في الحقل الثقافي، يتحدث بعض الباحثين والكتاب عن خصوصية ثقافية تقسّم بين (السلطة) و(المعارضة). فما مدى صحة هذا الطرح في تاريخنا الإسلامي تحديداً؟
بدءاً، لا نستطيع الحديث عن خصوصية ثقافية تقسم بين السلطة والمعارضة. ولا يجوز المقايسة هنا بين السلطة في العصر الإسلامي وسلطاتنا الراهنة. ففي الحضارات الشرقية قامت الدولة بالدور الأكبر في بناء الحضارة بحكم مركزيتها الصارمة وهيمنتها على النشاط الاقتصادي. وفي أوقات النمو الحضاري كانت الدولة هي القائد لهذه السيرورة. وفيما يخص الدولة الإسلامية لم تتوزع الأدوار بينها وبين المعارضة، بل تكاملت، ولكن خلال تعقيدات أوجيزها بالآتي:
لقد وجدت ثقافة سلطة وثقافة معارضة، كما وجدت ثقافة رعتها السلطة، ولم تكن ثقافة سلطة.
ثقافة السلطة هي الأدب، نثراً وشعراً. فالنثر الفني عاش في دواوين الدولة وكان الكتّاب الكبار من عبد الحميد الكاتب إلى عبد الله بن المقفع إلى أبي عثمان الجاحظ والصابئيين وأبو حيان التوحيدي يعيشون من الدولة ويكتبون لها كما يكتبون لأنفسهم، لكنهم كانوا بوجه عام أفضل حالاً من الشعراء، لأنهم تمتعوا بهامش استقلال نجده واضحاً في كتابات ابن المقفع والجاحظ وغيرهما.
كذلك ازدهر أدب مستقل عن الدولة ولكن غير معارض، وهو أدب المقامات الذي بلغ تطوره العالي عند أبي محمد القاسم الحريري وبديع الزمان الهمذاني.
أما الشعر، فكان الألصق بالسلطة، ومجمل ديوان الشعر العربي بعد الجاهلية وصدر الإسلام مكرَّس للارتزاق. ولا يعني ذلك انعدام عنصر الإبداع الذي يتوزع بين الدولة والمعارضة في ظروف الازدهار الثقافي. فنجد الحاكم المثقف إلى جانب المعارض المثقف. والحاكم المثقف لا يرعى الأدب الهزيل ولا يكافئ عليه.
ومن حكاياتهم الظريفة في هذا المجال أن شاعراً مدح الأمير العباسي عبد الله بن طاهر بقصيدة ركيكة فردّ عليه الأمير بأبيات مدحه فيها، فقال له الشاعر:
أيها الأمير الشعر بالشعر ربا فاجعل بينهما رضخاً.
فصفّق الأمير لهذا الكلام وأمر بإعطائه ألف درهم وقال له هذه لقولك لا لشعرك.
أما الثقافة التي رعتها السلطة ولم تكن ثقافة سلطة فهي الفلسفة وعلم الكلام، وقد اشتغل فلاسفة الإسلام كلهم تقريباً في رعاية الدولة التي ضمنت لهم الحماية ضد رجال الدين والغوغاء الدينية وبدون ذلك كان يتعذر عليهم إنتاج أي شيء.
لكن الفلاسفة لم يضعوا ثقافتهم الفلسفية في خدمة السلطات لقاء حمايتها لهم. والفكر الفلسفي الذي أنتجوه لم يكن يعني شيئاً للدولة كمؤسسة سياسية وإن كان يعنيها بوصفها مركزاً لتنظيم سيرورة الحضارة. هذه إذاً ثقافة رعتها السلطة ولم تكن ثقافة سلطة.
هنا مثلاً يمكن التفريق بين الكندي وأبو تمام. فأبو تمام مرتزق يكتب للدولة ما تطلبه منه – دع عنك إبداعه- والكندي يكتب ما يملي عليه عقله الفلسفي كتابة يستعصي أكثرها على فهم الخليفة الذي يرعاه. ولو أراد الخليفة من الكندي أن يكتب بحثاً في جواز القتل الكيفي الذي كان يمارسه الخليفة، لإمتنع بالتأكيد. ويعرف الخلفاء والسلاطين ذلك من الفلاسفة فلا يطلبون منهم ما يطلبون من الشعراء.
إن ثقافة المعارضة – كمصدر من جهة ومضمون من جهة أخرى- هي النمط السائد في الثقافة الإسلامية، يتمثلها في القرن الأول ونصفه الثاني كل من الفقه وعلم الكلام. وفي القرون اللاحقة بعض الفقه وبعض علم الكلام والتصوف “القطباني” في جملته الساحقة مع ثقافة الأفراد الذين لا ينتمون إلى مدرسة محددة كأبي العلاء المعري.
ويدخل في ثقافة المعارضة، ثقافة الفِرق المعارضة، وهم بوجه عام الخوارج والشيعة بتفرعاتها المختلفة والحركات المعارضة التي لا تنتمي إلى أي فِرقة كحركة الخرمية والزنج.
لكن ثقافة الفِرق المعارضة تتحول إلى ثقافة سلطة عندما تصل الفرقة إلى الحكم، وهذا هو حال الزيدية في اليمن والإسماعيلية في المغرب ومصر حيث أقيمت الدولة الفاطمية. أما القرامطة، فكان لها فكرها عندما كانت تعمل ضمن الخط الإسماعيلي، ثم توقفت عن ذلك عندما قامت دولتها في شرقي شبه الجزيرة العربية.
المهم أن ثقافة الفِرقة المعارضة تصبح ثقافة سلطة مع وصولها إلى الحكم. وقد حدث ذلك في عصرنا الحاضر عندما نجحت بعض الأحزاب الشيوعية في الوصول إلى السلطة واتخذت من الماركسية عقيدة رسمية.
وتفقد ثقافة المعارضة عندما تصبح ثقافة سلطة كثيراً من تمايزاتها كمنحى تفكير حر، وتتقيّد بالقوالب والنصوص المؤدلجة بطريقة إيمانية مفروضة بقوة القرار المركزي للسلطة. والإيمان قد يكون ذاتياً عند المعارضة لكنه يتحول إلى إلزام في مرحلة الدولة.
ayemh@yahoo.com
* باحث وكاتب كويتي
تاريخياً: ثقافة السلطة هي الأدب
مقال رائع وطرح غني كنت أتمنى أن يكون هناك إطالة أكثر لتميز مادة المقالة ، وأتساءل كيف يمكنني أن أستزيد من هذا الموضوع ، مع شكري وتقديري