوار ثنائي لمعالجة الخلافات التي أدت إلى المواجهة العسكرية.
ويبدو أن الأمور، وقت كتابة هذا المقال، تتجه نحو التهدئة من خلال مفاوضات ثنائية في ماليزيا، خصوصا بعد أن أعربت الخارجية التايلاندية عن موافقة بانكوك “من حيث المبدأ” على إجراء محادثات سلام مع فنوم بنه، مضيفة: “تود تايلاند أن ترى نية صادقة من الجانب الكمبودي“. وكانت كمبوديا، وهي الجانب الأضعف في الصراع من الناحية العسكرية، قد طالبت على لسان مندوبها في الأمم المتحدة خلال جلسة مغلقة لمجلس الأمن بوقف فوري لإطلاق النار ــ دون شرط ــ والشروع في مفاوضات ثنائية لحل الخلافات سلميا. حدث ذلم فيما استمر الطرفان في تبادل الإتهامات، وإلقاء كل طرف اللوم على الطرف الآخر في بدء الاشتباكات وتوسيع نطاقها والتسبب في قتل المدنيين وتهجيرهم (أجبر النزاع أكثر من 138 ألف شخص على النزوح من المناطق الحدودية في تايلاند، وأكثر من 35 ألف شخص في كمبوديا).
والحقيقة أن كلا الجانبين في حاجة إلى انهاء الصراع بوسائل سلمية، بدلا من التصعيد، خصوصا وأن تايلاند تشهد أزمة سياسية في الوقت الراهن، ويديرها رئيس وزراء موقت، بعد أن قضت محكمتها الدستورية بايقاف رئيسة الحكومة الأصيلة “باتونغتارن شيناواترا” عن العمل على خلفية انتهاكات تتعلق بالنزاع التايلاندي ـ الكمبودي الراهن. اما الجانب الكمبودي فهو الآخر ليس من مصلحته التصعيد، ليس فقط بسبب تواضع قدراته العسكرية مقارنة بالتفوق العسكري التايلاندي الهائل سواء لجهة العديد أو التدريب أو لجهة الأسلحة الأمريكية المتطورة (كمبوديا مثلا لا تملك سوى بضع مروحيات في سلاحها الجوي بينما تمتلك تايلايد الكثير من مقاتلات إف 16 الحديثة)، وإنما أيضا بسبب مشاكله الإقتصادية المزمنة، ولاسيما بعد رفع الرسوم الجمركية على صادراته إلى الأسواق الأمريكية بنسبة 49 بالمائة.
البعض من غير المطلعين على تاريخ البلدين يستغرب من انفجار الصراع بينهما فجأة، ويتساءل عن خلفياته. إنّ ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الصراع الجاري اليوم ليس الأول من نوعه. وأن له جذورا تاريخية تعود إلى حقبة الإستعمار الفرنسي لكمبوديا، حيث رسم المستعمر الفرنسي الحدود الفاصلة بين البلدين في عام 1907 بشكل سريع وغير واضح فجعل معابد تاريخية (مثل بريا فيهير) وأراض تحيط بها تتبع كمبوديا، رغم علمه بمطالبة التايلانديين بهما. ومُذاك بدأت الخلافات بين الجارتين، وإنْ مرت فترات طويلة لم نشهد فيها تصعيدا بسبب انشغال كمبوديا بصراعات وحروب أهلية ذات أبعاد خارجية من جهة، وانشغال تايلاند بأوضاعها السياسية غير المستقرة.
الإشتباك الأول بين قوات البلدين، على خلفية هذه القضية، حدث في عام 1962، ووقتها سارع الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، البورمي يو ثانت، باستخدام صلاحاته، واعتمد على آلية “المساعي الحميدة” (Good Offices) لإيفاد مبعوث شخصي من قبله بهدف دراسة الأوضاع الحدودية وتقديم تقرير حولها، وجاء التقرير في صالح كمبوديا التي كان يتزعمها وقتذاك الأمير نوردوم سيهانوك، بل تمّ تأييد القرار من قبل محكمة العدل الدولية.
تلت ذلك، وتحديدا في عامي 2011 و 2013، مناوشات عنيفة بين البلدين حول القضية نفسها، فتم عرضها على محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة التي أكدت مرة أخرى أن ملكية المعبد والأراضي المتنازع عليها تعود لكمبوديا، بينما رفضت الحكومة التايلاندية القرار قائلة أنها لا تعترف باختصاص المحكمة الدولية وأنه يجب التوصل إلى حل من خلال المفاوضات الثنائية. وفي شهر مايو المنصرم من العام الجاري اشتبكت قوات البلدين عبر الحدود في منطقة “المثلث الزمردي” المتميزة بالأحراش والغابات ومزارع المطاط، حيث تتقاطع حدود تايلاند وكمبوديا مع حدود لاوس، وسط إدعاء كل طرف بانتهاك سيادة الطرف الآخر.
ولا نبالغ لو قلنا أن ما زاد الأزمة اشتعالا هو وقوف البلدين على طرفي نقيض لجهة سياساتهما الخارجية ماضيا وحاضرا. فمملكة تايلاند هي حليف تاريخي للغرب في منطقة جنوب شرق آسيا ولعبت أدوارا مساندة لحروب واشنطن في فيتنام وتدخلاتها في الهند الصينية زمن الحرب الباردة، أما كمبوديا فقد كانت تاريخيا على النقيض من ذلك، ثم صارت ضمن حلفاء الصين الشيوعية بعد أن فقدت حيادها في الستينات. وهي الآن تحتفظ بعلاقات دافئة مع بكين، بل متهمة بأنها صوت الصين داخل أروقة تكتل آسيان.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
