لعل اكثر ما تكشفه الثورة السورية اليوم هو الازمة الاخلاقية التي تعاني منها العديد من القوى السياسية ذات النزعة الايديولوجية في لبنان. ويمكن تلمس هذه الازمة بشكل فاضح ومريب في محاولاتها تفسير ما يقوم به الثوار السوريون على انه “مؤامرة اميركية لاستهداف المقاومة ضد اسرائيل”. ويتورط المتسلحون بالتحرير والغاء الطائفية السياسية من هذه القوى، بوصف ما يجري من انتفاضة شعبية انه مؤامرة طائفية او مذهبية بدعم غربي هدفها القضاء على الشيعة والمسيحيين او تهجيرهم. هذا ما يمكن ان تسمعه في العديد من الدوائر الشيعية المحيطة بحزب الله وحركة امل ويمكن ان تتلمسه لدى فقهاء السياسة والفكر والتحليل في التيار الوطني الحر وحلفائه.
ولعل مقولة “سورية الاسد” التي استفحلت في الخطاب اللبناني الممالىء للنظام السوري لعقود، تجد تفسيرها اليوم لدى شرائح سياسية متنوعة في المجتمع اللبناني، بأن سورية الدولة والدور هي مرادف لآل الاسد. ولا معنى حقيقيا لسورية سوريا وقوميا لهذا البلد بمعزل عن الاسد سواء كان الاب الراحل او الابن الصامد والسلالة الاتية. هكذا لم يجد اصحاب المقولة ضيرا في الترويج لها وتبنيها، في وقت يرذلون بموضوعية خطابية، كل ما يتصل بالاقطاع السياسي وبالعائلية الذي حاول احتواء لبنان واختصاره سواء عبر “الحريرية”، او سواها ممن سعى ويسعى لاختصار البلد او الطوائف والمذاهب في تاريخه الحديث بعائلة ما.
ينكفىء الخطاب المقاوم والممانع والتحريري، نحو دوائر عصبية ينهل من امراضها، ويستقوي بها ويدجج جمهوره بمنطق انقسامي، ويطلق العنان لكل ادبيات الانقسام المذهبي المتخلف، فقط لمواجهة مقولة التحرر ومسارها. فحين يصعب الرد على مطالب الحرية والكرامة ومقاومة الظلم والتسلط والمصادرة للشعب السوري، تُستحضر المؤامرة كجواب وينتعش الخطاب المذهبي، وتُستجلب الروايات الدينية في محاولة اسقاط تعسفي محبوك بدجل على العقل والدين. لا لشيىء الا لتبرير سحق المظلوم ودعاة الكرامة الانسانية في المقلب الاخر، ليتحول مطلب الحرية للشعوب، الى رجس من عمل الشيطان. لا بل تستكمل هذه الثقافة السياسية مسيرتها المريبة والمأزومة، لتعلي من شأن القوة في مواجهة قوة الحق، فيصبح قتل المدنيين عملاً مشروعاً، لا بل بطولياً من قبل اجهزة النظام في سورية، ما دام هؤلاء لا يسلمون بحكمة هذا النظام ورموزه.
عند اول تحدٍّ تتهاوى “منظومة المقاومة” بوصفها تعبيرا عن ارادة الشعوب
في مؤدى هذه الثقافة ان احدا غير النظام السوري واتباعه يستحق ان يستمر، لابل تتحول مقولة ارادة الشعب والخيارات الحرة للمواطنين الى مقولات استعمارية، ويتخلى بعض دعاة المقاومة في لبنان بسرعة بهلوانية عن مقولة راسخة في خطابها ان الانظمة العربية والاسلامية المستبدة هي من يمنع هذه الشعوب من مقارعة اسرائيل ومشاريع السيطرة الاستعمارية على المنطقة ويحول دون عيشها بكرامة. هكذا، عند اول تحدٍّ، تتهاوى منظومة المقاومة كتعبير عن ارادة الشعوب وتطلعاته الى الحرية. وهكذا يتخلى حزب الله عن تعاطف الشعب السوري ودعمه، ليقف الى صف النظام الاستبدادي حين تعلق الامر بخيار الشعب السوري. وحينها بدأ التشكيك بثورة مصر وبثورة تونس الى حد التمني الذي يرشح من مواقف دعاة “الممانعة والمقاومة” بعودة مصر وتونس الى ما كانتا عليه قبل التغيير الاخير والمستمر. والاهم، لقد بات اصحاب دعوات اسقاط معمر القذافي في ليبيا ومحاسبته منذ عقود في لبنان، ينقلبون على الاف المواقف والتصريحات ضده، ويلوذون بالصمت.
مع امساك حزب الله واحزاب الممانعة بمفاصل السلطة في لبنان، تتكشف صورة السلطة بوضوح، لتبدو المقاومة او الناطقين باسمها اليوم، هم اقرب الى الانظمة، ليس بوصفها تحولت الى سلطة وتمسك بمفاصل الدولة تقريبا فحسب، بل في السير على خطى النظام العربي، في استخدامه العصبيات وصراعها وسلطة الدين وسطوة الامن كوسيلة للبقاء من جهة، وتشكيك هذه القوى بالثورات العربية وما تحققه من تغيير. في المحصلة ينجح حاملو لواء “المقاومة والممانعة” اليوم في تحويلها الى نظام وسلطة رسمية. ولكن، سلطة لا تترجم مصالح الشعوب وتطلعاتها، بل تسقط في حبال النظام العربي حين تعلن بجرأة سلوكها ان انهياره يعني سقوطها. غزة 2 لم تعد تحذيرا محمّلا بالخصومة والتخويف… باتت أقرب مما نتصوّر.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد