اكتمال الصورة في عالم الإنسان قد يكون من أكثر الأشياء ندرة، وربما أكثرها صعوبة، لست أعني بالكمال الطموح إلى المثالية والسعي إلى الدفع بالواقع والتجربة إلى مستوى الأهداف والآمال والأحلام، وإنما أعني صور الأشخاص من الملوك والمفكرين والأنبياء والمصلحين والقادة العظماء والأدباء، من المؤثرين في التاريخ ومن الأشخاص العاديين جداً، ولكنهم أيضاً المهمون جداً لأنهم جاؤوا في لحظة تاريخية معينة وتوقفوا في نقطة محددة أقحمتهم رواق العظماء ونادي الأشخاص الأكثر إلهاماً وربما غموضاً عبر العصور، مثل بحيرا الراهب الذي التقى الرسول محمد (ص) في بصري من أرض الشام، وقد يكون محظوظاً لا أكثر حين احتفظ لنفسه بسطر واحد في تاريخ الأمم مثل الخادم جويسر وزوجته اللذين تحدث معهما عبدالعزيز آل سعود في اللحظات التي سبقت استيلائه على الرياض ومقتل عجلان عامل ابن رشيد.
وكما يصدق هذا على الأفراد يصدق أيضاً على المجتمعات التي لم ترصد تاريخها بأقلام أبنائها أو كانت من المجتمعات الموغلة في التاريخ والتي ضاع ما كتب عنها أو أن ما تم توثيقه ورصده لا يفي بالإجابة عن أسئلة أولئك المتطفلين الذين مع كل استفهام وإثارة إشكال يقضون مضاجع أولئك السدنة الذين أفنوا حيواتهم في الحفاظ على إبقاء كل شيء على ما هو عليه، وهذا قد يصدق كثيراً على المؤسسات والكيانات الكبرى ممثلاً بقيادتها، كما هو الحال مع بابا الفاتيكان الحالي بينيديكت السادس عشر، الذي كان قبل ذلك يقوم بدور ‘’المفتش الأعظم’’ في حياة سلفه ويرأس لجان التحقيق والتأديب للقساوسة والكهنة الليبراليين والمتحررين فكرياً، حيث تكشف وثائق الفاتيكان التي نشرتها الصحافة والـ’’بي بي سي’’ البريطانية أن هذا البابا الذي يجسد الطهر والرحمة والحفاظ على الفضيلة هو أكبر المتواطئين والمتسترين على مغتصبي الأطفال من رجال كنيسته، وأنه اليوم يقوم بحماية سبعة أشخاص فارين من العدالة كلهم متهمون باغتصاب الأطفال. المدهش في الأمر أنه لايزال يحظى باحترام مئات الملايين في قارات الدنيا الخمس.
وإذا قرأتم الرسائل المتبادلة بين المفكر الفرنسي رومان رولان وغاندي وطاغور، فسوف تتفاجؤون أكثر بأن هذا الزعيم العظيم كانت لديه صفات طفولية منها انبهاره بالاستعراضات والأبهة وإعجابه بموسوليني، وإذا أمعنتم أكثر تكشفت لكم أية مشاعر كره واحتقار كان يختزنها طاغور وابن أخيه وبعض قادة المسلمين لغاندي وهي نابعة من مواقف وقصص وآراء للمهاتما، وإذا قرأتم سيرته الذاتية ‘’تجربتي في البحث عن الحقيقة’’ وما كتبه توينبي في ‘’دفاع عن الهند’’ فستعرفون أن محرر الهند، الذي تعاطف مع المنبوذين، كان يتمتع بإيمان عميق بالطبقية في الهند مؤمناً بوجوب استمرارها وبقائها، وقد شاهدت قبل شهر فيلماً يحكي قصة غاندي مع أحد أبنائه وكيف أخفق هذا العظيم في أداء وظيفته كأب ونجح في تحرير أمة، أنصحكم بمشاهدة هذا الفيلم ‘’Gandi my father’’، فسوف ينال إعجابكم، وقد سببت بعض رسائل الأم تيريزا التي كشف عنها أخيراً من قبل الفاتيكان صدمة كبرى وهي توثق شكوكها بالمسيح والحيرة التي اكتنفتها وتصور صراعها وعذابها مع الإيمان والجفاف الذي كان يلف حياتها في فترة طويلة من حياتها امتدت عشرين عاماً منذ منتصف الخمسينات وحتى نهاية السبعينات.
من الأشياء الجديرة بالاهتمام الاستماع إلى شهادة الحسن بني صدر في لقاء خاص مع قناة ‘’الجزيرة’’ وهو يتحدث عن الخميني وحقيقة موقفه عشية الثورة الإيرانية وهل كان قائداً أو كان مقوداً، قد تبدو تلك شهادة من خصم سياسي ولكنها بالتأكيد جديرة بالاهتمام وربما أن الوثائق وشهادات الأحياء الذين عاشوا تفاصيل الثورة أو قاموا برعايتها ودعمها وانقلبوا ضدها قد تسلط ضوءاً أكبر على إحدى أعظم الشخصيات في القرن العشرين. ومثل ذلك شهادة الإصلاحي مارتن لوثر في رسائله ضد كنيسة روما وهو يوظف مختلف الأسلحة ضد الفاتيكان بعد زيارته لروما والصدمة الكبيرة التي شعر بها.
حين ذكر أن تمثال يوحنا الثامن قد أزيل من طريق البابوات لمحو آثار أكبر فضيحة للكنيسة في القرون الوسطى بعد أن اكتشفوا أن البابا كان امرأة أتقنت إخفاء حقيقتها لسنوات طويلة حتى وصلت إلى سدة البابوية، وقتلت بعد وضعها مولوداً جاء من سفاح. اليوم تبدو هذه القصة عند المختصين بعيدة عن الأساطير، بدت قصة جديرة بالبحث.
وإذا كان يصدق في السياسة أن الكمال هو عدو الأشياء الجيدة، لأن الفشل هو الكمال الوحيد، فيبدو أن هذا أيضاً يصدق على الأفراد، لأن معظم الملهمين هم أولئك الذي لم تكتمل صورتهم بالنسبة إلينا، وهم أولئك الذين كانوا محظوظين إما لأنهم نجحوا في إخفاء الوجه الآخر لهم، أو تمكنوا من تزيين تلك البقع السوداء في صورهم، أو كانوا محظوظين أكثر حينما أتيح لهم أن يحيطوا أنفسهم بنخبة من المخلصين والأتباع الذين يوارون سوآتهم ويتكتمون عن زلاتهم، وقد يبلغ الهوس بالأتباع حداً يرون فيه سيئات متبوعيهم حسنات، ولهذا الصنف الأخير الذين ينقلون لنا الحقائق والأحداث خاماً من دون فلترة، ويفصحون للتاريخ بكل ما رأوا وسمعوا من دون رقابة ذاتية على ما يحكونه يدين المؤرخون وعلماء الاجتماع والباحثون. فكما يقال: خذ علوم القوم من سفهائهم. ويبدو أن الوعي بأهمية الرقابة على التاريخ وحتى المحكي والشفهي منه موغلة في القدم، فقد حرص عمر الفاروق الخليفة الثاني على أن يأتي الرواة من الصحابة مثل أبي هريرة بشاهدين يؤكدان قصته، ليس كله حرصاً على التثبت بقدر ما هو حرص أيضاً على كتابة تاريخ موجه والسيطرة على مصادر الرواية ولكنها جهود ذهبت أدراج الرياح.
ومثل هذا ما حصل لواحد ممن جرى اعتقالهم قبل سنوات في قضية سياسية اعتقل فيها شيخه وتبعه صاحبنا، فقد أطلعه ضابط التحقيق على تسجيل فيديو لشيخه وهو يعلن عن توبته في الأشهر الثلاثة الأولى من إيقافه وتراجعه عن كل المواقف والخطب والمحاضرات التي أوصلته وعشرات من مريديه إلى الزنازين، ولكن الشيخ بقي يدلس على أتباعه لسنوات في السجن وخارجه وأقنع نفسه بكل تلك القصائد والمديح عن ثباته وشجاعته وتضحيته وتفضيله السجن على الحرية في سبيل أفكاره، في الوقت الذي كان فيه ينتظر بفارغ الصبر خبر إطلاقه صباح كل يوم، وبعد إطلاق سراح ذلك المريد جعل يقص على حذر لبعض المقربين إليه ما شاهده في ذلك التسجيل، وبعد تسرب القصة بأيام فضل أن يلزم الصمت ويبتلع لسانه بعد أكثر من جلسة خاصة عقدها معه أتباع الشيخ حيث قاموا بـ’’تضبيطه’’ كما يقول المصريون.
ثمة أشخاص منحهم التاريخ الخلود لأنهم في ومضة من ومضاته أضاء الفلاش وهم يجسدون لحظتها النبل أو الوفاء أو الشجاعة والتضحية والإخلاص لأفكارهم، أما كيف كانوا قبلها وما الذي عملوه بعدها فقد بقي مخفياً أو عسير المنال أو مجهولاً تماماً. وعلى أولئك المغرمين باكتمال الصورة أن يحفروا ويسائلوا ويقلبوا الوثائق ويحفلوا بالكلمة العابرة والإشارة الخاطفة. ولكن الغريب في عالم النفوس هو أن بعض الشخصيات تحتفظ بألقها أو تأثيرها على أتباعها وسحرها الأخاذ حتى بعد أن تتكشف وجوهها أو بقعها السوداء، وهذا ليس غريباً فحتى الطغاة والسفاحون لهم سحرهم، وتبقى بعض الشخصيات مكروهة أو منبوذة عند بعض الناس حتى بعد أن يتكشف الوجه المضيء والصفات الخيرة فيها. وهذا من أسرار عالم النفوس فلهواها سريرة لا تعلم.