يحق لنا أن نشعر بغصة في الحلق كلما تكلّم شخص ما عن “الإخوة المسيحيين”. وهذا يحدث، عادة، كلما وقعت حادثة إرهابية طالت هؤلاء، كما حدث صباح الأحد الماضي في مصر المحروسة. والأسوأ ما يضيفه البعض، بقدر مُمل من التقوى الأخلاقية والسياسية، عن “واجبنا” في حمايتهم، و”حقهم” في الحماية. وهذا كلام طائفي بامتياز. فهم ليسوا أخوة، بل هم نحن، أبناء هذا الشعب أو ذاك، في هذا العالم العربي المريض. الكلام عن الواجب والحماية ينتمي إلى ما قبل الوطنية، والوطن، والمواطنة، والدستور، والبرلمان، والمساواة دون تمييز على أساس العرق والجنس والدين، وحقوق الإنسان في الخبز والحرية والكرامة.
ولا ينبغي القول إن الغالبية العظمى من المتكلمين عن “الإخوة المسيحيين” طائفيون. كل ما في الأمر أن جانباً كبيراً من علاقة الناس باللغة يقوم على مبدأ القص واللصق. فكما نقص ونلصق على شاشة الكومبيوتر، يفعل الدماغ الشيء نفسه، يقص من نشرة الأخبار المُتلفزة، والصفحة الورقية أو الإلكترونية، ومما يُقال في المُلتقيات الدينية، والسياسية، والاجتماعية، ويلصق بطريقة عفوية ما قص في الكلام والكتابة. وثمة، هنا، مفارقة مُدهشة، فالتدفق الهائل للمعلومات، وغير المسبوق في تاريخ البشرية، يُسهم في تقليص وتنميط لغة الكلام والتفكير بدلاً من إغنائها.
وإذا كان ثمة ما يستدعي التفكير في أمر كهذا، فلا مفر من التساؤل:
متى ولماذا تسللت الطائفية إلى لغة الكلام والتفكير في العالم العربي؟ وكيف انتقلت بكفاءة من هامش أيديولوجي ضيّق إلى المتن الاجتماعي والثقافي، وطبّعت وجودها إلى حد تبدو معه وكأنها عفوية وبريئة تماماً؟
لا يتسع المجال، هنا، للكلام عمّا يستدعي سؤال كهذا من أسئلة، وما يُحرّض عليه من أجوبة. ويكفي القول إن الطائفية تسللت من شقوق نجمت عن تعثّر مشروع دولة ما بعد الاستعمار الحديثة، في العالم العربي، وأنها صعدت على أنقاض ما خلّفته هزيمة مصر الناصرية في العام 1967 من حطام أيديولوجي وسياسي، وجراج نرجسية لم تندمل بعد. وزاد عليها، وفاقم منها، دولة العلم والإيمان الساداتية، ودكتاتوريات البعث العراقية والسورية، وطفرة النفط بعد حرب العام 1973، التي غيّرت معنى ومبنى العالم.
هذا لا يعني أن المجتمعات العربية لم تكن طائفية قبل تواريخ كهذه، ولكن كل ما تقدّم معطوفاً على نهاية الحرب الباردة، أعادها إلى ما كانت عليه قبل نشوء الحركات الوطنية الاستقلالية، ومشروع الدولة الحديثة. وكما كان صعود الهويات الوطنية الجامعة في الحواضر جزءاً من مشروع وطني يتجلى في لغة، وأيديولوجيا، وأحلام وأوهام، وبالتالي في قص ولصق (بالأدوات المتوفرة في حينها) كان القضاء عليها، بالإسلام السياسي، جزءاً من مشروع يتجلى في لغة، وأيديولوجيا، وأحلام وأوهام، وبالتالي في قص ولصق، وتصادف أن يحدث هذا في زمن الفضائيات والإنترنت والكومبيوتر. والمفارقة المُدهشة، أن قلّة المعلومات في زمن الصعود الوطني (مقارنة بالمتوفر اليوم) أسهمت في إغناء لغة وحياة وتفكير وأفكار الناس.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد، ينبغي القول إن جنين الإسلام السياسي نبت في أحشاء الحركات الوطنية الاستقلالية، وصعد على أنقاضها. فالانتقال من صواب مُطلق إلى صواب مضاد في ثقافة الدكتاتوريات التي صادرت الحق في التفكير المُستقل، وعاملت الشعوب كأطفال بمنطق الثواب والعقاب، لا يحتاج إلى أكثر من قفزة واحدة.
لذا، كان أغلب مُنظري الإسلام السياسي الأوائل قوميين ويساريين سابقين. وقد استخدم هؤلاء مهاراتهم الحركية، وعدتهم الثقافية، وعواطفهم السياسية الجامحة، لجسر الهوّة بين “الأصالة والمُعاصرة”، وبين “الحداثة والتراث”، وبين السياسة والدين، وبين العلم والإيمان. فقبل عادل حسين، ومحمد عمارة، وحسن حنفي، ومصطفى محمود، لفّق ميشيل عفلق، المفتون بالقوميات الرومانسية الأوروبية، بالقص واللصق، أيضاً، علاقة الدين بالقومية، فجعل الأوّل روحاً للثانية.
كان هؤلاء “طليعة” يتكلّمون لغة غير مفهومة من جانب الوهابيين والإخوان، لكنهم كانوا مفيدين في نقل الإسلام السياسي من الهامش إلى المتن، وفي إغناء لغته بمفردات مُستمدة من قاموس ماركسي، وأدبيات قومية معادية للإمبريالية.
ولم يمض وقت طويل قبل انجاب الوهابيين والإخوان لناطقين وحركيين أيديولوجيين أكثر عضوية، وتمثيلية، ونقاء، من هؤلاء، ولعل الفرنسي، أوليفيه روا، أفضل من شخّصهم. وقد أسهم حدثان من عيار ثقيل هما الثورة الإيرانية، وآخر معارك الحرب الباردة في أفغانستان، في التحريض، على، وإنشاء بنية تحتية أيديولوجية ومادية تنظيمية ومالية ولوجستية لكومنترن جديد (لديه المليارات، والفضائيات، والميليشيات، والحاضنات، والجمعيات، والجامعات، والحكومات) يسعى لأسلمة العالم.
وقد نشأت، نتيجة هذا كله، لغة جديدة، نجحت في الانتقال من الهامش إلى المتن، لتصبح أليفة ومألوفة، وكأنها كانت دائماً لغة الناس، ولم يكن هذا ليتأتى دون تشويه الذاكرة، والتشهير بالماضي القريب، وكأن إعلاء الهوية الوطنية الجامعة، الواحدة والمُوّحِدة، على ما عداها من هويات دينية وطائفية فرعية، كان فضيحة تستحق الكتمان. أُخرجت من التداول مفردات الاستغلال، وسرقة الفقراء، وإفقار الناس، ووحشية رأس المال، واختفى الحد الفاصل بين الديني والدنيوي، وبين الداعية والسياسي، وبين مجتمع الحاضرة ومضارب القبيلة.
أغلب ما يقبل القص واللصق هذه الأيام، هو من بضاعة الكومنترن الجديد، فالقائل بأخوّتهم، والداعي إلى حمايتهم، والقائل بالجزية، وعدم السلام عليهم، أو حتى قتلهم، كما فعل الدواعش يوم الأحد، يغرفان من البئر نفسها، ويُعبّران عن طيفين مختلفين ينتميان إلى منظومة واحدة. فكلاهما يقص ويلصق من لغة تنتمي إلى ما قبل الوطن، والوطنية، والمواطنة. وهل في تلازم لغة كهذه مع حروب أهلية، وانهيار دول ومجتمعات، عندنا وحولنا، مجرّد صدفة؟
khaderhas1@hotmail.com