إنشاء «مجلس أمن قوميّ» يمهّد لانخراط «حزب الله» في الدولة وتفكيك المنظومة العسكرية بعد العودة من سوريا
يغيب الكلام، إلى حد كبير، عن الدور الروسي في «طبخة التسوية» حول انتحاب رئيس الجمهورية وإنهاء الشغور في سدّة الرئاسة الأولى وخروج المؤسسات الدستورية من حال الشلل الراهن وعودة الحياة السياسية إلى طبيعتها. غير أن مسؤولاً روسياً في أحد مواقع القرار وَضَعَ صديقه اللبناني في صورة مفصّلة عن المسعى الروسي.
في الرواية أن الفاتيكان فاتَـحَ قبل أشهر عدة الكرملين حول خطورة بقاء لبنان من دون رئيس، ولا سيما أنه الموقع الماروني الأوّل في البلاد، وذلك في ضوء سعي روسيا للعب دور الحامي للأقليات الدينية، ولا سيما المسيحية في الشرق الأوسط، ولبنان من ضمنها. التحرّك الفاتيكاني باتجاه موسكو ينطلق من اقتناع سائد لدى العديد من الدول الكبرى بأن العقدة في طهران، وبالتالي قد يكون بمقدور روسيا لعب دور إيجابي في الحلحلة انطلاقاً من علاقتها الوثيقة معها. إستمزجت موسكو حليفتها طهران، وتولى المهمة نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الذي بحث الموضوع مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونائبه حسين أمير عبداللهيان. قال للإيرانيين إنه إذا كان طرح اسم العماد ميشال عون لا يحظى بالتوافق، فلا بد من الذهاب نحو مرشح توافقي، إذ من مصلحة الجميع أن يبقى لبنان بمنأى عن النيران المشتعلة حوله وانتقالها إليه، واستمرار الفراغ قد يُفضي إلى تسرّب حال الفوضى واللااستقرار. تبلّغ الروس، على ضوء تلك المحادثات، أن طهران تسير بالمرشح سليمان فرنجية، فهو يُشكّل الضمانة المطلوبة لحماية «المقاومة». في القراءة الإيرانية أن واحداً من أسباب انخراط «حزب الله» في الحرب السورية هو حماية سلاحه، غير أن تعقيدات المشهد السوري وعدم حسم الأمور وفق خطط «محور الممانعة»، بات يتطلب الحصول على ضمانة داخلية. تلك الضمانة يُشكّلها فرنجية الذي سيُنتخب لست سنوات مقبلة، وهو شخص موثوق ومُجرّب ويُؤتمن جانبه من قبل الحزب والحلفاء.
أضحى اسم فرنجية في جعبة الروس. وحين زار ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان موسكو في حزيران الماضي، تمّ جس نبض الرياض. ومنذ ذلك الوقت، بدأ التحضير لطبخة التسوية التي ليست واشنطن ولا باريس بعيدتين عنها.
في رزنامة التواريخ المُعلَنة، التقى بوتين الرئيس سعد الحريري، في منتجع سوتشي، واعداً بالسعي مع الدول المعنية، ولا سيما إيران، لتسهيل الانتخابات الرئاسية. وزار «سيّد الكرملين»، في حزيران، الفاتيكان، ليخرج اللقاء برؤية مشتركة حول ضرورة «أن تتوفر في الشرق الأوسط الشروط اللازمة لبقاء كل مكوّنات المجتمع، ومن ضمنها الأقليات الدينية وخاصة المسيحيين». واستقبل الأمير محمد بن سلمان في الشهر ذاته. هذا فيما سُجلت عدة لقاءات بين بوغدانوف والمسؤولين الإيرانيين على مدى الأشهر الماضية. وظهر في حزيران الموقف الأول لبوغدانوف، الذي يشغل أيضاً منصب المبعوث الخاص لبوتين، حول ضرورة أن يُفسح عون المجال أمام مرشح توافقي، وهو موقف نقله السفير الروسي لدى لبنان للجنرال نفسه في خضم التحضيرات للتسوية التي تُظهر رزنامة التواريخ أيضاً زيارة لوزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس لطهران في تموز، حيث كانت «رئاسة لبنان» بنداً أساسياً على طاولة البحث، تماماً كما يتكشف يوماً بعد يوم أن عملية تحضير المشهد الداخلي سبقت بأشهر الإعلان عن تبني الحريري ترشيح فرنجية. وتأتي دعوة الأمين العام السيد حسن نصر الله في «يوم الشهيد» في الحادي عشر من تشرين الثاني للذهاب إلى تسوية ضمن «سلة واحدة» لتشكّل التمهيد العملي لانطلاق المسار الذي تلقفه الحريري، فشكل لقاؤه مع فرنجية في باريس الخطوة الأولى الملموسة.
ويذهب المسؤول الروسي، في شرح مفصّل لمفهوم الضمانات التي يطالب بها الإيرانيون لحماية «حزب الله». الحديث هنا لا يتناول ما كان «محور الممانعة» يطرحه بين الحين والآخر عن «مؤتمر تأسيسي»، ذلك أن نصر الله نفسه أعلن أن التسوية ستكون تحت سقف «الطائف». الكلام يذهب في اتجاه كيفية انخراط «حزب الله» في الدولة، وتالياً استيعاب ترسانته العسكرية عدّة وعديداً. فالحزب بمنظومته العسكرية والأمنية يشكل «دويلة ضمن الدولة» قوامها عشرات الآلاف من المقاتلين المدرّبين والعناصر اللوجستية في مجموع قد يصل إلى 80 ألفاً. ولا بد من إيجاد المخرج لتحقيق هذا الانخراط والاستيعاب، وصولاً إلى تسليم تلك الترسانة إلى الجيش ودمج عناصره، كما حصل سابقاً مع الميليشيات التي سلّمت سلاحها بعد «الطائف» في أوائل التسعينات من القرن الماضي. وتدور الأفكار حول إمكان أن يتم إنشاء «مجلس أمن قومي» يضم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء المختصين، والأهم رئيس مجلس النواب بما يضمن مشاركة الطائفة الشيعية في هذا المجلس الذي يُناط به قرار السلم والحرب. تلك الأفكار، وإنْ حملت في طياتها تعديلاً محتملاً لـ «اتفاق الطائف، الذي ينص على أن «رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لمجلس الوزراء»، فإنها قد تُشكّل عامل اطمئنان للمكوّنات الطائفية.
على أن ثمة ما حصل على طريق التسوية آل إلى تجميدها في الوقت الراهن. أسرّ المسؤول الروسي لصديقه اللبناني - الذي كان ممثلاً لحزبه في موسكو قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وأقام شبكة علاقات متينة مع قيادات حزبية روسية أضحت اليوم في مراكز القرار في الدولة - أن حال الجمود الذي أصاب التسوية يعود إلى التطورات الداخلية في إيران، والتي تشهد صراعاً محموماً بين الخط الذي يمثله الرئيس حسن روحاني ومِن خلفه الإصلاحيون والمعتدلون، وفي مقدمهم هاشمي رفسنجاني ومحمّد خاتمي، والخط الذي يمثله المحافظون ومن خلفهم المرشد الأعلى علي خامنئي والحرس الثوري. هذا الصراع مرشح لأن يشهد مزيداً من التصعيد، بحيث يزج، كل من الطرفين، بما يملكه من أوراق قوة في المعركة الدائرة من أجل ضمان فوزه في انتخابات مجلس الخبراء والانتخابات التشريعية اللتين ستجريان معاً في أواخر شباط المقبل، والتي من شأنها أن ترسم معالم إيران المستقبل الخارجة من عزلتها إلى رحاب العالم الأوسع من بوابة توقيعها الاتفاق النووي، وتحدد كيفية تعاملها مع كثير من الملفات، ليس الداخلية فحسب، بل تلك الإقليمية الشائكة المنخرطة فيها حتى العظم، من العراق إلى سوريا واليمن والبحرين وباكستان وأفغانستان، وصولاً إلى لبنان الذي أضحى اليوم مجدداً «رهينة» التنافس الداخلي بين روحاني والحرس الثوري، ودخلت معه «التسوية المُفترَضة» مرحلة التجميد إلى حين انتهاء الاستحقاقات الإيرانية وتبيان موازين القوى الجديدة التي ستحكم طهران وطريقة تعاملها مع مجمل الملفات!
تأجيل مرتقب للاستحقاق يضرب معه الروس موعداً جديداً في ربيع 2016، إذا لم تطرأ تطورات أخرى في ساحات الصراع المفتوحة تعيد خلط الأوراق، ولا سيما في الساحة السورية التي تجهد روسيا لإحداث اختراق فيها، عبر إنعاش التسوية السياسية، تُجنّبها كأس الاستنزاف والغرق في المستنقع القاتل.
rmowaffak@yahoo.com