الصحوة الإسلامية كتسمية دارجة لظاهرة متصاعدة، ليست مقتصرة كما يصور البعض على تدين قطاعات واسعة من المجتمع وممارستها لحياتها بما ينسجم مع الفهم السائد للنصوص، فهي ظاهرة ليست جديدة على مجتمعات سدت أمامها الأبواب لتحسين ظروف معيشتها، لتجد في الدين خشبة الخلاص من فقرها وبؤسها وتخلفها. الصحوة بالدرجة الأولى هي صعود “الإسلام السياسي” على أنقاض الحركات والنخب السياسية الوطنية والقومية واليسارية المهزومة، والفاشلة في تحقيق التقدم المأمول لمجتمعاتها.
اكتشف “الإسلام السياسي” في تدين مجتمعات المنطقة منجم ذهب يمكن استثماره للتحكم بمصائر الناس، يبقى صالحاً للاستثمار طالما توقفت المجتمعات عن مسايرة التطور الإنساني، وطالما ظلت الأفكار وأساليب الحياة الاجتماعية والاقتصادية الحديثة بعيدة عن متناول الأغلبية. فالحداثة في كافة المجالات هي البارود الذي ينسف ركود المجتمعات حيث وضع “الإسلام السياسي” استثماراته، لذلك لن يمكنها من الانتشار، وما يسمح به هو تقدم باتجاه الخلف إلى أساليب حياة سابقة لا تصلح للزمن الراهن.
مواجهة الحداثة في شتى أشكالها هي المهمة الأساسية “للإسلام السياسي” المستفيد من الصحوة. فالأفكار والثقافة الإنسانية الناتجة عن تلاقح كافة الحضارات هي العدو الاول الذي يسعى لمواجهته ليمكن من استمرار إعادة إنتاج هيمنته، لذلك لن نستغرب ما يحدث في أرجاء منطقتنا التي تشهد صعود الإسلام السياسي.
فليس غريباً ما تردد مؤخراً عن قرار لوزارة التربية الفلسطينية التي كان يديرها “حماسي” بمصادرة وإتلاف جميع نسخ كتاب “قول يا طير” في مكتبات المدارس الحكومية بحجة وجود تعابير “تخدش الحياء”!! والكتاب من تأليف الدكتوران كناعنة والمهوي، تضمن حكايات شفهية تراثية تم جمعها منعاً لاندثارها، ترجم لخمس لغات وحاز على جوائز عالمية ويدرس في جامعة هارفارد.
يذكر الإتلاف برواية إحراق مكتبة الإسكندرية لأن كتبها: “بعضها مخالف لكتاب الله فلا حاجة له، وبعضها الآخر يوافقه، ففي كتاب الله غنى عنه”. كما يذكر بإحراق كتب إبن رشد، وبمنع كتب المفكر ادوارد سعيد في عهد الرئيس عرفات، وتفتيش الأزهر على المبدعين المصريين، وتطليق المفكر حامد أبو زيد من زوجته وغيرها كثير.. الوزير الحماسي طبق القاعدة الذهبية للإسلام السياسي المخالفة للعقل والواقع: ” ما صلح للسلف صلح للخلف”!.
أثار أتلاف الكتاب احتجاجات ومسيرات واعتصامات شملت المثقفين والأكاديميين واتحاداتهم، رداً على تهديد حرية الإبداع، وطالب محمود درويش بوقف “محاكم التفتيش” الحماسية… وأدى الاحتجاج لتراجع الوزارة عن القرار بعد ادعاء الوزير أنه صدر دون علمه وعن دائرة غير مختصة.
المقاومة أكدت وقوف الجزء الحي المثقف من المجتمع سداً في وجه حراس الظلامية، وتحقيقه لخطوة هامة إلى جانب خطوات سابقة عند تصديه في العام الفائت لهجمة بلدية قلقيلية “الحماسية” على مهرجان فلكلوري بحجة أن الغناء والموسيقى والسفور والاختلاط تشجع على الفسق والفجور!!…
ورغم أن المقاومة تعبير يرفع عادة في مواجهة الاحتلال، فإن النخب المثقفة ستجد فيه شعاراً مناسباً في مواجهة الظلامية، لوعيها أن كسب معركة الأفكار والثقافة وحرية الإبداع هي أولوية ضرورية لتحصين المجتمع وتمكينه من إنهاء الاحتلال.
والسؤال حالياً ماذا نتوقع من وزيرة شؤون المرأة في الوزارة الجديدة، المتلفحة بالسواد والتي بدأت عملها بعد القسم مباشرة، برفض مصافحة الذكور –الرئيسان عباس وهنية- خوفاً من الفتنة الأشد من القتل!؟
وفي مكان آخر من المنطقة حيث تهيمن منذ زمن مؤسسات سلفية متشددة، هاج عدد من رجال الدين ضد “معرض الكتاب الدولي في الرياض”، لسماحه -حسب وصفهم- بعرض وبيع كتب الحداثة، فضلاً عن كتب تتناول الأديان “المنحرفة والمذاهب المنسوخة.. وأفكار منحلة وروايات هابطة..” ليطالبوا في بيانهم بإغلاق المعرض لترويجه للإباحية وتحريضه للتمرد على الدين حسب زعمهم…كما لم ينسوا الاحتجاج على الاختلاط بين النساء والرجال في ردهات المعرض مما يشجع الانحلال!.. يا للهول..!
الجهات الرسمية لم تذعن هذه المرة للتحريض على إطفاء أنوار الثقافة، واستمر المعرض حتى نهاية فترته المقررة، بعد أن لقي إقبالاً بلغ مئات الألوف، وتسابقاً على اقتناء الكتب الثقافية المحروم منها المجتمع السعودي منذ زمن طويل. فقد أرسل رواد المعرض بإقدامهم وتهافتهم على الثقافة رسالة واضحة لمن يريد كبح نهمهم للمعرفة.
وليس بعيداً عن الرياض انطلقت عروض “ربيع الثقافة” في البحرين، كمهرجان للخير والجمال والحب وكل القيم الإنسانية الرفيعة، وفي القلب منه عرض “مجنون ليلى”، الاستعراض الفني المتميز من عمل الشاعر البحريني قاسم حداد والفنان اللبناني مارسيل خليفة، الذي قدم شعرا وغناء وموسيقى ورقصاً راقياً، حاز إعجاب الجمهور الذي ملأ المسرح وفاض في الممرات وأنصت باستمتاع وصفق بحرارة وامتلأ بفرح الحياة…
إلا أن هذا لم يرض كتل الإسلام السياسي في البرلمان البحريني. فرغم الصراعات بين أطرافها السنية والشيعية فقد اتفقت على مواجهة هذا المد التنويري، بتشكيل لجنة تحقيق –تفتيش- لوزارة الإعلام التي سمحت بالعرض الذي وصفوه بأنه انحدار أخلاقي ودعوة لإثارة الغرائز برقصات خليعة وتحدي ساخر للحياء.. كما رأوا أن الثقافة هي “سخافة”!! وتذرعوا بالشريعة كمصدر للتشريع في الدستور، في محاولة إطفاء أنوار الثقافة الإنسانية، والوصاية على الإنسان الحر وعطشه للإبداع والتمتع بالحياة.
عرقلة التطور والتمدن ليس جديداً على التيار الأصولي البحريني المتزمت الذي سبق أن طالب بإلغاء الحفلات الغنائية كلياً وإغلاق المرافق الترفيهية في الفنادق، ودعا لفصل الجنسين في الجامعات ووسائل النقل والأسواق، وعمل لحجب مواقع الكترونية وحاول إغلاق صحف تروج للحريات الديمقراطية… وقد تصدى له كل ما هو تقدمي في المجتمع، حتى أن أربعين من الجمعيات الفكرية والسياسية والاجتماعية والحقوقية والمهنية تداعت للرد على محاولته الأخيرة لوأد “ربيع الثقافة”.
لا نتوقع نجاحاً للإسلام السياسي في نشر العتمة والسواد في أرجاء المنطقة، فستظل المواجهة سجالاً بين النخب الحداثية وممتطي موجة التدين، والناس بطبيعتهم يحبون التمتع بالحياة بألوانها المفرحة وسينضمون بغالبيتهم للمواجهة تدريجياً بعد اقتناعهم من تجاربهم بأن تدينهم حق لهم، لكنه لا يعني تسليم أمورهم لتوجيهات مستغلي التدين لمصالحهم السياسية، كما لا يعني خضوعهم لرجال دين اجتهادا تهم بشرية وليست مقدسة، تنقل وتقتبس بأغلبها من الماضي، دون مراعاة للعصر والتطور والمصالح الراهنة للمجتمع.
لن تقع الغالبية في الخطأ مرة أخرى بالتصويت لرواد الظلامية والتأخر الداعين للحجر على الثقافة والحضارة الإنسانية، رافضي الحداثة والديمقراطية العلمانية وحقوق الإنسان والقوميات وتحرر المرأة…عندها لن ينجح بناء دول طالبانية أخرى، إذ نتوقع أنها ستمنى بهزائم شبيهة بما حدث في أفغانستان والسودان والصومال والجزائر..
dimah@scs-net.org
* كاتب من سوري