إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
خاص بـ”الشفاف”
كُل ما تطلُبه، في تاريخ لبنان، لِيجعلَ المؤسسة السنية السياسية ومن ورائها الشارع السني، إلى جانبك، هو الحديث عن الأمة العربية كوطنِ واحد. “الوحدة” كانت الكلمة الذهبية. ونسوا أنه في ظل الحكم العثماني لم تُنطَق كلمة “عرب”، أو “عروبة”، أو “وحدة عربية” لمدة 400 سنة! بل إن اللغة العربية كانت ممنوعة، ولم يَطبَع، ولم يُحيي اللغة العربية إلا مسيحيو لبنان الشرقيون من رهبان وعلمانيين.
لقد بايعوا الأمير فيصل فترةً قصيرة (1916)، ثم ما لبث أن تبدَّد سرابُ عروبته الكبرى بعد ذلك في غُبار الخصومات بين أبناء “الشريف علي بن الحسين” و “ابن سعود”، ومخططات الإنجليز والفرنسيين في الشام وشمال أفريقيا. وعاد الهدوء إلى الشارع السني البيروتي.
ثم، جاء عبد الناصر الذي فَتنَ الجماهير، صغاراً وكباراً، من أهل السُنّة و غيرهم، بشعارات القومية ومعاداة الإمبريالية والصهيونية وسائر الشعارات التي ذهبت به مباشرة إلى الهاوية، وتسببت في إذلال مصر في حروب متتالية ضد إسرائيل. في لبنان، في عام 1958، لم يتطلب الأمر من كمال جنبلاط سوى بضع كلمات مثيرة عن القومية العربية ليجعل كل الشارع الطرابلسي والصيداوي والبيروتي السُنّي يحتشد خلفهُ ضد الرئيس كميل شمعون الموالي للغرب. والطريف في الأمر أن جنبلاط نفسه كان سليل عائلة درزية موالية لفرنسا: لم تنزع والدته العلم الفرنسي عن قصرهم في المختارة إلا في العام 1946، أي بعد استقلال لبنان بثلاث سنوات.
وفي عام 1975، أثارهم جنبلاط مرة أخرى، ولكن هذه المرة بكلمات رنانة عن فلسطين، بعد أن اتخذ من منظمة التحرير الفلسطينية شريكاً محلياً في النضال ضد الأحزاب المسيحية في لبنان. أما أهل السُنّة، الذين لم يكن لهم جندي في هذه الحرب ولم يكن لهم أي مكسب حقيقي منها، حيث أن جنبلاط كان يقود القطيع وعرفات هو الذي كان يقاتل، فقد ساروا كالغنم لأن “فلسطين” مقدسة مثلها مثل كل القضايا العربية بل وهي في صلب ظنونهم.
في الآونة الأخيرة، وحتى بعد أن ضُربوا وقُتلوا على يد حزب الله، وحتى بعد أن اجتاح حزب الله عاصمتهم الرئيسية بيروت، وحتى بعد سنوات الذل والهوان والازدراء ليس فقط ضدهم بل ضد بقية العالم العربي (عالمهُم العربي العزيز)، اتبع أهل السُنّة في لبنان شعاراتِ حزب الله في شن “حرب مساندة لغزة” ثم شعار “تحرير القدس”!
الآن، تركيا ومصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان في سلام مع إسرائيل. ولدى قطر وعُمان مكاتب تمثيل لإسرائيل منذ فترة. كما أن شركة طيران العال تُحَلِّقُ فوق مكة المكرمة في طريقها إلى أبو ظبي وإلى الشرق الأدنى. ولا يزال أهل السُنّة في لبنان يتمسكون بشعارات “تحرير فلسطين” و”الدولة الصهيونية” و”العدو الإسرائيلي” و”العدوان الإسرائيلي الأخير” في هذا العام، رغم أن حزب الله هو الذي استفز إسرائيل وهاجمها في 8 أكتوبر 2023، بعد أن فعلت حماس الشيء نفسه، قبله بيوم واحد.
لماذا هم أسرى الشعارات التي لم يعد معظم الشارع العربي، ناهيك عن الشارع اللبناني، يستخدمها؟
أين هم العروبيون اليوم؟ والناصريون والعرفاتيون؟ إذا كان محمود عباس لا ينحاز إلى “حماس”، فلماذا ينحازُ السُنّة اللبنانيون إلى “حماس”؟ إذا كان بشار الأسد لا يساند حزب الله في هذه الحرب، فلماذا ينحاز السُنّة اللبنانيون إليه، ولو حتى لا شعورياً أو حتى لفظياً فقط، في هذه الحرب؟
.بعد اتفاق الطائف، حيث لم يعد بإمكانهم الادعاء بأن المسيحيين يسلبونهم سلطتهم، وبعد أن استعاد لبنان توازنه لا يزالون مترددين. فلا يُقدمون على ترديد شعار لبنان أولاً كشعارٍ وحيد لهم، ولا يزالون يبحثون عن شعارات بالية لتغطية عريهم السياسي.
يبدو سُنّة لبنان وكأنهم يعيشون في جزيرة مهجورة، منسلخين عن محيطهم العربي المنقسم بين المعسكر الموالي لإيران والمعسكر الموالي لإسرائيل، محرومين من زعاماتهم التاريخية والحديثة التي فقدوها في الاغتيالات (رياض الصلح، رشيد كرامي، رفيق الحريري)، متشبثين بعباراتٍ وأفكار من الماضي لمواجهة الحاضر. لقد خسروا مكانتهم التي اكتسبوها كشركاءَ كِبار بعد “اتفاق الطائف”، و للأسف استعادوا أدوارهم السابقة كأتباع للعالم العربي الذي لا تتفق شعاراته و سياساته مع شعاراتهم و ميولهم، ولا تمت لها بأي صلة.