1 ـ إدريس البصري عنوان الفساد ومهندسه : مما لا شك فيه أن اسم إدريس البصري ارتبط بمرحلة سياسية تميزت بخاصتين بارزتين :
أ ـ الأولى وهي الإمعان في نشر الفساد السياسي والإداري والمالي على مستوى الدولة والمجتمع . إذ خلال هذه الفترة من تاريخ المغرب تدخلت وزارة الداخلية ، بشكل مباشر وسافر ، في إفساد الحياة السياسية عبر صناعة خريطة على المقاس وتأثيثها بأدوات حزبية فاقدة للحياة وللإرادة ؛ وهي التي اصطلح عليها بـأحزاب ” الكوكوت منوت” . وكانت وظيفتها الأساسية هي ضرب مصداقية العمل السياسي مجسدا في المؤسسات الدستورية ( البرلمان ، الحكومة ، المجالس المحلية ) التي تحولت ، بفعل الإفساد الممنهج ، إلى مؤسسات لا تكتفي بتزكية الفساد وشرعنته ، بل وأساسا ، تصنع الأعيان الجدد وتقوي نفوذ القدامى . بحيث أصبحت الانتخابات مجالا “للاستثمار” ، كما غدت المسئولية في المجالس “المنتخبة” حقلا للاغتناء . من هنا بدأت تتسع دائرة “الأعيان الجدد” الذين ارتبط وجودهم بسياسة الإفساد الممنهج للحياة السياسية . وهؤلاء هم الذين سيشكلون ما سماه الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي بـ “جيوب المقاومة” ـ أي مقاومة التغيير والدمقرطة . ومن أجل محاصرة كل الجهود الساعية إلى تحديث الدولة وبنياتها ، عمل البصري على إقحام عناصر الإفساد في كل مفاصل الدولة ودعم نفوذها . فضلا عن نجاحه في تشجيع الارتزاق بكل صنوفه ( الارتشاء ، الزبونية ، المحسوبية ، العمالة ، الوصولية ، الانتهازية الخ ) . إنها إستراتيجية واضحة سلكتها الدولة بتخطيط البصري وتنفيذ منه . حقا كان “عبد المأمور” لكن كان خادما ماكرا . هذه الإستراتيجية هي المسئولة عن الانهيار الاقتصادي الذي أوصل المغرب إلى ما أصطلح عليه بـ”السكتة القلبية” . وهي المسئولة عن ضرب قيم المواطنة بنشر ثقافة الفساد والتمييع والتضبيع . بل المسئولة مباشرة عن جعل المغرب بؤرة للإرهاب وضحية له . لقد لعب البصري دورا مركزيا في دعم الجماعات الإسلامية على اختلاف مشاربها ، بل وفي توفير كل الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية والقانونية لتفريخ الجماعات وتمويلها .
ب ـ الخاصية الثانية وتتمثل في مستويات البطش وصنوف القهر والتعذيب التي مارستها الأجهزة الأمنية التي كان يشرف عليها البصري ضد المواطنين . لقد ولغ البصري في دماء المناضلين وكرامة المواطنين الذين أحبوا وطنهم حدّ الجنون وتمسكوا بكرامتهم التي هي من كرامة الوطن . إنها باختصار ” سنوات الجمر الرصاص” التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المناضلين ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . ومن ثم كان البصري عنوان مرحلة أليمة أفسدت البلاد والعباد وألقت بملايين الشباب في دوامة اليأس وزرعت الرعب في نفوس المواطنين من شر السياسة وشر الاهتمام بالشأن العام . بل جعل الرعب يتجسد في صفوة المناضلين بعد أن حولهم البطش والتعذيب هياكل عظمية تنخرها الأمراض ويسحقها الأسى والغبن . وإدريس بنزكري واحد من ضحايا البصري وشاهد على فظاعته .
2 ـ إدريس بنزكري عنوان النضال ومهندس المصالحة : كل الذين عاشروا إدريس بنزكري ـ رحمة الله عليه ـ شهدوا له بنيل أخلاقه وصدق نضاله . ولم تخمد فيه السنون 17 التي قضاها خلف القضبان وبين زوايا التعذيب شعلة الأمل في مغرب أرقى ووطن أرحب يحضن كل أبنائه ويشركهم في رسم آفاقه . لم يخرج من السجن حاقدا ولا ساخطا ، بل واصل نضاله من أجل إشاعة القيم النبيلة التي ناضل من أجلها إلى جانب ثلة من المناضلين الذين استرخصوا حياتهم لينعم المواطنون بدفء الوطن . وصدق الأستاذ صلاح الوديع ـ رفيق بنزكري في النضال وشريكه في ترسيخ ثقافة المصالحة ـ لما وصف الراحل بنزكري بأنه “نموذج الزهاد والنساك” . فعلا يشهد له سلوكه بالزهد والتعفف لدرجة أنه رفض تقديم ملفه طلبا للتعويض وجبر الضرر على غرار ما فعل بقية ضحايا سنوات الرصاص . لقد جسد بنزكري ومعه المناضلون الستة الذين اكتفوا بدرهم رمزي كتعويض عن معاناتهم خلف القضبان ، جسدوا ـ وبقية المناضلين والضحايا
ـ نقيض ما كان يصر البصري على تشكيله . إذ في الوقت الذي عمل البصري على صناعة الانتهازيين والفاسدين المفسدين الذين تكالبوا على ثروات الوطن وعاثوا فيها نهبا وتبذيرا وتهريبا دون وخزة ضمير أو لحظة قلق عن مصير شعب أنهكه القهر والفقر ، تصدى المناضلون لهذه الإستراتيجية وقدموا نموذجا من المواطنين الذين يغنيهم حب الوطن عن الطمع في ثروته أو السعي لنهبها . إذن نحن أمام نموذجين : أحدهما يجسد الإفساد والثاني يمثل الإصلاح .
3 ـ الملك ينتصر للإصلاح والمصالحة : بمجرد اعتلاء الملك محمد السادس سدة الحكم تواترت عنه “الإشارات الإيجابية” بأن أفقا جديدا وأرحب للمغرب بدأ يتشكل . وسرعان ما تجسدت تلك الشعارات في إجراءات قانونية وسياسية أبرزها إعفاء إدريس البصري من كل مهامه الرسمية وتنصيب إدريس بنزكري رئيسا للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان . فما أفسده البصري يصلحه بنزكري . ولعل جنازة الراحلين تكشف بوضوح انحياز الملك والدولة لخيار الإصلاح والقطع التدريجي والجريء مع مراحل الفساد ورموزه . ذلك أن تشييع جثمان بنزكري ـ وهو المناضل والضحية ـ في موكب جنائزي مهيب يتقدمه رموز النظام والدولة إلى جانب القيادات الحزبية والجمعوية ، يمثل دليل الانخراط الجدي في مسلسل الإصلاح والمصالحة . بينما جنازة البصري أريد لها أن تكون رسالة واضحة مفادها أن النظام يتخلى عن خدامه الماكرين وعازم على القطع مع إستراتيجية الفساد والإفساد التي عطلت انطلاقة المغرب وشلت تطوره . وهذه حقيقة أقر بها الراحل بنزكري في حوار نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 22/11/2005 جاء فيه (والأهم، في هذا الباب، هو ما يرتبط بالإصلاحات، فنحن عادة ما نتكلم عن الإصلاحات القانونية والدستورية والمؤسساتية، وقد تسنى لنا بالفعل ان نحدد بالضبط المكمن الذي يجب ان يتم الإصلاح على مستواه .. ولهذا، ربما فاجأ المجهود بعض الناس، لأنه تضمن تقديم مشاريع إصلاحات جوهرية وليست صدفة أيضا. فنحن جزء من هذا المجتمع، وسيكتشف المغاربة أننا نلتقي مع مشروع الإصلاح العام الواسع، وبكل صدق وصراحة سررنا كثيرا لكون جلالة الملك، يصدر أمره، مباشرة بعد اطلاعه على التقرير بنشره. ويقول جلالته “خاص الشعب يعرف هاذ الشي”، ليفتح نقاش حول الموضوع ) . وجاءت الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت ـ بشهادة السيد أحمد حرزني رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ـ في أجواء ” سليمة تميزت بحياد حقيقي للإدارة” ، جاءت تؤرخ لبداية تشكل أفق جديد لمغرب الإصلاح والمصالحة الذي يقتضي ـ من كل الضمائر الحية والطاقات الشابة والواعدة ـ الانخراط الفعال والمساهمة المباشرة في إبراز معالم هذا الأفق الجديد ، وتمكين المواطنين من عيشه وليس فقط تصوره. وللحديث بقية .
selakhal@yahoo.fr