«يسوع احترس ـ بطاقتك؟ ـ طائفتك؟ ـ أنا على دين كمال ناصر ووليم نصار وتيريز هلسا… (ألا ترى إلى أنفه الأفطس؟ إنه غزاوي في ذراعه سلة من عنب الخليل… ويحب الكنافة النابلسية وتين بيت جالا). وحكى لهم عن ذكرياته في قانا الجليل والآسيين والناصرة.. وعن القرويين الجنوبيين على أرصفة ميناء حيفا.. وعن الكنعانية المريضة في صيدا… التي شفاها إيمانها… أين كنت تقاتل؟ ـ كنت أنظف الحجارة في بيت لحم وأضمد الجراح في جباليا والجلزون ـ لن ينفعك.. ما نوع السلاح الذي كنت تحمله؟ ـ كنت أحمل قصفة زيتون من بستان يوحنا المعمدان وأروي غراس الليمون الفتية في بيارات يافا ـ من كلامك يبدو أنك…! ـ لا.. لا.. ولكن أن يدخل الجمل في سمِّ الخياط أهون من أن يدخل من يتاجر بي ملكوت الله».
هاني فحص «أوراق من دفتر الولد العاملي» 1975
*
من بدايات الوثيقة يبدأ السؤال المفتاح حيث نقرأ.. «داعين إياهم (أي المسيحيين) إلى إعادة النظر في أي لاهوت يبرر الجرائم المرتكبة ضد شعبنا» هذا اعتراف بأن هناك لاهوتاً، أي فهماً من قبل مؤمنين بدين سماوي لهذا الدين على أنه يبرر الجرائم… ضد شعب فلسطين؟ هذا كلام يمكن أن تقوله جماعة إسلامية ترتجف رعباً وقرفاً من بقعة الإرهاب المنتشرة في أوساط المسلمين، نرتكب الجرائم اليومية البشعة ضدهم وضد غيرهم من أهل الأديان (المسيحيين والآيزيديين والشيعة والسنة في العراق).. هل أذكر بالبوسنة والهرسك؟ ومعلوم أن أهل العنف من الإسلاميين ومنذ العصر الراشدي حيث تم اغتيال ثلاثة خلفاء قبل انقضاء خمسين سنة من عمر الرسالة الإسلامية. كانوا ولا يزالون يمارسون القتل تحت غطاء فقهي وعقدي ناجز، كان ولا يزال يتعايش في الحيز الإسلامي الواسع، مع فقه ومنظومات عقائدية تختلف معه أو عنه أو تناقضه وتبادله التكفير، من دون أن تتعطل مسيرة الإرهاب، بل هي إلى مزيد من التعاظم كماً ونوعاً. وإن كانت حال المسيحيين في العالم، الآن، تختلف قليلاً عن حال المسلمين وإيجابياً لمصلحة المسيحيين. فإن استعداداً غير اعتيادي يتفاقم في أوساط المسيحيين على المستوى المسكوني، يعدنا باجتياح النزوع إلى العنف فالإرهاب، لمجمل (الساحة) المسيحية العالمية… ومنذ الحادي عشر من أيلول والشعوب المسيحية وشبه المسيحية في الغرب واقعة في إغراء العصاب العنصري رداً على عصاب عنصري إسلامي، تكوّن حول الإرهابيين بذرائع سياسية أو ماضوية، ترجع إلى الحروب الصليبية التي أخذت تغري المسيحيين مرة أخرى بإحيائها كمرجعية لصراعهم المتجدد وعنصريتهم المستعادة.. ما يعني أن الاعتذار الفاتيكاني أو المسيحي العام، لم يعد له مفعول… وإذا كانت البدايات في الصراعات الدينية أو الإثنية حصرية، فإن حصريتها لا تلبث أن تتراجع ليصبح الصراع أو القتال بين المسلم والمسيحي، كما حدث في لبنان، وبعد سنوات قليلة، اقتتالاً إسلامياً بين المذاهب وداخل كل مذهب، تماماً كما حدث مع المسيحيين أيضا.. وعليه فإن صراع المسلمين ضد الغرب لأنه مسيحي أو المسيحية لأنها غربية، لن يلبث، وهو لم يلبث أن عاد صراعاً بين الشيعة والسنة على الدنيا.
وفي الجانب المسيحي قد نكون على موعد مع إبطال صيغة الاتحاد الأوروبي الذي قطع مع خمسمئة سنة من الحروب الدينية وأقام نظام علائق اختيارية تحت سقف القانون وحقوق الإنسان… ذلك أن الصراع المسيحي الإسلامي سوف يذهب عميقاً على أساس القناعة بضرورة إلغاء الآخر المختلف، ليصبح صراعاً داخل المسيحية… بين مذاهبها وداخل هذه المذاهب… يبقى اليهود في معزل نسبي ومؤقت عن هذه المخاطر، باعتبار أن الصهيونية كاختزال لليهودية الآن، هي أهم مصادر التوتر والصراع الديني بين أهل التوحيد، هذا من دون مانع أن يكون هناك حالات اعتراض يهودية حادة وقاطعة مع الصهاينة. (ناطوري كارتا والسامريون). ولكن اضطرار اليهود للديموقراطية الداخلية لحفظ التعدد العشوائي تحت عباءة الدولة المصطنعة، يشكل مانعاً، ربما كان مؤقتاً، من انفجار الاختلاف عنفاً متبادلاً… وإن كان اغتيال اسحق رابين حادثاً لا يخلو من دلالة.
إن النص الديني الإسلامي كثير جداً.. وموزع بين صحيح وموضوع وما بينهما في السنة… ولكن تعدد المعرفة بالنص ومدلوله، وبالدين، والمحفوظة للمسلمين عموماً، وإن أبى من أبى أحياناً، يفسح في المجال لمن يريد أن يحرز دليلاً على موافقة العنف والإرهاب الذي يمارسه ضد أي كان، لصحيح الشرع من وجهة نظره، لكي يجد ما يسعفه بذلك، حتى لو كان رواية ضعيفة أو موضوعة، فإنه يقويها أو يوثقها بسهولة ليصبح بإمكانه تأصيل أي توجه أو ممارسة ولو كان مزاجياً ولا سابقة له ولا دليل عليه فيجعله شرعاً يتبع.
أما النص القرآني، فإن الإجمال والتفصيل والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والناسخ والمنسوخ.. كل ذلك يوسع مجال التأويل، ويمكن من يريد أن يقرأ آيات العنف على أنها كليات حاكمة على غيرها، وكذلك آيات التكفير… وهناك من فقهاء المسلمين المتأخرين وذوي الرهط الواسع من الأتباع، قد ميزوا بين مشركي الجاهلية ومشركي المسلمين لمصلحة الجاهلية، واعتبار إشراك المسلمين المخالفين، أشد من إشراك أهل الجاهلية ويسوّغ قتلهم وسبي ذراريهم ونكاح أراملهم كملك يمين. تماماً كما أن المعتدلين من علماء المسلمين يُغلِّبون السلام والحوار والعيش المشترك على أساس تحكيم كليات القرآن التي تحث عليه، على الجزئيات والتفاصيل القرآنية التي تحث على الصراع، على أساس أن هذه الآيات ذوات المدلول الجزئي المحكوم لا الحاكم.. لا بد أن تقرأ في مجالها التاريخي.. حيث تصبح خارجه غير ذات موضوع، والحكم، حلالاً وحراماً وغيره، يتبع الموضوع، فإذا ارتفع الموضوع فلا بد أن يرتفع الحكم.
إلى ذلك فإن أهل الاعتدال من المسلمين لا يقرون ببقاء العالم منقسماً إلى فسطاطين (دار الكفر أو الحرب ودار الإسلام) بل يعتبرون المؤسسات الدولية وشرعاتها (الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان) والقوانين الناظمة لعلاقة الشعوب ببعضها بعضاً (قوانين التجارة والإقامة والفيزا والعمل ألخ) قد أنشأت عالماً آخر، بحدود مختلفة أساساً عن حدود دار الحرب ودار الإسلام.
في الديانة اليهودية يرى ماركس العلاج بتحرير اليهودي من اليهودية…؟ فالتوراة (الأسفار الخمسة الأساس) والتلمود.. كتابان عنفيان ضد الآخر.. وضد الله أحياناً كثيرة… وهما يخلوان من فكرة الآخرة والجزاء الأخروي.. لأن الثواب والعقاب دنيوي فقط.. والصهيونية هي تلخيص علماني مركز للتوراة والتلمود… وعليه فالحل العلماني المدني الذي لا يقيم الدولة العلمانية على الدين كما كانت في بداية طرحها مع «لوك وهوبسي» وغيرهما ولا يقيمها على الضد من الدين لتصبح ديناً آخر.. هذه العلمانية هي السبيل الذي يفضي إلى حالة سلام يهودية بعيدة عن مؤثرات النص اليهودي، ويغلب المضامين الإنسانية للمزامير ونشيد الأناشيد والرؤى وأعمال الرسل على البراغماتية الفاقعة التي تحول الجريمة إلى ذريعة دينية دنيوية في العمق.
في المسيحية، تقديري أنه لا بد من تعب كثير، وربما تمحل كثير لمن يريد أن يقرأ عنفاً في الإنجيل.. النص الإنجيلي لا يساعد في ذلك إلا أهل النوايا المبيّتة.. والمشكلة هي في مدخلية الأسفار الخمسة، كما هي بين أيدينا، والتي تطبع مع العهد الجديد بمئات اللغات سنوياً وتوزع معه، مدخلية هذه الأسفار في الذاكرة الثقافية المكونة للمسيحي.. أو المسيحية التي كانت حركة تصحيح في المسار اليهودي، من دون أن تكون مضطرة لحمل ما مانعت فيه.. إلا إذا استطعنا أن نحرر وثائق (قمران) ونقرأها معاً.. أو يقرأها النصارى بروح السلام المسيحي ليقدموا لنا فهماً مسيحياً مختلفاً لليهودية الصحيحة.. بروحها التي لا نجدها في التوراة والتلمود. ليس لدي اقتراح بالحل الكامل والناجز والناضج، بل لدي اهتمام إشكالي بكون العنف دينياً، بنسبة ثمانين في المئة من أول الماضي إلى آخر الراهن وربما المستقبل.
واللاهوت المسيحي الذي يبرر مظالم اسرائيل لن يتراجع بسهولة… والذي يتراجع هو المسيحية والمسيحيون في فلسطين والقدس حتى أصبحوا 1% في العموم وثلاثة آلاف شخص فقط في القدس بعدما كانوا في العام 1967 خمسين ألف مسيحي. معنى هم أكبر وأعمق من عددهم بكثير.. غير أن العدد إذا أصبح صفراً أو ما يشبه الصفر.. فإن المعنى والدور يذهبان معه… وتصبح المسيحية في منشئها ذكرى وحجارة. ويصبح الخوف على المسلمين عدداً ودوراً أكبر.
أقول: بإمكان المسلمين أن يتظاهروا ويضربوا رؤوسهم بالسيوف ويسيلوا دماءهم على وجوههم ندماً على عدم صيانة القدس… ولكنهم في آخر النهار سوف يقول بعضهم لبعض: لدينا مكة والمدينة كمكانين لروحنا الإسلامية. إذا خسرنا مكاننا الإبراهيمي ثالث الحرمين فعلا والقبلة الأولى التي لم تعد قبلة.. فماذا يقول المسيحيون للمسيحيين إذا خسروا القدس؟ إذا تهودت وكفت عن أن تكون مكاناً للشراكة الروحية والثقافية بين الجميع… وصارت القيامة موتاً وكنيستها قبراً وصار المهد منفى وكنيسته زنزانة!
هناك إخوة أجلاء يقرأون ويكتبون مفصلين في شأن هذه الوثيقة الجميلة التي كتبها عدد من الأحبة إلى قلبي بدم حار وعقل هادئ ووجع بالغ وربما يأس أبلغ وإن كان غامضاً… غير أني وإن أحببتها، فإني ذهبت منها إلى أصل المشكلة التي أعتبرها كبيرة وأعتبر إسرائيل في نشأتها وبقائها شيئاً من مظاهرها البشعة. مشكلة تبادل الإلغاء في أهل الأديان السماوية على عكس أتباع الأديان الأخرى!!! وأختم بالدعوة إلى إصدار حكم بأننا كأهل توحيد وأديان سماوية فشلنا في فلسطين… فلنكف عن أسلمتها ونصرنتها أو تديينها لكي لا نعطي بالكلام المجاني أو العاطفة الصادقة المجردة، ذرائع إضافية لليهود ولأسرلتها.
لتقم القضية في وعينا على أنها حق إنساني.. للفلسطيني.. ليس إلا… إنني أدعو أن نتشارك مسيحيين ومسلمين ويهوداً إن أمكن ولو بعد حين.. وأهل ديانات أخرى.. في قراءة أدياننا على أساس السلام المشترك وعموميته التي تحفظ الخصوصيات وتمنع تحويلها إلى عوازل وعوائق ومصدر إنتاج للعنف والإرهاب والاستعمار التبشيري والدعوي.
إن بإمكان أي مسلم أن يسجل اندهاشه ومفاجأته من لغة الوثيقة الجريئة والصريحة والشفافة ويعلن ارتياحه مستغرباً أو مستهجناً من أن المسيحيين في فلسطين يعتبرون الشعب الفلسطيني شعبهم وينتقدون ويشجبون التعاطف المسيحي النسبي ـ الواسع ـ مع إسرائيل وتغطيته لجرائمها بدءاً واستمراراً ولكن قربي من اليومي الفلسطيني قربني من الذاكرة الفلسطينية التي يقوم فيها المسيحيون. ومثالهم مطران فلسطين غريغوريوس حجار ـ مقام الرافعة البهية… إلى أني عرفت عن كثب البطريرك المهيب الحكيم ميشال صباح.. والمطران الشفاف عطا الله حنا… والصامت البليغ الأب رفيق خوري والحيوي الفياض بهدوء القس متري الراهب ورئيس بلديتنا في فسوطة، جارنا في الجليل جريس خوري عافاه الله. وسمعت منهم كلاماً كثيراً عن الآخرين يشهد لهم بالجمال الفلسطيني الأخاذ. وإنه لعجب أن نعجب من عشق الولد لأمه وخوفه عليها.. كأننا لا أم لنا!!! وكأن المسيحيين المتنصلين من فلسطينيهم وقدسهم ينسون أو يتناسون طعم الرطب الجني الذي أغدقته نخلة فلسطين على أمهم.. أمنا العذراء البتول. فتحول إلى لبن غذى يسوع الملك وأغرانا جميعاً بالمحبة وحراسة المذود، والفرح في الفصح وغسل أقدام أطفال أورشليم في الشعانين، والسلام على صفرونيوس العظيم… والعودة إلى حبشة النجاشي العادل واستئناف الحوار مع نصارى نجران ولبنان وغسان. فإن لم تجمعنا العقيدة بتفاصيلها كان التوحيد الإبراهيمي خيمتنا وسياجاً للمسيحية من الصهينة المتمادية غطاء للجريمة الشائنة.
إننا مدعوون الى تكوين رؤية مشتركة… تستوعب الراهن الفلسطيني المؤلم والمنذر بالمزيد من العظائم. يحررنا من لاهوت التبرير الذي يقوّض الدين إذ يقلبه من سياق الاحتجاج على الظلم والجور كمسوّغ شبه حصري لأي دعوة دينية، الى سياق تغطية المظالم والجرائم .. إلى لاهوت التحرير الذي من الضروري أن يكون على أشد الحذر والاحتياط من أي شبهة عنف وإرهاب وإلغاء… هذه الوثيقة بداية مباركة.