عادة ما يختلف الأصوليون مع الليبراليين حول مسألتين مفصليّتين تتعلقان بالدين، هما: العلاقة بين الإنسان وربه، ودور الدين في الحياة. فالأصولي يعتقد أن الإسلام هو “دين ودنيا” و”منهاج حياة” يستطيع المسلم أن يجد في ثناياه إجابات لجميع أسئلة الحياة ولمختلف القضايا. كما يعتقد بأن الله يتصف بصفات مادية قريبة جدا من صفات الإنسان لكي يدركه ويعبده، ويستند في ذلك إلى ما ورد في القرآن. فالله بالنسبة إليه هو ملك الوجود، يغضب ويمكر ويخسف ويعذب ويرحم ويشفي وفق ما ورد من صفات في الآيات، وفهم تلك الصفات ينطلق من منطلق مادي ويستند إلى الصورة البشرية الموجودة عند الإنسان، لكن بشكل أكبر وأشمل وأوسع من الصورة البشرية.
أما الليبرالي فإنه لا يستطيع أن يعتبر العلاقة بين الإنسان وربه بشرية في الوصف ودنيوية في الممارسة، بل يرى بأنها لا بد أن تستند إلى الحالة القلبية المعنوية، حيث لا شيء يربط بين الطرفين سوى القلب، ويستند في ذلك إلى العبارة القائلة إن الله “ليس كمثله شيء”. كما أن الحياة عند الليبرالي لا تدار من خلال تدخل غيبي سماوي رباني، بل تقع مسؤولية إدارة الحياة بأكملها على عاتق العقل البشري.
لذلك يبدو الليبرالي معارضا لتدخل الدين في إدارة الحياة، رغم أنه لا يستطيع أن ينفي تأثير الدين في الحياة. في حين لا يرضى الأصولي بأقل من هيمنة عقليته الأصولية التاريخية على مجريات الحياة، لأنه يعتقد بأن الله مسيطر على الشأن البشري، وأن الدين بأحكامه وتفسيراته يمتلك الحل الأوحد والأشمل والأنجع لمسائل الحياة. في المقابل يعظّم الليبرالي من شأن العقل في الحياة، ويعتقد بأن ذلك كفيل بتحجيم دور الدين في الشأن الإداري العام، إذ بتحجيمه يتحرر العقل من أسر السجن الأصولي وينطلق في الحياة محققا إنجازات ليس لها سقف.
يصر الأصولي على أن رأي الليبرالي بشأن العلاقة مع الله ودور الدين في الحياة يمثّل تحاملا على الدين، لأنه يعتقد بأن أي تحجيم لدور الدين في الحياة العامة هو نوع من التقييد لرسالة الدين الشمولية. في حين أن الليبرالي لا يعتقد بذلك، لأنه لا يرى إمكانية للتحامل على الدين، بسبب أن فهم الدين بالنسبة إليه هو أمر نسبي، بمعنى أن فهم الدين يختلف من طائفة إلى طائفة ومن مذهب إلى مذهب ومن جماعة إلى جماعة ومن تيار فكري إلى تيار آخر ومن منهج معرفي إلى آخر، وبالتالي يناصر التفسير الذي لا يعتبر الدين شموليا.
يرى الأصولي أن “مدى الدين يتسع ليشمل المعاملات والأحكام والعبادات”، لأن ذلك “يرسم ملامح هوية للمسلم تميزه عن غيره” مثلما عبّرت أخت أصولية أثناء نقاش دار بيني وبينها. لكن الليبرالي يختلف مع هذا الطرح، لأنه، باعتقاده، يُدخل الدين في متاهة ما يسمى بـ”السوبرماركت” الذي يفتقد الكثير من الحاجيات التي يحتاجها المشتري، وكأن الدين معرض لابد أن يحتوي على جميع بضائع الحياة. فالليبرالي لا يرى امتلاك الدين إجابات لمختلف أسئلة الحياة، بل يعتقد أنه يمتلك إجابات تعين فقط موضوع الإيمان. الليبرالي يصر على ألا يكون الدين سياسيا واقتصاديا وطبيا وهندسيا ووو… بل لا يمكن إيجاد هذا الشيء فيه، لأن تلك أمور نسبية متغيرة بتغير الزمان والمكان، وهذا الأمر بالنسبة لليبرالي غير متاح في آيات القرآن، حيث لا يمكن استخراج جميع التخصصات منها، ولأن أحكام القرآن التشريعية الحياتية ثابتة وتخص المجتمع العربي التاريخي.
تقول الأخت الأصولية إنه “يجب التوفيق بين أصالة الدين وحداثة العصر. ولكن يجب أن تكون هناك خطوط دينية عريضة ترسم لنا مسارنا في هذا العالم. وخطوط حمراء نتفق على ألا نتعداها مهما اختلفت اتجاهاتنا حفاظا على البصمة الإسلامية التي نريد تثبيتها بين الحضارات والثقافات حولنا”. غير أن الليبرالي يختلف كليا مع هذا الطرح، لأنه يرى أن مهمة الدين تتمثل في تعميق الحالة الروحية المعنوية بين الإنسان والله لكي يتم إنتاج نوع من السلوك الحاث على الاستقامة الأخلاقية، ولا شيء غير ذلك. فالليبرالي لا يستطيع أن يضع تعريفا واضحا ومحددا لعبارة “الخطوط الدينية العريضة التي ترسم المسار”. فأي مسار هذا الذي ترسمه الأديان وعجزت عن رسمه العقول؟ بل في اعتقاد الليبرالي، فشلت الأصولية في رسم مسار من شأنه أن يحدد مسارا للحياة في العصر الراهن، إذ أن جميع الخطوط الأصولية المرسومة لا تمت للحياة الراهنة بصلة بل تتعلق بالحياة التاريخية القديمة التي انفصلت عن حياتنا الحالية. كما لا يعتقد الليبرالي بالرؤية الأصولية التي تؤكد وجود “خطوط دينية حمراء”، فمن جهة لا توجد خطوط دينية حمراء متفق عليها بين جميع الأصوليين، فما يعتبر خطا أحمر لدى بعض الأصوليين قد يكون رماديا أو أبيض لدى البعض الآخر، ومن جهة أخرى تعتبر الخطوط الحمراء بالنسبة لليبرالي أمرا متعلقا بانتهاك القانون البشري المدني والتعدّي عليه.
عادة ما يحتج الأصولي على الليبرالي في مسألة الاستقامة الأخلاقية، بطرح أمثلة وتجارب حياتية راهنة يعتقد من خلالها بأن هناك إجماعا من قبل الليبراليين على مشروعيتها وصحتها، رغم أنها لا تمت لليبرالية بصلة بل تتعلق بنوع الحياة الخاصة لكل مجتمع. فبعض الأخلاقيات الموجودة في مجتمع ليبرالي شرقي ليست بالضرورة موجودة في مجتمع ليبرالي غربي.
لذلك تتساءل الأخت الأصولية: “هل تتحقق الاستقامة الأخلاقية (عند الليبرالي) مثلا بالسماح بالمشروبات الروحية.. وبإعطاء المثليين حقوقهم والسماح لهم بالزواج.. وبسب الذات الإلهية والتهكم على الآيات القرآنية و.. و.. و..؟”. لكن الأصوليين يتعمدون أن يتجاهلوا تاريخ المسلمين الاجتماعي والأخلاقيات أو السلوكيات المرتبطة بالمرحلة القديمة من حياتهم منذ بدء الدعوة النبوية وحتى وقت قريب مضى. وأستطيع أن أجزم بأن المسلمين الراهنين سوف يرفضون الغالبية العظمى من تلك الأخلاقيات أو السلوكيات وسوف يمتنعون عن تنفيذها.
لذلك، يعتقد الليبرالي بأنه من الأجدر على الأصولي أن يستذكر التجربة الدينية التاريخية بشأن طريقة التعامل مع المرأة: الزواج عليها (خيانتها باسم الزواج المتعدد وزواج المتعة وزواج المسيار)، وتجربة الزواج بالعشرات من ما ملكت أيمانهم ومن الأَمَة والسبايا وبيعهن وشرائهن ثم الزواج منهن، وتجربة العبودية ضد المرأة والرجل. فقد كان الصحابة يمارسون تلك السلوكيات من دون أي ممانعة اجتماعية أو دينية آنذاك. لذا باعتقاد الليبرالي، يجب نقد تلك السلوكيات الدينية الماضوية لتصبح عبرة للحاضر، ولابد ألا يتم نسخ الماضي في الحاضر من دون وعي. ثم يتساءل: هل يمكن أن نمارس جميع تصرفات الصحابة وسلوكهم تجاه المرأة، وتجاه مسألة بيع وشراء الرجال والنساء، في زماننا هذا؟
فلا جدال على أنه بالنسبة لليبرالي في الكويت فإن الكثير من الظواهر السلوكية الموجودة في المجتمعات الغربية تتعارض مع نظرته للاستقامة الأخلاقية. لكنه، أي الليبرالي الكويتي، على قناعة بأن تلك الظواهر لا تتعارض مع الاستقامة الأخلاقية للشعوب الغربية، لأن مسألة الاستقامة الأخلاقية تعتبر في نظره مسألة نسبية، وتختلف من مجتمع إلى آخر.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي