وحدها الصدفة ادّت الى القبض على قاتل كامل مروّة في اليوم ذاته الذي ارتكب فيه جريمته مساء السادس عشر من ايّار ـ مايو من العام 1966، أي قبل واحد وخمسين عاما. هناك مواطن لبناني لحق بالمجرم بعد تنفيذ الاغتيال واصرّ على القبض عليه وتسليمه الى الشرطة. فكّكت هذه الصدفة احجية كثيرة من بينها من وراء القاتل وكيف كان يعمل النظام الأمني الذي أقامه جمال عبد الناصر في مصر والذي راح ينتشر في انحاء مختلفة من العالم العربي، خصوصا بعد اسقاط النظام الملكي في العراق في العام 1958.
كان اسم القاتل عدنان سلطاني. لم يتردّد كريم كامل مروّة، ابن الضحيّة، في السعي الى معرفة ما الذي لدى قاتل والده، بطريقة غير مباشرة، عبر الزميل نجم الهاشم. حصل ذلك بعد سنوات عدة من ارتكاب الجريمة. كان اللقاء بين نجم الهاشم وسلطاني في السنة 1999، قبل عام من وفاة الاخير الذي أصيب بالسرطان.
بالتفاصيل الدقيقة، ولكن غير المملة، أورد كريم مروة تفاصيل الجريمة التي أودت باهمّ صحافي عرفه الشرق الاوسط في القرن العشرين. لا تعود اهمّية كامل مروّة الى انّه ساهم في تحديث الصحافة العربية فحسب، وذلك انطلاقا من بيروت، بل الى انّه كان لاعبا سياسيا اساسيا على الصعيد الإقليمي في ضوء علاقاته الممتدة من المغرب وتونس وليبيا… الى المملكة العربية السعودية، مرورا بكل دول المشرق العربي وبالعائلة الهاشمية تحديدا.
هذا ما دفع جمال عبد الناصر الى التخلّص منه وكان لا يزال في الواحدة والخمسين من العمر. في نصّ سابق له يلقي كريم كامل مروّة الضوء على نجاح والده في جعل الزيارة الاولى للملك فيصل، بعد صعوده الى عرش المملكة العربية السعودية في العام 1964، لإيران ومصالحته الشاه محمّد رضا بهلوي. جاءت الزيارة في توقيت غير مريح لجمال عبد الناصر الذي كان يعتبر ايران عدوه الاوّل إقليميا والسعودية منافسته الاولى عربيا.
من خلال جريمة طاولت شخصا، تكشّفت مآسي الشرق الاوسط في مرحلة ما قبل هزيمة 1967. تكمن اهمّية النص الذي وضعه كريم كامل مروّة ونشره في الذكرى الـ51 لاغتيال والده في رسمه صورة حقيقية للوضع العربي في تلك المرحلة وكيف تأسس النظام الأمني العربي الذي انجب مجموعة من الانظمة مارست سياسة الغاء الآخر. الأخطر من ذلك كلّه، يكشف النصّ كيف كان لبنان دائما ضحيّة لهذا النظام الأمني العربي الذي جعل عبد الحميد السرّاج، الضابط السوري الذي وصل الى موقع نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة، “يأمر” او “يتلقّى امرا” باغتيال كامل مروة، وذلك بعد انتقاله الى القاهرة وتأسيسه للنظام الأمني في سوريا.
اللواء سامي الخطيب
عندما اغتيل كامل مروّة في العام 1966، كان في لبنان شبه دولة وأجهزة تتمتّع بكفاءة، وان في سياق دائرة معيّنة غير بعيدة كثيرا عن النفوذ الكبير الذي مارسه النظام المصري الناصري وادواته. كان افضل تعبير عن هذا النفوذ وجود خليّة في السفارة في بيروت تشرف على عملية الاغتيال ووجود ضابط في المخابرات العسكرية اللبنانية (المكتب الثاني) يدعى سامي الخطيب مهمته التنسيق مع الاجهزة المصرية. حرص الخطيب على زيارة الموقوف عدنان سلطاني مباشرة بعد احتجازه في احد المخافر البيروتية.
كانت البداية في دخول عدنان سلطاني مبنى جريدة “الحياة” في بيروت حيث كان عامل الهاتف متواطئا معه وذلك بحجة تسليم رسالة الى كامل مروّة. قتل عدنان سلطاني كامل مروّة بواسطة مسدس كاتم للصوت. اطلق رصاصة في اتجاه القلب في اثناء محاولة كامل مروّة فض الرسالة الوهمية التي سلّمه إياها القاتل الذي ما لبث ان فرّ الى خارج المبنى. القي القبض ليه بعدما استقل سيارة اجرة حاول الوصول بها الى السفارة المصرية.
ثمّة نقاط عدّة تستأهل التوقف عندها بعد اعتراف عدنان سلطاني باقتراف الجريمة وبانّ من جنّده كان إبراهيم قليلات. من بين هذه النقاط تحوّل قليلات الى زعيم للتيار “الناصري” في لبنان بعدما اصطحبه كمال جنبلاط الى القاهرة وقدّمه الى عبد الناصر. كان قليلات قبل ذلك مجرّد مهرّب دخان في احد احياء بيروت (طريق الجديدة).
كذلك كان ملفتا انّ عبد الحميد السرّاج كان من اعدّ لعملية اغتيال كامل مروّة بادق التفاصيل. السرّاج كان مسؤول المخابرات العسكرية في سوريا ثمّ وزيرا للداخلية ثم نائبا لرئيس الجمهورية. بعد انتهاء مشروع الوحدة المصرية ـ السورية في 1961، سجن في سوريا. لكن المخابرات المصرية هربّته الى مصر عن طريق لبنان حيث امضى ليلة واحدة في قصر المختارة، استنادا الى ما أورده كريم كامل مروّة.
اعتمد عبد الناصر السرّاج مستشارا لشؤون لبنان وسوريا والعراق والأردن وذلك بعد نقله الى مصر. في هذا السياق، كُلّف بالتخلص من كامل مروّة. اعتمدت الاجهزة المصرية إبراهيم قليلات الذي جنّد بدوره عدنان سلطاني. لم يكن ممكنا تنفيذ عملية اغتيال بهذه الدقّة على يد مجرم مثل عدنان سلطاني من دون تغطية مصرية على اعلى مستوى.
فكّك النصّ الذي كشفته عائلة كامل مروّة في ذكرى مرور واحد وخمسين عاما على اغتياله حلقات الجريمة التي استهدفت احد مؤسسي الصحافة الحديثة في الشرق الاوسط، وصولا الى كشف ان عدنان سلطاني الذي خرج من السجن بعد عشر سنوات من الجريمة هُرّب الى القاهرة بحرا من صيدا. كان مطار بيروت مقفلا في 1976 بسبب حرب السنتين. وجد من يهرّب عدنان سلطاني من السجن ويأخذه الى القاهرة حيث قابل السرّاج وعرض معه تفاصيل عملية الاغتيال. استخلص السرّاج الذي كان مجرما حقيقيا ان سبب كشف ظروف الاغتيال وملابساته يعود الى ” انّ الخطأ كان في عدم تأمين سيارة للهروب”.
بالفعل، لو كانت هناك سيارة تنتظر عدنان سلطاني خارج مبنى “الحياة” في حي الخندق الغميق في بيروت، لكان انتهى في السفارة المصرية مثله مثل عامل الهاتف الذي امّن له الوصول الى كامل مروّة.
لو تأمنت مثل هذه السيّارة، لما كان ممكنا تفكيك الغاز الجريمة وربط حلقاتها ببعضها البعض، من اسفل الهرم الى أعلاه وصولا الى ابداء أنور السادات في العام 1974 “اسفه” لدور مصر في اغتيال مؤسس “الحياة”. فعل السادات ذلك لدى استقباله وفدا من الصحيفة كانت على رأسه السيدة سلمى البيسار مروّة زوجة الراحل. اخذها السادات جانبا وابلغها الحقيقة المتمثلة في ان مصر عبدالناصر كانت وراء اغتيال رجل استثنائي قاوم كلّ اشكال التخلّف واسّس ما كان في حينه اهمّ صحيفة عربية منفتحة على العالم.
بعد ما يزيد على نصف قرن، لا يزال لبنان يقاوم. الفارق الآن ان ايران الخمينية حلّت مكان مصر الناصرية. الهدف لا يزال لبنان. لم ترغب عائلة مروّة يوما في الانتقام. كلّ ما ارادته كان كشف الحقيقة… من اجل لبنان، بعيدا عن ايّ مآرب سياسية وذلك من اجل التاريخ ومن اجل ان لا تضيع الحقيقة.
الصدفة كانت المنطلق، لو لم يوجد مواطن لبناني يلحق بعدنان سلطاني، لكان الاخير انتهى في السفارة المصرية، أي في مكان آمن، ولما امكن الوصول الى رأس الهرم.
الصدفة أيضا لعبت دورها في كشف من اغتال رفيق الحريري. استطاع الضابط وسام عيد كشف الجريمة عن طريق تفكيك احجية شبكة الاتصالات. ادّى ذلك الى تقديم المجرمين الى العدالة. الثابت ان آل الحريري لا يسعون الى الانتقام. كلّ ما هو مطلوب بعد كلّ هذا الزمن انصاف لبنان وانصاف رجال، من النوع الذي لا يتكرّر، رجال عملوا من اجل لبنان، من كامل مروّة… الى رفيق الحريري.