إذا قال أدونيس إن العرب في طور الانقراض فهو ما قاله دائما وما تلقى عليه الردود عينها. قاله أدونيس وقاله قبله من شككوا ايضا في تراث الأمس وقالوا إن الحضارة العربية كانت من بدوها وسيطة وثانوية. لسنا أمام نقاش جديد، لكننا في ثقافة لم تمتنع عن أن تكرر نوافلها ولا تزال الأسئلة نفسها والردود ذاتها عليها تدور في نفس الطاحونة. قال أدونيس ما قاله دائماً فلا جديد في هذه المرة، لا جديد أساساً ولا هول في أن يقول إن ثقافة العرب اليوم ليست في مستوى العصر فهذا ما أحسب أنه من البداهة بمكان.
ليس بيننا من يعتدّ بمكانة العرب اليوم في العالم ولا بإضافتهم الثقافية فما العجب في ان يقول أدونيس ذلك ولو في محضر من الأكراد. الأكراد او الافرنج او أي كان فليست الأفكار، فيما أحسب، أسرارا، والحقائق، ان جاز أن تسميها حقائق، لا تمتنع على عربي او أعجمي اذا قصد اليها، مع ذلك فإن لمسألة الكرد هذه خصوصية، بعض مثقفينا الذين لم يؤازروا صدام حسين في «انفاله» بالطبع ولم يفرقوا بين عربي وكردي في العراق لا يستطيعون ان يصلوا بذلك الى نتائجه المنطقية، اذ لا يزالون يتحسسون من ان تقال كلمة سلبية عن العرب في محضر كردي. لماذا لا تقال كلمة كهذه لتعين الكرد ومثقفيهم على ان يخرجوا هم الآخرين من عصبيتهم الكردية. لا داعي لأن نكرر أن تماهي الثقافة بالوطنية لا يبقيها ثقافة وأن جرائر هذا التماهي خطيرة فالفاشية من جرائره. لا داعي لتكراره لكن الفرز بين الثقافة والوطنية لم يتم ولا تزل منطقة متشابكة بين الثقافة والوطنية موجودة في عقولنا وحساسيتنا. لا تزال وطنياتنا غير قادرة على التخلص من نزعة توليتارية الى التحكم بكل مرافق حياتنا وتفكيرنا.
قال أدونيس ما يقوله دوما وما لم يكن خطراً وخطيراً لولا ان أدونيس يحسن صياغته في أسلوب استفزازي. لقد كان هذا فنه دائما وهذا ما جر كثيرا من الجدالات حول مسائل لم يكن الأول في طرحها وأبرزها اثنتان: الدين وهيمنته وتقييم الثقافة العربية. هذه مسائل لم يكن فيها أدونيس الأول ولا الأكثر تطرفا لكنه الأول الذي جعل لها حضورا منبريا وأطلقها على نحو استفزازي، «العرب، اليوم في طور الانقراض» السر في كلمة انقراض. انها لفظة فيها قدر من العدائية وقدر من الإعلان والتحريض السلبي. سيشعر كل سامع بأنه هكذا سيلحق بالديناصورات وسيغدو في ما قبل التاريخ. لو قالها أدونيس في عبارات أخرى لما أثار ما أثار. لا بد ان شرحه المسهب في رده المنشور في «السفير» كان أقل استثارة. قال فيه إن تجربة النهضة كانت فاشلة وإننا نزداد تأخراً عن عصرنا، وهو قول قد يشاركه فيه الكثيرون ممن استفزتهم عبارة الانقراض. خارج هذه العبارة تبدو المعركة غير ذات محل. سبق لسمير قصير في «تأملات في الشقاء العربي» ان قال ما أعاد قوله أدونيس في رده. قال إن ميزاتنا تحولت لعنة علينا وأننا بدأنا النهضة مع اليابانيين وانظر أين صاروا وأين صرنا ولم يتهم أحد سمير قصير في وطنيته كما أحسب. لا نبرئ أدونيس من ان يكون الاستفزاز مقصودا فهو ممن يحبون المعارك لكننا نعجب لمن ينجرون رغم حصافتهم وبسرعة الى هذا الاستفزاز.
بعيدا عن الاستفزاز هل من واجب المثقف ان ينتصر لثقافة بلده وهل هذا دين في عنقه. باح نيتشه باحتقار الثقافة الألمانية وخاصة بالقياس الى الثقافة الفرنسية التي طالما امتدحها. وهجا غينسبرغ أميركا هجاءً مراً وكره بيتر هندكه النمسا علانية ولم أعلم ان أحدا انتقص هذا فيهم. بل أجنح الى القول، على حسابي، بأن شيئا من الخصومة ينبغي ان ينشأ بين المثقف (المفكر والأديب) وبين ثقافة بلده ولغته، وأن الأحرى بالمثقف والكاتب العربي ان يعلم أنه لن ينتج شيئا في هذه اللغة اذا لم يستفزها ويعاركها. ولن ينتج شيئا في هذه الثقافة ان لم يهز أسسها وأبنيتها. رجوعاً إلى أدونيس، السؤال الذي أظنه مشروعا وغير مشروع في آن معا. هو أين مكان أدونيس من الثقافة التي ينتقدها ويعتبرها عقيمة (منقرضة). هل يعتبر نفسه من ضمنها فيجري عليه الحكم الذي رماها به (الانقراض). سؤال غير مشروع لأنه يعرقل أي جدل حول أي ثقافة. لا بد، بداهة، ان يكون منتقد ثقافة مثقفاً ويجوز أن يكون مؤلفا في لغة الثقافة التي ينتقدها وسيواجه دائما السؤال نفسه، هل يخرج اسمه من الثقافة التي ينتقدها وفي هذا، بالطبع، حرج كبير ان لم نقل غطرسة على الثقافة التي أطلقته وانتصارا مجانيا عليها. غير أن أدونيس ليس نكرة في ثقافة العرب اليوم ويمكن القول انه، تقريبا اذا نظرنا الى العقود الأخيرة، منذ ستينيات القرن العشرين الى الآن أوفر المثقفين العرب تأثيرا. بل يمكن القول ان الرجل كان في آن واحد شاعر المرحلة ومفكرها، وفي وسعنا القول إنه طبع حقبة كان فيها محور النقاش الذي كثيرا ما ينقسم حوله، وله تلامذته ومقلدوه وبالطبع خصومه. شخص كهذا لا بد أنه يحمل مسؤولية عن حال هذه الثقافة وليس في مقدوره ان يتنصل منها. ليس في وسع أدونيس ان يقول انه خارج هذه الثقافة، فالقصيدة الحديثة على سبيل المثال قد سادت بسرعة وأدونيس من مؤسسيها، وجرياً على هذا فأدونيس الشاعر المفكر قد شارك في صياغة النموذج الحالي من «الحداثة» العربية بل هو من أبرز صنّاعه ومسؤوليته في ذلك لا تنكر.
ثم ماذا عن الانقراض. ليس الانقراض حكماً. انه زوال النوع والثقافة العربية تتكاثر أيا كان التقدير لمستواها. هل ينكر أدونيس ان الشعر العزيز عليه والقاعدة لفكره هو حقا في طور الانقراض، فهو شبه نكره وشبه غائب عن كل المحافل والمنابر. هل ينكر ان بعضا من الأنواع الأدبية الموسيقية انقرضت حقا وباتت في التاريخ: واذا كان المقصود بالانقراض التأخر والتردي فهذا ما يقال الآن في الثقافة الفرنسية اليوم، لا حاجة اذن للاستفزاز في هذا الباب. ثم في النهاية ما هي الثقافة العربية اليوم، أليس هناك ما يدعونا الى التشكيك في المصطلح نفسه. هل يكفي النتاج الأدبي والفني، على حاله اليوم، لتكوين ثقافة. أين الفكر وأين العلم وأين الجمــهور وأين المجتمع والدولة، وهل يمكن ان نطلق اسم ثقافة على ابداع بلا نقد وعلى فن بلا فكر وعلى الاثنين بلا جمهور او مجتمع. لست أجزم هنا لكني أتساءل اذا كان لهذه «الثقافة» ذاكرة وتراكم، واذا لم نكن اكثر من بوارق ومغامرات فردية، تتقاطع لكنها قلما تؤسس فضاء او مجالا وقلما تتمرحل او تتحقب.
يرى فواز طرابلسي ان أدونيس يحكم بالاعدام على حضارة وشعب، كلام فواز يسبقه على غير عادة. أحقا يمكن الكلام فورا وبلا توسطات عن «حضارة» و«شعب» عربيين اليوم، هل لدينا ما يكفي لتكوين حضارة، وهل يمكن، بسهولة، إدراج العرب المجزئين في كيانات وأقاليم في شعب واحد. أظن أن أدونيس كان يقصد بالاستقلال والثقافة الحرة والمؤسساتية شيئا أكثر من الاستتباع السياسي للسلطات القائمة، لكن فواز شاء أن ينزل فورا إلى درك السياسة المباشرة، مع أو ضد السلطة، وأي سلطة: وهابية او بعثية او طغمة عائلية او عسكرية أو، أو.. لا أعرف ان في مقدور هذه السلطات ان تنتج ثقافات موالية او تستتبع ثقافات. كل ما في الأمر لا يزيد عن مداحين ومرتزقة ليس لهم في الغالب ذكر او تأثير، أما الذي ليس «نزراً يسيراً» كما يحسب فواز طرابلسي فهو الثقافة المعارضة. فالمعارضة تكاد تكون «اتيكيت» ملازما لثقافتنا الحاضرة، بحيث يكون الانشقاق عن السلطة والتنديد بها اول اعلانات المثقف وأول تقديمه لنفسه. في متخيل الكاتب العربي هذا الصراع الثنائي بين الأديب او الشاعر والسلطان. لا تستطيع السلطات العربية (وهي ليست دولاً) ان تكوّن هيمنة ثقافية. لا أعلّم هذا لفواز وأنا الذي قرأت غرامشي اول ما قرأت، في ترجماته. ليس في مقدورها احتواء مثقفين وكتابا جادين لذا تكتفي ببواقين، على هذا فإن «المعارضة» واحدة من السمات الهيكلية لنتاجنا الثقافي. بوسعنا القول على هذا، ان الثقافة السائدة هي الثقافة المعارضة وأن تابوات الثقافة ومقدساتها وأوتادها هي التي للعقل المعارض اذا جاز التعبير، انها ثقافة معارضة ولكن أي ثقافة. هذا هو السؤال، وليس يهم كثيراً البعد عن السلطة، اذا كان عقل هذه الثقافة بدوياً (الفروسية والجماعة الرحمية والأم الأمة) او فاشياً (المخلص والقائد) أو شعبوياً (شعبنا العظيم). ثقافة معارضة لكنها متماهية مع وطنية بائسة أو إحيائية او انتظامية تحت صورة القائد او كره للغرب او فروسية آبدة. لا تكفي اذن «مقاومة السلطة» فهذا معيار من يوميات السياسة لكن ما تستتبع له هذه الثقافة هو سلطات أكثر فرضاً. انها خليط ايديولوجي لا يتجانس او يستقر إلا على أساس ماضوي لا ديموقراطي شعبوي. هذا النسيج قد يتحكم بأكثر النصوص معارضة، وأكثرها حدة وصراخا قد ينطوي على عقل غير بعيد عن الفاشية، لا تنتج المعارضة بالضرورة فكراً مستقلاً فقد يكون عقلها هو الآخر من خرافات وتهويمات. ليست الدعوى الرجعية الصريحة وحدها التي يمكن أن تكون هنا ولكن في التمويه الشعبي والوطني ما لا يخرج عن ايديولوجيا رجعية واستبدادية، زد على ذلك السذاجة والادقاع الثقافي، أي أننا لا نستطيع أن ننسب إلى الثقافة المعارضة لا استقلالاً ولا مستوى معاصراً، وأحيانا لا نستطيع ان ننسب إليها ثقافة.
إن قسمة الأدب بين موال للسلطة ومعارض لها أبسط مما يجب، ويعرف فواز أكثر مني أنها قسمة نضالية فحسب. قسمة على مستوى الفعالية السياسية المباشرة التي ليست إلا في القليل، ذات معادل فني. يعرف أن الأدب النضالي لم يكن في يوم قمة الأدب وأن القليل القليل منه يستأهل البقاء بعد انقضاء ظرفه. لا يؤثر الفن النهايات الواضحة التي يطيح بها الزمن، بل يؤثر الالتباس والإشكال لتبقى الحقيقة ممكنة، وليبقى الأثر قابلاً لقراءة مستقبلية. ليس ريتسوس الأفضل، هو شاعر القصائد السياسية، ولو أحبها فواز، لكنه شاعر قصائد متوترة مشوبة، لعلم فواز، بالعدمية.
لا أرفض السياسية في الأدب على أي وجه كان، وللأدب التحريضي مكانة بدون شك لكني لا أُقيم منه معياراً. أظن أن للسياسة بعداً أنطولوجياً هو الذي يجعلها فقرية عضوية في العمل الأدبي، وأمثّل بماكبث لشكسبير، لكن هذا البعد قلما يحضر في أدبنا. أُحيلك على هذه القصائد التي تتحدث عن فلسطين، ألست تراها، في غالبيتها، ارتجازاً عشائريا حربيا ثأريا. أليس أقرب إلى العراضات الشعبية، ألا يبدو المنشد هنا قوالاً أكثر منه شاعراً وفناناً. مع ذلك لا نشك في صدق نواياه ولا وطنيته ولا مقاومته، إلا أننا نعلم أن الثقافة لا تُختزل في ممارسة سياسية ولا تقاس عليها.
كلام فواز يسبقه، انه يسارع إلى وصم خصمه بالعدمية العبثية وهذه كما يعلم اكثر مني، مصطلحات لا يجوز فيها الاستعمال السياسي المباشر، فهي كذلك تغدو جوفاء وبلا تاريخ. ثم انها ليست تهما لتلقى دفعة واحدة وعلى عجل. يفعل ذلك من يصنمون الكلام وينسبون له قيما جاهزة، إن خيراً وإن شراً، وليس فواز منهم. أما مرض الغراب وهو «لون غريب من الهوس المرضي بالغرب» كما يشخص فواز فهذا من قبيل السرعة ايضا، اذا كان «مصطلح العرب استخداماً للجنس ينتمي الى استشراقية ذاتية» فماذا يكون الغرب ايضاً. هكذا أيضا تنجرّ الى الاستعمال السياسي المباشر مشكليات كبيرة لا أظن ان هذا مكانها. لا أظن أن ما يسميه طرابلسي «الهوس بالغرب» غريباً ولا مرضاً، والمستغرب هو بت مشكلة تخترق، ولا تزال، تاريخنا الثقافي بهذه السرعة والجزم والمصطلح.
ثم ما هي كوكبة الشعراء والأدباء التي سماها فواز. بعضها يعنيني في قليل او كثير، لكنها في الجملة مصداق لتناول فواز السياسي. لا أظن ان فواز اجتهد في الانتقاء، لقد جمع ما جاء على ذهنه من السائد الموصوف، وخيراً فعل فلو اجتهد ولو اضاف او انقص لما تغير الأمر. يمكننا ان نفرد كاتبا أو نفرد أثرا لكننا في الجمع نظل في المشكلة نفسها. لا أعرف اذ كان كل هؤلاء أو جلهم قد ناوأوا سلطاتهم، لكنهم في الجملة موازييك مشوب بسبب بعضه بالبداوة والشعبوية والفاشية المضمرة والرجعية المستترة. ثم لا يبرأ أيضاً من الادقاع الثقافي والسذاجة الاخلاقية والفكرية والدوغماتيكية والاصطلاحية. اقول بعضه لا يبرأ وبعضه لا يبقى هو نفسه اذا وضع في هذا الجمع وذلك الإطار.
أما الاتهام النوبلي لأدونيس فأُجّل عنه فواز. لماذا يجد في هذا تهمة. كل كتاب العالم يسعون إلى نوبل او يريدونها ولا يعتبر هذا نقيصة او مذمة. انه جزء من عملهم، سيكتبون وينتظرون ان يجازوا على ذلك بالشهرة او الجائزة التي تجعلهم اشهر. ليسوا نساكاً ولا ينتظر منهم أن يكونوا كذلك. لماذا نحتقر مجددا المصلحة او الطموح، وفي أي ثقافة، أو نظرة يندرج هذا الاحتقار؟