رحل شمعون بيريز، الرئيس الإسرائيلي الأسبق، عن عمر ناهز الـ93 سنة. لقد كُتب الكثير عنه، أكان قدحاً عربيّاً واصفاً إيّاه بالمجرم أو مدحاً غربيّاً مُسبغاً عليه نعوت رجل السلام. لا أريد التطرّق لا إلى القدح العربي ولا إلى المدح الغربي، فالمدح والقدح كلاهما ذهبا في المبالغة مبلغاً ابتعد من الحقيقة. لم يكن بيريز مجرماً قياساً بما نرى في العالم العربي، ولا كان رجل سلام أيضاً قياساً بزعماء آخرين يستحقّون إسباغ مثل هذه الصفة عليهم.
كلّ ما في الأمر أنّ هذا الرجل، ومنذ قدومه إلى البلاد فتى، نذر حياته للعمل لمصلحة شعبه. صحيح أنّه لم يكن جنديّاً ولم يخض حروباً أو يصبح جنرالاً، غير أنّ ما قدّمه لشعبه خلال مسيرة حياته السياسية لا يُقاس بمثل هذه المقاييس. على رغم كلّ ما قدّمه، فقد كانت الخيبات السياسية تلاحقه في الكنيست، كما كان من أكثر السياسيين الإسرائيليين كرهاً من جانب الجمهور الإسرائيلي. فقط في السنوات الأخيرة، وبعد أن وصل إلى منصب رئاسة الدولة إثر فضيحة الرئيس السابق كتساف الذي لا يزال يقبع في السجن، بدأت شعبية شمعون بيريز تظهر إلى العلن.
والآن، وفور نشر خبر وفاته، انهالت كلمات التأبين على إسرائيل وشعبها، كما تقاطرت الوفود من شتّى أنحاء العالم وعلى رأسها الرئيس الأميركي الحالي، باراك أوباما، والأسبق كلينتون، وانتهاءً بالرئيس الفلسطيني محمود عبّاس. ملوك، أمراء ورؤساء جاؤوا تكريماً لهذا الرجل الذي لا يمكن البحث في التاريخ الإسرائيلي منذ قيام إسرائيل من دون العثور على آثار لأصابعه المحرّكة للكثير من قضاياها، بعضها في العلن وبعضها من وراء الكواليس، والكثير منها سيبقى خفيّاً ولن يكشف النقاب عنه في القريب.
مهما يكن من أمر هذا الرجل، فهنالك هاجس واحد شغل باله طوال حياته السياسية. هذا الهاجس هو مصلحة شعبه ودفع دولته قدماً على جميع الأصعدة. فعلى رغم فشله السياسي على الساحة المحلية وانتكاساته الانتخابية المتكرّرة، كان دائماً يجد لنفسه مقعداً خلفيّاً في القطار الإسرائيلي السائر قدماً، أو يشقّ لنفسه سبيلاً له يسلكه لمواصلة خدمته لشعبه ودولته.
المتابع العربيّ لما يجري في هذه المنطقة يجد نفسه مضطرّاً إلى إجراء المقارنات بين موت هناك وموت هنا، بين موت زعماء هناك و«موت» زعيم هنا. فها هو أكثر الزعماء الإسرائيليين إشكالية من وجهة نظر الجمهور الإسرائيلي، يحظى بهذا التكريم المحلّي والعالمي بعد موته، حيث ووري جثمانه في مقبرة «عظماء الأمّة» الواقعة في جبل يحمل اسم هرتسل، مؤسس الصهيونية والمبشّر بإنشاء دولة لليهود في هذه البقعة من الأرض.
كما أنّ المتابع لما يجري في منطقتنا يجد نفسه مضطرّاً لاسترجاع صور من ذاكرة ليست بعيدة لموت «زعماء» من أبناء جلدتنا. فعلى خلفية جنازة الزعيم الإسرائيلي، يتبدّى الفرق جليّاً بين موت هناك وموت هنا. هكذا تعود بنا الذاكرة إلى انتشال «زعيم» عربيّ من حفرة في الأرض في بلاد الرافدين بما ظهر من مهانة في أحواله، وحتّى اقتياده لاحقاً إلى حبل المشنقة. وهكذا أيضاً تعود بنا الذاكرة إلى انتشال «زعيم» عربيّ آخر من حفرة أخرى في أرض عربية أخرى واقتياده وسحله في أبشع صورة. وعلى هذه الخلفية أيضاً، تتبدّى بشاعة الصورة التي يعرضها علينا «زعيم» عربيّ آخر وارث للسلطة في بلد عربيّ آخر دمّر بلداً بأكمله جاعلاً منه أنقاضاً فوق رؤوس العباد الذين يدّعي زعامتهم ويدّعي تمثيلهم.
لن نعود بالذاكرة إلى المصائر التي لقيها الخلفاء والأمراء، فقد دوّنها لنا السلف في مأثوراتهم وتناقلتها الأجيال العربية على مرّ التاريخ العربي. وعلى رغم كلّ هذه المآسي المتوارثة جيلاً وراء جيل، لم نتعلّم نحن العرب درساً من تاريخنا الدامي، لم نخلق شعباً وَلم نبنِ وطناً جامعاً عابراً لشراذمنا.
خلاصة الكلام، يسعنا القول إنّه حتّى الموت يفرق بين ثقافة هنا وثقافة هناك. وما لم نتخطَّ هذه العقبة الكأداء، ما لم نجنح إلى حساب النفس، ما لم نأخذ عبرة أو نتعلّم درساً، فإنّنا بلا شكّ مندثرون دارسون. فهل من مجيب؟
* كاتب فلسطيني