بعث لي قارئ كريم على قدر كبير من الوعي بقضايانا وأزماتنا تعليقا على مقالتي التي تشجب الصمت عن تجريم قتل النفس الإنسانية وتوضح دوره المشارك في تأجيج مشاعر الشباب المضلل . وكان يستحثني في رده على الكتابة عن المقاومة الشريفة في العراق وعن دورها في الفشل الذريع الذي باءت به السياسة الأمريكية في العراق ، محاججا أن التضحية هي الثمن الذي يتعين على الشعوب دفعه حتى تتحرر من قبضة المحتل . وكان أيضا أحد القراء قد بعث لي مؤكدا أن العمليات الانتحارية ليست صناعة إسلامية وأنها لم تولد من رحم ثقافة الاستشهاد والجهاد وحوريات الجنة ، ولكنها ولدت وتولد من رحم الظلم والمعاناة والإحساس باليأس من تحقيق العدالة ومن التحرر من الظلم .
وأجدني أتفق مع القارئين الكريمين على أهمية نشر ثقافة المقاومة ، كونها المخرج الوحيد للتنصل من براثن المعتدين واستبداد المستعمرين ، فالاستبداد والظلم يتزايد طرديا مع خضوع الطرف الأضعف وخنوعه لجلاده . والذوبان والانصهار في الكيان المعتدي دون مقاومة لا بد أن يؤدي للاضمحلال التام والتلاشي المطلق ، فيموت الحق المسكوت عنه وتذوب عدالة القضية ، فصاحبها راض عن الظلم خانع لذلك المستبد المنتهك لحقوقه. لكن هناك بون شاسع بين ثقافة المقاومة وثقافة الموت والانتحار، ويتعين علينا أن نفك الالتباس بين هاتين الثقافتين وإلا انجرف شبابنا وراء حماسة متقدة يزيد من تذكيتها وإشعالها فتاوى التكفير ودعاوى المحرضين والمضللين ، فتنطلق القنابل البشرية الموقوتة لتفجر نفسها وتفجر معها الآخر المختلف فالفتوى التحريضية قد أحالته إلى كافر يجوز الاقتصاص منه، ولا ضير من جز أعناق أرواح بريئة لا ناقة لها ولا جمل خلال العمليات الانتحارية!! ولا ضير أيضا مما يسببه ذلك العنف الأعمى من دمار ومن تشرذم وفرقة بين الإخوة والأشقاء كما حدث ويحدث في العراق كل يوم !! فالعراق اليوم بات أرضا لتصفية الحسابات العالقة، وساحة لمعارك دخيلة على المجتمع العراقي لا تعرف فيها من يحارب من!! ناهيك عن العنف الطائفي والتهجير والقتل على الهوية، والتنازع على كعكة السلطة . وكأن العراق لا يكفيه ما ينوء به بعد جرائم السياسة الأمريكية والتي جرت الويل والهلاك على المجتمع العراقي ، ليلقى فيه التحريضيون بفلول الشباب الغر المضلل الذي لا يعرف أبعاد القضية ولا تشابكاتها وتعقيداتها ، يرفعون لواء الجهاد ظنا منهم أنهم سيقتلون العدو الأمريكي ، بينما هم يستخدمون كأدوات لفض النزاعات ، وتوجيه الخناجر إلى صدور الأهل وذوي القربى !!
وكنت قد رددت على أحد هذين القارئين قائلة أنني كليا وبكل كياني مع ثقافة المقاومة، ولكنني أرفض أخلاقيا العلميات الانتحارية فالروح الإنسانية البريئة أقدس عند الله من الكعبة المشرفة والعمليات الانتحارية لا عين لها تبصر به من يستحق القتل من الظلمة والمستبدين ، ولا تفرق بين طفل بريء أو شيخ عاجز أو امرأة ضعيفة وبين مستبد ظالم أو مستعمر متجبر. وفك الاشتباك بين ثقافة المقاومة وثقافة الانتحار يقتضي كما يقول برهان غليون إخضاع برنامج المقاومة لبناء الذاتية ، وهو ما يجعل من بناء الحرية الشخصية أي بناء الوعي والضمير والإرادة عند كل فرد وراء تأسيس الفعل الأخلاقي وتاليا الثقافة ، شرطا للحرية الخارجية . فلا مقاومة دون وعي بأبعاد القضية وقدرة على تفكيك حيثياتها ومعرفة بتاريخها وتعقيداتها ، ولا مقاومة دون رشد يقود إلى القدرة على إدراك الطرق الأنجع لممارسة فعل المقاومة حسب ما يقتضيه الزمان والمكان والظروف ، ولا مقاومة دون فهم لقوانين المجتمع الدولي واستثمارها لصالح القضية ، ولا مقاومة دون معرفة بكيفية تحريك الرأي العام العالمي ولفت انتباهه لعدالة القضية ، وتوظيف الأصوات الإنسانية الشريفة للمساهمة في دحر الظلم ومناهضة العدوان . وبالطبع لا مقاومة دون ممارسة فعل الاختيار المنبثق من إرادة واعية ، ودون ضمير يقظ قادر على التمييز بين دحر المعتدي الظالم وبين قتل الأبرياء اللذين لا حول لهم ولا قوة !!
بات زرع ثقافة المقاومة وبث قوة الرفض في جسد أمتنا الذابل ضرورة حتمية في غابة دولية تزداد طمعا وشراسة وضراوة يوما بعد يوم ، ولكننا نريدها مقاومة واعية مدروسة تقوم على ثقافة حقيقية ومعرفة شمولية تدعمها إرادة واثقة وضمير حي ، ونريدها صوتا قويا واثقا قادرا على استنطاق الحجر وفعل المعجزات ، ولا نريدها قنابل بشرية عشوائية تسير إلى حتفها على غير هدى غير مدركة أين توجه سهامها ولا من سيكون القتيل !!
Amal_zahid@hotmail.com