إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
ترجمة: فاخر السلطان
إذا كانت علاقتك مع الله قائمة على الوهم، فإن مختلف علاقاتك (في الحياة) ستكون قائمة على الوهم. إن علاقتك مع الله هي التي تحدّد نوع علاقتك مع الآخرين. لذا لا بد لكل شخص يتبنّى هذا النوع من العلاقة، أن يقطعها، أن يزيل آثارها الذهنية والنفسية، أن یتخلّص من مختلف أنواع الخُرافات والأوهام والأخطاء والخيالات الباطلة التي أوجدَتها، إذ يمكن لهذه العلاقة أن تتسبّب في تشویه رؤيته عن نفسه وعن الإنسان بشكل عام وعن الطبيعة، ومن ثم فإن حياته ستصبح مجرد وَهم.
من هذا المنطلق فإن أساس وجود الله أو عدم وجوده، أو أن الله موجود شخصاني أو غير شخصاني، أو يتّصف بصفات إنسانية أو غير إنسانية، أو لديه صفات معينة أو ليست لديه صفات معينة، إن كان موقفنا من هذه الأمور المهمة يستند إلى ما يقوله آباؤنا وأجدادنا وأسلافنا، أو يستند إلى التصوّرات التي ورثناها وجاءت إلينا عن طريق الثقافات والسِنن القديمة، أو يستند إلى ما تقوله بيئة الأفكار العامة في المجتمع، فذلك يعتبر خطأ كبيرا.
قد يقول أحدهم بأنه سيتخذ موقفا إزاء الله من زاوية مختلفة. أي أنه بدلا من التفكير في سؤال هل الله موجود أو غير موجود، خاصة وأن العقل البشري والمعرفة البشرية لا يمكن أن يحصلا على إجابة قاطعة على هذا السؤال في ظل وجود الكثير من الشكوك والشُبُهات في هذا الطريق، بدلا من التفكير في هذا السؤال، يمكن التفكير في سؤال آخر وهو: هل من الممكن تنظيم الحياة بصورة مغايرة؟ وبعبارة أخرى، هل نستطيع القول بأنه إذا كان الله موجودا فإن ذلك لا يمثّل ضررا على الإنسان، وإذا لم يكن موجودا فإن ذلك أيضا لا يمثّل ضررا على الإنسان؟ فالفكرة هنا هي التأكيد على بناء حياة إصلاحية بصورة محتاطة.
إن هذا النوع من التفكير نلاحظه عند سقراط وكذلك عند برتراند راسل، وحتى عند بعض العرفاء مثل الشمس التبريزي والعطّار النيشابوري، حيث يتفق مضمون ما يقوله هؤلاء على ضرورة عدم عرقلة الحياة بسبب التفكير في وجود أو عدم وجود الله. بمعنى أن الإنسان يستطيع العيش في الحياة بحيث أنه لو كان الله موجودا فإنّ كل شيء سيكون على ما يرام وإنْ لم يكن موجودا فإنّ كل شيء سيكون أيضا على ما يرام. باعتقادي أن هذا الاستنتاج من الناحية النظرية يُمكن اعتباره أقوى استنتاج وأقوى خطاب يمكن أن يُوجَّه للبشرية، لكن من الناحية العملية فمن الصعوبة بمكان القبول به. فمن الناحية النظرية يقول هذا الإستنتاج للإنسان إن السرّ يبقى سرّا إلى آخر العمر، فلا تعتمد في حياتك على جانب من جوانب السر، لأنه بالإمكان أن يكون جانب آخر صادقا. فالله هو سرّ، والحياة بعد الموت سرّ، والقضاء والقَدَر سر، فلا تبني حياتك على وجود أو عدم وجود الله، أو على وجود أو عدم وجود الحياة بعد الموت، أو على وجود أو عدم وجود القضاء والقَدَر.
لكن من الناحية العملية، كيف يمكن للحياة أن تبدو وأن تكون بحيث لا تحتوي على أية خسائر وأضرار؟
إذا استطاع الإنسان أن يعيش في هذه الحياة دون أن يتعرض لخسائر وأضرار، أو أن تكون حياته كلها نافعة ومفيدة، فهذا يعكس إنجازا فكريا عظيما، ولا أعتقد أن هناك من استطاع أن يحقق ذلك حتى الآن. لذا، إذا استطاع العلماء والفلاسفة والمفكّرون أن يبتكروا مشروعا للحياة لا ينبني على الأسرار، وأن يبرهنوا بأن الإلتزام بهذا المشروع من الناحية النظرية والعملية سيبعد الإنسان عن الأضرار والخسائر في الحياة، فإنهم بذلك يحققون إنجازا عظيما. وأنا أعتقد بأن البشرية ستتجه يوما نحو المسار الذي لا يربط حياة البشر بالأسرار، وأنها ستقتنع بأن السرّ يبقى سرّا، وأن العقل البشري لا يملك تفسيرا قاطعا للأسرار، وأن البشرية تحمّلت الكثير من الأضرار والخسائر في هذا الطريق ولابد من وضع حد لذلك.
أغلب صور الظلم التي جرت عبر التاريخ ارتكبها أفراد كانوا ينتمون لأحد أطراف هذا النهج، نهج الأسرار، ولم يستطيعوا أن يعيشوا بطريقة يحققون من خلالها التعايش للجميع. لذلك، من الضروري هنا، إمّا أن نعيد التفكير في تصوراتنا حول الله، لكي نعالج تصوراتنا حول أنفسنا وتجاه الآخرين وتجاه الطبيعة، ونسمي ذلك بالمشروع الأول. أو أن نقوم ببناء نموذج للحياة لا يتأثر بوجود أو عدم وجود الله ولا بوجود أو عدم وجود الحياة بعد الموت ولا بوجود أو عدم وجود القضاء والقَدَر ولا بوجود أو عدم وجود أي سرّ آخر، ونسمي ذلك بالمشروع الثاني. لكننا في واقع الأمر لا نريد أن نفكّر في المشروع الأول، والذي يحتاج إلى تفكير عقلاني، ولا نبحث عن المشروع الثاني. لذلك، نجد مجموعة من الناس تقول بأن الله موجود (دون أي بحث علمي وعقلاني) فتغرق حياة الناس في المشاكل والصراعات، فيما تقول مجموعة أخرى بأن الله غير موجود (دون بحث علمي وعقلاني) فتمارس نفس دور المجموعة الأولى.
وسأركز الآن على المشروع الأول. أي الحياة القائمة على نهج الأسرار. فالإعتراف بأن هناك أسراراً في الحياة من شأنه أن یتوافق مع مساعي الوصول إلى الحقيقة، وكذلك يتوافق مع مساعي تحقيق المصلحة. وهذا الإعتراف هو بمعنى عدم القدرة على إثباته عقليا. فبشأن ادّعاء وجود الله، لا يوجد ما يمكن أن يثبت ذلك ولا يوجد ما يمكن أن ينفي ذلك. فرغم كل ما طُرح حول الإثبات، يمكن أيضا أن يُطرح حول النفي. وينطبق ذلك على الأسرار الأخرى كالحياة بعد الموت والقضاء والقَدَر. فإذا كنّا، من الناحية النظرية، نبحث عن الحقيقة، فإن نتيجة البحث مفهومة. وإذا أردنا تحقيق مصلحتنا فيما يتعلق بهذا الأمر فإن مصلحتنا لا محال ستكون واضحة.
أما إذا لم نعترف بالأسرار باعتبارها أسراراً، فسنكون كما قال ذلك الفيلسوف: الفرق بين العقلانية والحماقة، هو أن العقلانية لها حدّ أما الحماقة فليس لها حدّ. وعبارة أن العقل له حدّ هو بمعنى أنه حينما يواجه الشخص سرّا من الأسرار سيقف ويقول بأنه لم يفهم. أما الحماقة فهي أن يقبل الشخص، الأحمق، كل شيء دون بحث علمي وعقلاني، ولا حد له في القبول أو الرفض. فالأحمق لا يتوقف أمام السر ليفهم ويعي من أجل أن يقبل أو يرفض هذا السر، بينما العاقل يتوقف ويطلب الدليل ليقبل به أو سوف يقول لا أدري.
برتراند راسل في آخر لقاء صحفي في حياته، كان يريد أن يقول شيئا واحدا، وهو أن الإنسان لن يخسر شيئا سواء كان الله موجودا أو غير موجود. فقد كان عمره ٩٩ عاما عندما أجرى هذا اللقاء. وحينما سألته الصحفية: هل تعتقد بأنك في آخر أيام حياتك؟
قال: نعم.
فسألته: إنك تقول بأن الله غير موجود وأنه لا وجود لحياة بعد الموت، فإذا مُتَّ غدا واكتشفت وجود الله ووجود حياة بعد الموت، حينها ماذا ستفعل؟
فأجاب راسل: هل الله الذي تعتقدين به عادل أم غير عادل.
فقالت الصحفية: بالطبع هو عادل.
فقال راسل: إذاً، لا مشكلة في الأمر. فإذا كان الله عادلا سأقول له الآتي: إمّا كان عليك أن تقوّي الأدلة التي تثبت وجودك والتي كان يطرحُها الفلاسفة عبر التاريخ ويمكن من خلالها إقناع الجميع بوجودك بحيث لا مجال أمامهم لرفض تلك الأدلة، أو أنه كان عليك أن تجعل عقلي أكثر قدرة على الفهم والاقتناع. فلا الأدلة كانت مقنعة ولا عقلي كان سريع الاقتناع. لذا ليس ذنبي في أنني لم أقتنع بوجودك ولا بوجود حياة بعد الموت، لأن الأدلة التي كان يطرحها المدافعون عن وجود الله وعن وجود حياة بعد الموت لم تكن مقنعة، كما أن عقلي لم يكن سريع الاقتناع.
ماذا نفهم من كلام راسل؟ يريد راسل القول بأنه لم يقرّر منذ البداية عدم وجود الله، وإنما الأدلة على وجوده لم تقنعه. فهو يريد أن يقول لنا بأنه كان صادقا وجادّا في مواجهة هذه الأدلة والتي أوصلته إلى النتيجة التالية التي تقول بأنه لن يخسر شيئا سواء كان الله موجودا أو غير موجود. فإذا كان الله عادلا، يجب أن يتفهّم كيف أن راسل لم يقتنع بأدلة وجوده، حيث بحث في هذا الأمر بصدق وبجدّية تامة، لذلك لن تكون الخسارة هي النتيجة النهائية لهذا الصدق ولهذه الجدّية، لأن الحياة لابد أن تستند إلى الصدق والجدّية.
في القرآن، تقول الآية ٦٩ من سورة العنكبوت “والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلِنا”. وهنا نجد إشارة إلى الجدّية “جاهدوا”، وإلى الصدق “فينا”، كما لم تقل الآية لنهدينّهم سبيلنا بل لنهدينّهم سبلنا، والسبل إشارة إلى وجود عدة طرق لا طريق واحد، بمعنى أنه لم تفرض الآية طريقا واحدا للوصول إلى الحقيقة.
*هذا الموضوع هو جزء من محاضرة ألقاها الفيلسوف الإيراني مصطفى ملكيان مؤخرا، ولم يتوفر كامل المحاضرة حتى الآن…