حينما نتمعّن في الاتهامات الموجّهة إلى المفكر المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد – ملحد، زنديق، مرتد، كافر، … بسبب تعديه على “الثوابت الدينية” – نصل إلى نتيجة منطقية وهي أن الغالبية العظمى من المسلمين تكفّر بعضها بعضا، لأنها تختلف حول تلك “الثوابت”. فالذين وافقوا على اتهامات المحكمة المصرية ضد أبو زيد، وافقوا على ذلك استنادا إلى الفهم المغاير للمفكر المصري إلى “الثوابت”، وليس على أصل “الثوابت” الذي هو القرآن الكريم. فنجد مثلا أن الاختلاف الأساسي بين الشيعة والسنة هو على “الثوابت” أيضا!!، لذلك، يعيش الفكر الديني أزمة واقعية، أزمة لا يستطيع خلالها أن يحل مشكلته العويصة المتمثلة في تكفير الآخرين، وفي أن فهمه للقرآن يعتبر هو القرآن والمقدس و”الثوابت”، وبالتالي يقدّس رأيه ويكفّر رأي الآخرين المختلفين معه الذين يدّعون أيضا بأن رأيهم يعكس “الثوابت”. لكن المضحك في قضية أبو زيد أن البعض اتهمه بالإلحاد!! في حين أنه يعتقد بالله وبالدين الإسلامي وبنبي الإسلام وباليوم الآخر، وأن الاختلاف هو في فهم وتفسير ذلك.
فالذي يدّعي بأن رأيه الديني يمثل “الثوابت الدينية” وليس فهمها، لا يستطيع أن يعطي مشروعية للتعددية الفكرية والثقافية والدينية، ولا يستطيع أن يحترم الفهومات الأخرى، بل سيسارع إلى إقصاء الآخرين بإلقاء تهم التكفير والارتداد والزندقة ضدهم وتجريدهم من حقوقهم الدينية والاجتماعية. وما سكوت بعض المنتمين إلى الفكر الديني على “الافتراءات” الموجهة إلى “ثوابت” الدين من قبل منتمين آخرين (شيعة ضد سنة، أو سنة ضد شيعة) إلا لأسباب مصلحية بحتة. ومما عزز مفهوم إلغاء الآخر في مجتمعاتنا وساهم في تحريك ماكينة العنف وشجع رؤى التكفير وأضعف مفهوم التعايش وأثّر سلبا في الوحدة الوطنية – مثلما قلنا سابقا – هو استمرار مدرسة التفسير الديني التاريخي المتزمت، على الضفتين الشيعية والسنية، في وصف فهمها للدين بأنه هو القرآن وهو الحقيقة المطلقة وهو “الثوابت”، وأنه ليس فهما من الفهوم البشرية، أو تفسيرا من التفسيرات الصائبة أو الخاطئة، أو قراءة من القراءات النسبية، بل أي تفسير من تفسيراتها لا يحكم على التفسير الآخر بأنه خاطئ فحسب وإنما يعتبره خارجا عن الدين وزندقة ولا يمثل القرآن.
إن دحض الأفكار “يتمحور كله حول مقام الفهم والمعرفة، لا حول مقام الثبوت”، مثلما يعبّر المفكر الإيراني عبدالكريم سروش، الذي يؤكد بأن “القرآن ذاته لا يتكلم، بل نحن لسانه الذي يتكلم نيابة عنه”، مضيفا “إننا جميعا نسبح في بحر من الآراء والتفاسير، وإذا ما ابتكرنا رأيا جديدا نريد به، حسب زعمنا، دحض سائر الآراء، نكون قد غرقنا في هذا البحر أكثر”. ويؤكد أن “كل الشيعة والسنة والأشاعرة والمعتزلة والخوارج وكافة أتباع الفرق ]الإسلامية[ الكبيرة والصغيرة الأخرى التي ظهرت في تاريخ الإسلام، ينتمون إلى حيّز الدين الحنيف، فلكل مسلم إسلامه الخاص”. ويضيف “شهد تاريخ الإسلام علماء قالوا بتحريف الكتاب، وبأن بعض آياته قد انتقصت، ومع ذلك فلا أحد يشك في إسلام هؤلاء، فآراؤهم هذه لا تعد ناقضة لإسلامهم. وتخوم السنة كانت دائما موضع جدل ونقاش، بل لا يعدم تاريخ الإسلام شخصيات لامعة، كأبي حنيفة، يعتقد أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الرسول لا تتجاوز 19 رواية، وكل ما عدا ذلك موضوع ومشكوك فيه. وإلى جانب هذا ثمة شخصيات تصدق عدة آلاف من الروايات تنسبها للرسول، وتعمل على أساسها”.
إن احتكار فهم “الحقيقة الدينية” واعتباره مطلقا واحدا وحيدا ثابتا نهائيا، يعتبر أساسا رئيسيا من أسس مسألة الإلغاء، لأنه يؤسس لرفض الاعتراف بوجود الآخر المختلف وحقه في نشر أفكاره والتعبير عنها، ويشرعن لممارسة الاستبداد بمبررات عفا عليها الزمن. فالاحتكار يستند إلى اعتبار أن فهم “الحقيقة الدينية” فهم يقيني لا يمكن أن يتجزأ إلى فهومات عدة لحقيقة واحدة. بمعنى أنها حقيقة تسير في إطار رؤى جازمة. بالتالي لا مجال لوجود تعايش ورؤى أخرى مغايرة ومنافسة لها، أو رؤى متنوعة تؤمن بالاختيار. كما لا توجد فرص لإخضاعها لحركة النقد والمحاسبة والمساءلة، باعتبار أن منطلقاتها غير بشرية بل سماوية مقدسة مرتبطة بما يسمى بـ”صريح النقل”. فما لا يتوافق في التفسير مع صريح النقل يصبح في الضد منه وفي خانة المعصية المؤدية إلى الفسق والفجور، بل الكفر والشرك!!.
وتتبنى الغالبية العظمى من أنصار مدرسة احتكار فهم “الحقيقة الدينية” التفسير الذي يدمج التنظير الديني بالتنظير لمختلف مسائل الحياة البشرية، وتفرض نظرتها، التي تُطرح بصورة شمولية وجازمة ومقدسة، على مختلف مناحي حياتنا. بالتالي أي اختلاف مع تلك النظرة “الأحادية” يعتبر خروجا عن الدين. بمعنى أن أحادية التفسير القائمة على احتكار فهم “الحقيقة الدينية” تؤسس لنفي الآخر. مثلا، لو أمعنّا النظر في الرؤية الدينية التاريخية لحقوق المرأة من قبل الفقه الديني الراهن – كملك اليمين، والزواج على المرأة، وضربها – سنجد بأنها رؤية سماوية جازمة مرتبطة باحتكار التفسير، ومستندة إلى صريح النقل، حيث ترفض أي رؤى تفسيرية أخرى (دينية أو غير دينية) مغايرة لها، لأن تلك الرؤى المغايرة تسير في الضد مما جاء في التفسير التاريخي لـ”الحقيقة” ولما جاء في النقل والفقه، بالتالي سيصبح الأخذ بها معصية دينية ومخالفة صريحة لأوامر الله، خاصة إذا ما اعتبرت تلك الرؤى المغايرة بشرية غير مقدسة.
إن أنصار المدرسة الدينية التاريخية ما لبثوا أن وصفوا كل من يؤيد الحقوق الحديثة للمرأة والمنبثقة عن مفهوم المساوة بأنه “عاص لله ومستحق عذابه”. لذلك هم لم يعترفوا إلا بنظرتهم الدينية تجاه حقوق المرأة، بالتالي لم يعبّروا إلا عن احتكارهم لتفسير “الحقيقة الدينية”. لذا تبدو النتيجة الطبيعية لهذا التباين هي اللاتعايش بين أنصار مفهوم احتكار تفسير “الحقيقة الدينية” وبين باقي التفسيرات. فلا يمكن لهؤلاء قبول الديموقراطية الحقيقية وممارسة التعددية واحترام حقوق الإنسان، إذ هي عناوين لا تلتقي مع الأحادية والاحتكار والوصاية والجزم والتقديس.
وحسب تعبير أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك عبد العزيز في جدة أبو بكر باقادر، توجد هناك إجابة أصولية احتكارية واحدة على سؤال التعددية الدينية والتنوع الديني، وهي “أنا على حق والباقي على باطل”، معتبرا أن تلك الإجابة “وثوقية ومريحة للنفس”، ومؤكدا وجود “إجابة قلقة” تسمى بـ”النسبية المطلقة” التي ترى أن “كل الأديان صحيحة، كل الأفكار صحيحة، كل الروحانيات صحيحة، بلا معيار”، حيث يطرح مخرجا يسميه “الحقيقة المقلقة” وهي “أنني أعرف كيف أبرر ما أؤمن به، لكن لدي من الذكاء والفطنة أن أتفهم ما يمكن أن يبرر به مؤمن آخر إيمانه”.
ويطرح عالم الدين المسيحي البريطاني جون هيك، في مقال بعنوان: هل الدين المسيحي هو دين الحق الوحيد، السؤال التالي: “هل حقيقة الله تغيرت وتحولت عبر القرون، أم تصوراتنا الذهنية هي التي تغيرت؟”، ويجيب على ذلك بالقول: “قطعا، إن تصوراتنا عن الله هي التي تغيرت. وبعبارة أخرى، يوجد بيننا وبين الله (الوجود المتعالي والمطلق) حائل من التصورات البشرية المتفاوتة والمتغيرة. وتتم معرفتنا بالله من خلال هذه التصورات المتغيرة التي يصنعها ذهن الإنسان. فنعبد الله من خلال تصوراتنا الذهنية عنه. التصورات التي تؤثر فيها أفكارنا البشرية وأحكامنا المسبقة وبيئتنا الثقافية بشكل لا مفر منه. فلا تسبب هذه التصورات الاختلاف بين الأديان فقط، بل توجد الاختلاف في دائرة دين واحد أيضا. وباعتقادي لو استطعنا معرفة ما في أذهان الناس، لوجدنا تعاريف وتصورات كثيرة عن الله”. ويؤكد هيك أن “الأديان المختلفة تنتج ثمرات كلها على مستوى واحد في القيمة”.
إن رموز مدرسة التفسير الديني التاريخي ورموز الإسلام السياسي عادة ما يرددون بأنهم “وسطيون” يتبنون ما يسمى بـ”الإسلام الوسطي”، ويعتقدون بأن ذلك كفيل بتوضيح صورة “الإسلام الأصيل” و”الصراط المستقيم”، الذي يساهم، حسب رأيهم، في وضع حد “شرعي” للإلغاء والتمييز، وللعنف والإرهاب. هذه المزاعم بـ”الوسطية” تمثّل ابتعادا شاسعا عن حقائق الواقع، لكونها تبرؤهم من المشاركة في نشر الكراهية والتمييز، ومن مسؤولية انتشار الإرهاب بشكل عام. وهي ليست إلا صورة من صور الإلغاء، لأن أطروحاتهم الفكرية تحث على أن الآخر المختلف في فهم “الثوابت”، ليس إلا مرتدا زنديقا، وأن المسلم من غير أتباع نهج “السنة والجماعة” أو نهج “الإمامة” إمّا مشرك وإمّا مرتد وإما ناصبي وإما فاسد، وأن مذاهب إسلامية مختلفة ليست سوى مذاهب بدعة وضلال، ناهيك عن الموقف من الآخر غير الديني، كالمسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي والعلماني والليبرالي.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com