تكلمنا عمّا تجلى في وقفة بوش الابن، وموعظته، على البوسفور، من محاولة إنشاء سدود، وتحويل روافد، وصب الماء في طاحونة ما (الإسلام السياسي). والواقع أن كل الإدارات الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حاولت القيام بأمر كهذا في الشرق الأوسط، الذي ورثته كقوّة إمبراطورية، بعد أفول شمس الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، وضاعفت موارده النفطية، والحرب الباردة، من قيمته الاستراتيجية.
وثمة ما يكفي من الشواهد للقول إن إيران كانت فرس الرهان. فهي تحد السوفيات (لبناء محطات مراقبة إلكترونية، وعرقلة تقدّمهم برياً، والحد من نفوذ الهند، ومقاومة المد الشيوعي في باكستان وأفغانستان)، وتملك النفط، وعراقة التاريخ، وحيوية الثقافة. ومع هذه الأشياء كلها فهي بلد إسلامي يقيم علاقات مع إسرائيل (ويزوّدها بالنفط أيضاً)، يعادي الشيوعية (والقومية الراديكالية المصرية والعراقية)، ويصادق الغرب. وفي حال استثماره للموارد النفطية في مشروع للتحديث الاقتصادي والاجتماعي، فإن صعوده إلى مرتبة النموذج المُلهم لشعوب المنطقة، والشرطي إذا استدعى الأمر، يضمن السلام الأميركي (Pax Americana).
لم تتبلور كل هذه التصوّرات دفعة واحدة، ولم تكن بلا مُنغصات. فقد كان على الأميركيين الإطاحة بمُصدّق، الذي طالب بحصة عادلة في ثروات بلاده، وكان عليهم غض النظر عن طموحات الشاه ونزواته، كما كان عليهم تهدئة واحتواء مخاوف السعوديين وبلدان الخليج. وقد تبلورت كل تلك التصوّرات، في أصفى صورها، في عهد إدارة نيكسون ـ كيسنجر في البيت الأبيض.
وبهذا المعنى يمكن فهم حجم الكارثة الاستراتيجية التي لحقت بالسلام الأميركي، بعد سقوط الشاه، خاصة وأن السنوات التي سبقت سقوطه شهدت تقاربه مع مصر، التي تصالحت بدورها مع إسرائيل، وبدا لوهلة من الوقت وكأن الشرق الأوسط عثر، أخيراً، في الشراكة المصرية ـ الإيرانية على الوصفة السحرية لاستقرار النظام الإقليمي وأمنه، وتطبيع وجود إسرائيل، وضمان موارد النفط.
كانت السعودية حليفاً دائماً للأميركيين، ولكن خصوصية نظامها الاجتماعي والسياسي، وتشددها الديني، وضعف مواردها البشرية، لم يجعل منها مرشحة مُحتملة لدور النموذج المُلهم الذي يمكن لآخرين التماهي معه، ومحاولة تقليده. وبالنسبة لمصر، فقد أرادوا لها ألا تغرق وألا تعوم (هذا التعبير لأستاذنا هيكل)، ولم يكن في الوارد تمكينها من استعادة دورها القيادي السابق في الزمن الناصري، ففي كل صعود محتمل لمصر (وهي تملك كل مقوّمات النموذج المُلهم) ما يُهدد السلام الأميركي، كما في سقوطها ما يهدده، أيضاً. لذا، يجب أن تبقى ما بين الحياة والموت.
وقد حاول الأميركيون، وغيرهم طبعاً، فهم لماذا وكيف سقط الشاه، وضاعت إيران، وصعد آيات الله في طهران. ويبدو أن أحد الدروس المُستفادة تمثل في خلاصة مفادها أن سرعة التحديث الاجتماعي، محفوفة بالمخاطر، لذا ينبغي تحقيق التوازن بين التحديث والإسلام. ولن نجد، في الواقع أفضل تمثيل لدروس أنجبها الزلزال الإيراني من تقرير للجنة الثلاثية صدر في العام 1981.
يحتاج الكلام عن اللجنة الثلاثية (Trilateral Commission) إلى صفحات كثيرة. ويكفي القول إنها نشأت في العام 1973، بمبادرة من الملياردير الأميركي ديفيد روكفلر، وأستاذ السياسة والاستراتيجية بريجنسكي، الذي عمل مستشاراً للأمن القومي في إدارة كارتر (كان مهندس مصيدة الدب الروسي في أفغانستان، والجهاد الأفغاني)، لتكون منصّة للتفكير، ورسم السياسات، وضمّت في عضويتها نخباً اقتصادية، وسياسية، وأكاديمية وإعلامية، تمثل مصالح ثلاث كتل ديمغرافية، واقتصادية، وسياسية، في العالم: أميركا الشمالية، وأوروبا (الغربية في حينها) واليابان، والتحقت بها نخب صينية بعد انفتاح الصين.
ولن تتجلى أهمية اللجنة المذكورة ما لم نضع في الاعتبار أنها ضمت في عضويتها أميركيين التحقوا بها قبل تبوء مناصب رسمية، أو بعدها، الرؤساء: كارتر، كلينتون، وجورج بوش الابن، وزراء الخارجية: كيسنجر، ومادلين أولبرايت، وزراء الدفاع: ثلاثة أرباع من شغلوا المنصب، وإليهم يُضاف الكثير من شاغلي منصب مستشار الأمن القومي، ومدراء أجهزة الأمن، وقائمة طويلة من الموظفين الحكوميين، ورجال المال والإعلام.
ويكفي أن نعرف، أيضاً، أن بريجنسكي كان أحد كبار الداعمين لباراك أوباما، وأن الأيام العشرة الأولى بعد فوز الأخير بالرئاسة شهدت تعيين أحد عشر عضواً من اللجنة الثلاثية في مناصب قيادية في البيت الأبيض منهم: وزير الخزانة، ومستشار الأمن القومي ونائبه، ورئيس جهاز الأمن القومي، ونائب وزير الخارجية، وثلاثة بصفة مبعوث خاص في وزارة الخارجية، وكذلك سوزان رايس في الأمم المتحدة.
المهم، أن تقرير اللجنة سالف الذكر، في معرض توصياته (ولنتذكّر أننا في العام 1981) يوصي “بالتوازن العملي في المنطقة بين التحديث والحركة الإسلامية“، كما يوصي “بتعزيز استقرار السعودية وأمنها الداخلي”، ويوصي “بتعزيز قوى التقدّم والاعتدال في المنطقة”، ناهيك طبعاً عن التذكير بضرورة “ضمان استمرار الوصول إلى منابع النفط”، وضرورة تسوية شاملة عربية ـ إسرائيلية “تضمن أمن وبقاء إسرائيل وتحقيق المصالح العربية المشروعة“.
لكل ما تقدّم ترجمات سياسية محتملة. وتوصية “التوازن”، التي تعنينا الآن، تُعيدنا إلى وقفة بوش على البوسفور. ففي العام 1981 كانت تركيا تحت حكم العسكر، ولم تكن معنية بالاستدارة نحو الشرق، ولا كان نموها الاقتصادي، ونظامها الاجتماعي والسياسي، مصدر إلهام لأحد. ولكنها في العام 2004 كانت تبدو بمثابة الوصفة السحرية للتوازن المنشود، وتعزز هذا بشكل خاص مع صعود “الإخوان”، في موجة الربيع العربي، حين شعر الأتراك أن فرصتهم التاريخية دنت، فهم ليسوا مصدر إلهام وحسب، بل والشقيق الأكبر لقوّة جديدة صاعدة ومباركة، فضربوا ذات اليمين وذات الشمال، حتى ضربهم سوء الطالع، بما صنعت أيديهم، كما ضرب السلام الأميركي نفسه. فطبّاخ السم يذوقه. وهذا ما كان.