من عادة الحروب ان تحثّ البشر على طرح الأسئلة، لا بل أن تجبرهم على إعادة النظر بالكثير من المسلّمات التي اعتمدوها أيام السلم. الموت، الوجع، العذاب والدمار، جميعها تسائلهم عمّا يشعرون به أو يفعلونه أو يخطّطون له في أيامهم العاديّة.
حرب إسرائيل على غزّة، بقساوتها وإجرامها بحق المدنين، وما ترافق معها من لامبالاة حكومات العالم بقتل هذا العدد الكبير من الفلسطينيين وبتدمير حياة حوالي مليوني إنسان، تعجّ بالأسئلة السياسيّة والإستراتيجيّة والقيميّة.
مع بداية الهدنة المعلنة بين إسرائيل وحماس، أتوقّف عند ثلاثة من هذه الأسئلة التي بدأت معالمها بالظهور. ولعل أولها، والأكثر تداولاً في أوساط الرأي العام، هو من إنتصر في الحرب في غزّة؟
يا له من سؤال حقير وسادّي وغير أخلاقي، ويا لها من تافهة الأجوبة التي تسارعت للإجابة على السؤال. فعمّا تسأل وكيف تجيب، عندما تكون الصفقة التي أدّت الى هدنة بين حماس وإسرائيل، كناية عن تبادل عدد من الأسرى من الجانبين لا يتجاوز الخمسين من هنا والمئة والخمسين من هناك، في حين ان الخسائر البشريّة وصلت الى حدود الــ 15 ألفًا وعدد هائل من الجرحى فضلاً عن الخراب الذي لحق بالمؤسّسات الصحيّة والتعليميّة وطال حوالي 45% من المساكن؟
كيف تتجرّأون على إستخدام كلمة إنتصار، أيها المنافقون من الجانبين؟ ما أتفه الحسابات التي تجرونها بغية الإجابة على السؤال، أمام كم العذابات الذي إجتاح غزّة؟ ماذا يعني ان إسرائيل إنتصرت، إذ تمكنت من إرتكاب كل هذه الجرائم بحق المدنيين العزّل مستخدمةً آلات القتل والدمار الحديثة التي تمتلكها؟ ماذا يعني ان تكون حماس قد إنتصرت، لأنها كتنظيم عسكري بقيت على قيد الحياة تحت الأرض، فيما لم يعد هناك من حياة فوق الأرض؟
الحرب على غزّة، مع ما سبقها من عمليّة لحماس، وتلاها من صفقة تبادل أسرى، هي قبل كل شيء ادانة للعنف كوسيلة للإنتصار أو للوصول الى حلول في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. إذا كان من منتصر في هذه الحرب، فهي فكرة الّلا إنتصار في الحرب المستمرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. 75 سنة من الوحشيّة الإسرائيليّة لم تكسر عزيمة الفلسطينيين على المقاومة والصمود. لكن بالمقابل، المقاومة العسكريّة الفلسطينيّة بوجه إسرائيل لم تحرّر فلسطين، لا بل في حسابات مساحة الأرض المحتلّة وسيادة السلطة الفلسطينيّة عليها، فقد تقلّصتا معا بشكل مريع.
والسؤال الإستراتيجي التي باتت تطرحه الحرب الأخيرة على غزّة، وما سبقها من عمليّة لحماس، هو ما إذا كان العنف هو حقًّا الرد الأفضل على الوحشيّة الإسرائيليّة؟
لم يعد من معنى، بعد الحرب الأخيرة على غزة، لتكرار القول ان “إسرائيل لا تفهم إلاّ بالقوّة”، خاصةً إذا كان المقصود ان الفلسطينيين ينتصرون عليها، أو يقنعونها برفع إحتلالها، من خلال إستخدام القوّة. فتاريخ الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي، علّمنا تكرارا عكس ذلك تمامًا. التقدّم الوحيد التي أحرزته القضيّة الفلسطينيّة، ولو كان ناقصا وشابته ألف شائبة، كان عن طريق المقاومة المدنيّة اللاعنفيّة أبان الإنتفاضة الأولى.
إذا كان هناك من أمل، قبل الحرب الأخيرة على غزّة، في ان تحقّق المقاومة العسكريّة خطوات الى الأمام على طريق تحرير فلسطين، فقد اثبتت هذه الحرب بشكل قاطع، انه رغم العمليّة العسكريّة الخارقة، تقنيًّا وبشريًّا، التي قامت بها حماس، فقد أتت النتيجة، على مستوى القضيّة الفلسطينيّة ومصير الشعب الفلسطيني، كارثيّة الى حدّ بعيد، كادت ان تؤدي الى إقتلاع كامل للفلسطينيين من أرضهم.
الأخطر فيما جرى هو غياب المطلب السياسي من الجانب الفلسطيني واقتصاره على تبادل الأسرى: فلا مطالبة بفك الحصار عن غزّة ولا مطالبة اشمل بحل الدولتين. وربما كان هذا القصور السياسي هو ما أصبحت تتميّز به مقاومة حماس العسكريّة، التي تردّد مع حليفها الإيراني الشعار غير الواقعي بـ”زوال إسرائيل ورميها في البحر.” هذا القصور السياسي عند حماس وحلفائها، ربما سهِّل إتهامها بالإرهاب وإن كان لا يبرّر هذا الاتهام.
إستعادة المطلب السياسي للقضيّة الفلسطينيّة، يمر حكمًا بإستعادة إستقلاليّة هذه القضيّة وعدم تبعيتها للمحاور الإقليميّة. وأقصر طريق لذلك هي إنخراط الشعب الفلسطيني مجدّدًا في الصراع عبر مقاومة مدنيّة سلمية على غرار الإنتفاضة الأولى. فإحدى نقاط الضعف الأساسيّة للمقاومة العسكريّة، هي ان شرطها، أي التسلّح، هو مرادف لتبعيتها للمموّل الخارجي.
التساؤل حول جدوى المقاومة المدنيّة اللاعنفيّة، يجعلنا نطرح السؤال الثالث المتعلّق بالقيم التي ترفعها القضيّة الفسطينيّة بوجه الإحتلال.
تعرضت قيم حقوق الإنسان والديمقراطيّة والسلام لإنتقادات عنيفة من الرأي العام المؤيّد للقضيّة الفلسطينيّة، بسبب تغاضي الحكومات والمؤسسات الدوليّة المنادية بهذه القيم، عن الجرائم الإسرائيليّة، لا بل إيجاد التبريرات اللازمة لها. وجب التنبّه في هذا الإطار لمسألتين: أولاً، إن الرأي العام العالمي والغربي تحديدًا راح يميل أكثر فأكثر، مع استعار الحرب، الى التنديد بالممارسات الإسرائيليّة، وتحديدًا نصرةً لحقوق الإنسان الفلسطيني التي تنتهكها إسرائيل. ثانيًّا، إن هذه القيم ليست ابنة الأنظمة الرأسماليّة – الإستعماريّة، بل هي ما رفعته شعوب هذه الأنظمة بوجهها خلال تطوّر مجتمعاتها. ولا جديد في تعارض هذه القيم مع السياسات الرأسماليّة – الإستعماريّة التي تنتهجها دول الغرب، في علاقتها مع بلدان العالم الأخرى، وفلسطين بشكل خاص.
تزايد تأييد شعوب العالم للقضيّة الفلسطينيّة كردّة فعل على الممارسات الإجراميّة الإسرائيليّة، يخلق ظرفًا ملائمًا لإعادة طرح القضيّة الفلسطينيّة بأهدافها السياسيّة المتعلقة بالتحرر الوطني، بما تحمله من قيم إنسانيّة سامية تنادي بها المواثيق الدوليّة.
أخطر ما يمكن ان يحدث للقضيّة الفلسطينيّة وللإنسان الفلسطيني، هو توسّع تأثير القيم الدينيّة الأصوليّة المعادية للحرية، بحجة إنتقاد القيم الإنسانيّة العالميّة.
(“النهار”)
أوافق التحليل حول المنهج العام للإسرائليين والفلسطينيين.
ولكن القول ” إن هذه القيم ليست ابنة الأنظمة الرأسماليّة – الإستعماريّة، بل هي ما رفعته شعوب هذه الأنظمة بوجهها خلال تطوّر مجتمعاتها.” فهو مفهوم تاريخي خاطئ، لا علاقة مباشرة له بالرأسمالية أو الاستعمار.
هذه القيم هي ابنة النخب الغربية التي راكمت تراثا متعددا، بِدأً باليوناني حتى اليوم، مروراً بالكاثوليكي.
تبسيط الأمور التاريخية يؤدي، بالضرورة، إلى أبواب مسدودة. وخاصةً إلقاء اللوم والمسؤولية باستمرار على عاتق الغرب “الرأسمالي والاستعماري”.