كان لنا صديق لامع في فترة شبابنا الجامعي تخرج قبلنا من كلية الصحافة في مصر، حينما كنا نصغره قليلا كطلاب في كلية الآداب في حلب، عندما كان لدينا جامعات في سوريا! وذلك قبل الانهيار التعليمي (على الطريقة الشاوشيسكوية والمولدافية) الذي رافق انهيار العمارة السورية (السياسية والثقافية والأخلاقية) مع إتمام الزمن الأسدي عائليا… حيث أتم الأب نعمته علينا بتوصيل بلادنا إلى درجة الصفر، ورضي لنا بوريثه (الفصيح) رئيسا يواصل مشوار الانحدار بسوريا تحت خط الصفر…
كان لهذا الصديق -الذي اختطفته يد المنون مبكرا من بيننا –الفضل في تحفيزنا على قراءة رواية كازنتزاكي الشهيرة (زوربا اليوناني) قبل مشاهدة الفيلم الذي لا يقل روعة عن الرواية مع تمثيل أنطوني كوين لدور (زوربا)، فقد كان صديقنا الشاب الراحل المفتون بهذه الرواية هو صاحب مقولة: (بعد أن قرأت زوربا ما عدت كما أنا )، إذ دفعه زوربا لاتخاذ قرارات مصيرية غيرت مجرى حياته، إذ حرض روحه على التمرد على ذاته الاصطلاحية: بوصفها مفعولا اصطلح على إنتاجه فاعلون آخرون، بهدف أن يكون هو ذاته الفاعلة الحرة مهما كانت الضغوط والتحديات على حد تعبيره، فقرر على ضوء ذلك أن يترك كلية الطب التي يدرس فيها في القاهرة ليذهب لكلية الصحافة بدون تردد أو مشاورة، متحديا كل الضغوط التي كان تمارس ضده لكي يدرس اختصاص الطب الذي ما كان له أن يجتذبه بعد سنوات في دراسته رغم ضغوط الأهل الذين كان شرط تمويلهم لدراسته هي دراسة الطب وليس الصحافة التي كان يهواها، ولكن كانت بالنسبة للأهل والمجتمع وما زالت لا تطعم خبزا، ناهيك عن كل إغراءات الطب التي تتيحها مجتمعات التخلف من ثروة وسمعة، حيث لا يزال الطبيب بالنسبة إليها (حكيما)،استمرارا لصورة الطبيب في السياق الثقافي التراثي العربي –الإسلامي التي ترتبط بصورة الفيلسوف (الكندي –الرازي –ابن سينا…الخ).
وتتشارك مهنة الطب –نفعيا وتسلطا- مع الفقيه أي مع (فقهاء السوء على حد تعبير الغزالي)، حيث يتقاسمان بني البشر بوصفهم مرضى، وفق افتراضية أن: (الطبيب يداوي الجسد والفقيه يداوي الروح)، والمآل طرد الحكمة والفلسفة التي هي ” طب الأصحاء” على حد التعبير العرفاني الفذ لإخوان الصفا في تمييزاتهم الرهيفة بين طب الشريعة وطب الفلسفة ” والحال أن مكيات القرآن تقوم للتشريع الروحي مقام المدنيات للتشريع المدني “فالشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطببون المرضى حتى لا يتزايد مرضهم، والفلسفة طب الأصحاء ….” على حد تعبير إخوان الصفا الذين نالتهم (بيانية وبرهانية) الحرب الأهلية التي أشعلها فقيد الفكر العربي الدكتور محمد عابد الجابري ضد (العرفان والغنوصية والهرمسية)، أي باختصار مواصلته الحرب الفقهية ضد التصوف لكن بآليات خطاب معرفي (ابستمي ) يعقلن الفقه بوصفه معادلا للبيان في مواجهة العرفان، فأضاف له الراحل بعدا جديدا، وهو مواجهة التصوف ليس عبر الخطاب البياني فحسب، بل والخطاب البرهاني الذي امتلك الجابري أدواته المنهجية الحداثية، وهو الأمر الذي اختلفنا فيه معه، واتفقنا مع ناقده جورج طرابيشي في تناولنا الحواري لسلسلته الخماسية في الرد على الراحل الجابري وهي سلسلة (نقد نقد العقل العربي).
أظن أن أول من قال أن المرء لا يبقى ذاته بعد قراءة الجابري هو ناقده والمتفرغ لمساجلته عبر عقدين من الزمن هو الأستاذ جورج طرابيشي، ولا اعرف إن كان هذا الحكم التقويمي لقيمة الأعمال الأدبية أو الفكرية، يعود لكاتب مجهول استعار منه صديقنا الشاب الراحل حكمه على زوربا كما استعاره الأستاذ طرابيشي في الحكم على فعالية نصوص الجابري، أم أن هذ المسبار الحكمي قد طرأ على خاطر الإثنين أمام استشعار الأثر الذي تخلفه الأعمال العظيمة… فأيا كان تفسير الأمر فإن هذا المعيار رشيد ومحكم، ليس وفق تجربتي كقاريء، بل وفق معنى دور القراءة التي ينبغي أن تكون وظيفتها التغيير… والكتابة التي لا تغير لن تبرر معنى ممارستها كفعل ووظيفة، وما دمنا في سياق الحديث عن التجربة الذاتية مع معنى القراءة والكتابة، فإني أجدها مناسبة للاعتراف بأن الكاتبين الأعظمين-عربيا- اللذين تركا هذا الأثر التحويلي على ممارستي الثقافية والفكرية حياتيا هما طه حسين الذي زرع منهجيته التساؤلية الإرتيابية على كل تحولاتي الفكرية والإيديولوجية اللاحقة (إسلامية –قومية –ماركسية)،فكانت منهجيته التساؤلية هذه تزرع الألغام بكل ثوابت منهجيات الإجابات اليقينية الجاهزة والنهائية، حيث شكلت محلولا ليبراليا يلطف من فظاظات الجنوح نحو التطرف يمينا أم يسارا على المستوى المعرفي، لكن الواقع العربي –والسوري خاصة- لا يسمح نظامه الشمولي –حيث الطواريء والاستثناء منذ ولادته- بأي اعتدال سياسي، لأنه كان دائما ولا يزال في حالة حرب دائمة مع المجتمع والدولة والقانون والعقل، فلم نتمكن دائما من الاعتدال السياسي الذي لا يمكن ممارسته تجاه نظام التشبيح المافيوي في سوريا إلا للقادرين على الاستقالة من الكرامة، عندها يمكن الهتاف بحياة نظام الممانعة والتصدي…
أما المفكر الثاني (العربي) الذي أفعمني بنشوة الشعور بالتجدد فهو الراحل الكبير محمد عابد الجابري الذي تفترض المسؤولية الأخلاقية أن نقر بفضله رغم اختلافاتنا معه الصحيح منها والخاطيء الهاديء منها والحاد، إن كان في نقدنا أو في ردوده كما سنعرض لاحقا، أو الذي يتطلب المراجعة من قبلنا اعترافا بصوابية خياراته أواعترافا بأخطائنا كما في مسألة العلاقة بين الديموقراطية والعلمانية كما سنفعل بمقاربتنا هذه…
إذن سنحاول في مقارباتنا هذه التطرق لحواراتنا مع الراحل استعادة وإحياء ومراجعة لما كان يمكن أن يكون بداهات في الفكر العربي الحديث الذي غالى الراحل في راديكاليته الحداثية التقانية الصارمة في ترسيماتها العقلية والمنطقية متجاهلا البعد الروحاني للحداثات الدينية بل ومناهضا لشعريتها الميتافيزيقة وبطاناتها الوجدانية –وفق صياغات الراحل- التي استطاعت أن تستعيد الدين في صيغة انتشاء وامتلاء نفسي ووجداني بعد أن قشرته عقلانيا ونقديا للوصول إلى منابع دفق الروح الأبيض للإبداع الكامن وراء كل هذه الانجازات العظيمة في مجال الموسيقى والفنون التشكيلية والنحتية والعمرانية، تماما كما تكثفت خلاصة الروح الإسلامي العبقري في التقدم العقلي الفكري العقلاني في القرن الرابع الهجري ذروة النهضة المدنية “الإنسية” –وفق صياغات محمد أر كون- والفلسفية، لكن ذلك كان بالتوازي والتناظر مع الإشراق الصوفي الفيضي، حيث العالم يغمره نور الفيض والتجلي على طريق توحد الخلق بالحق، حيث وحدة الوجود تفيض على العالم تناغما وتناسقا وإيقاعا وجمالا …
هذا الروح، هذا الفيض يفترض أنه المشترك الجذري الأعظم بين كل الديانات السماوية منها (الثلاث)، والبشرية كالبوذية والكونفوشيوسية: بينما كان هاجس المشروع الفكري للجابري كبداهة نظرية هي شن الحرب العقلانية على التصوف، إذ غدت حربه هذه هي الإشكالية المعرفية الأساسية التي تحكم مشروع الراحل في صورة الحرب على العرفان لصالح البيان والبرهان، وتلك الإشكالية شكلت المصادرة الفكرية والدينية للفكر العربي في بنيته الفقهية منذ انشقاق الإمام الغزالي عن الفقه سالكا طريق الذوق والمكاشفة، ومن ثم استهدافه من قبل العقل الفقهي الذي أجبر الغزالي ليسمي أصحابه ب(فقهاء السوء)، وجاءت كل الحركات السلفية اللاحقة لتعزز حربها على التصوف باسم القضاء على الخرافات والشعوذة والتبريك، ليضيعوا على الثقافة العربية الإسلامية أهم منجز فلسفي مميز لها عالميا وحضاريا وإنسانيا في صورة (ابن سينا وابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي…الخ)، ولم يتمكن الإمام محمد عبده الذي تفرد في زمننا في تقدير جوهرانية التصوف الروحية والأخلاقية من إعادة الاعتبار له رغم ارتشافه من حياضه وانشغاله بقيمته وتثمينه، لكن انشغال الإمام بحياة الناس اليومية المعاشية الحسية لم تترك له الوقت الكافي للعكوف على العناية بحياتهم الروحية الداخلية …فظلت تجربة التصوف تجربة تذوقية ذاتية ارتقى بها الإمام على شكلانيات زمنه، رغم أنه عبر عن أسفه لخسارة البلاد الإسلامية لمواكب أنوار المتصوفة السالكين بحق في معارج الحق، وليس أصحاب البدع والتدجيل…
أما الإشكالية التي نجد أننا أخطأنا –ليس بشكل فردي بل كخط علماني- وأصاب الجابري، مما يستدعي المراجعة الشجاعة مع النفس، وهي علاقة الأولية بين الديموقراطية على العلمانية أو العكس، وهي الإشكالية التي نرى أننا بحاجة لمراجعة راديكاليتنا العلمانية في نقد ورفض أطروحة الجابري المعتدلة عن العقلانية، وذلك من موقع القول : إن الحديث عن تناقض بين الديموقراطية والعلمانية إنما هو حديث زائف نتاج إشكالية زائفة ومصطنعة، وحجتنا هي أنه ليس في عالمنا الراهن أي مثال عن ديموقراطية قائمة بلا علمانية، فالديموقراطية- والأمر كذلك- ستفترض ممارستها العلمانية كضرورة بلا محالة، وإلا فلن يكون هناك ثمة ديموقراطية مع الطائفية والمللية والمذهبية كما هو المثال الإيراني، هذه المقاربات سنتعاورها عبر الإطلال على نتائج الحصاد الفكري والثقافي لحواراتنا مع الراحل الكبير، أي أننا سنتوقف في مقاربتنا هذه حول النقطة الرئيسية التي لا زلنا في موقع الاختلاف فيها مع الراحل، وهي مناهضة التصوف كما ألمحنا من جهة… ومن ثم ضرورة مراجعتنا لموقفنا (العلمانوي الشديد) نحو عقلانيته المعوّلة على أولوية الديموقراطية كإشكالية عربية -اسلامية سباقة على العلمانية وأولوياتها من جهة ثانية، بوصف العقلانية مرحلة ضرورية على طريق العلمنة الثقافية والمعرفية التي تحتمها الديموقراطية ضرورة، وهو ما نستعيده اعترافا بصوابية إشكالية الجابري، بوصفها إشكالية منتجة لوعي مطابق بزمنها التاريخي وزمنها المنطقي العقلاني، في حين أن إشكاليتنا عن أولوية العلمانية تبدو خارجية ومفتعلة، وذلك لإنتاجها وعيا مصطنعا بمشكلة مصطنعة سياسيا وايديولوجيا في ظروف المواجهة السياسية مع (الإسلام السياسي) مما يصب في مصلحة الأنظمة الأكثر فاشية وشراسة وعدوانية ضد الضمير باسم دعاواها العلمانية كالنموذج السوري والتونسي..
ليس لأن التاريخ الإنساني الواقعي- غيرالافتراضي- لم يقدم لنا حتى اليوم أي مثال على ممكن ديموقراطية بلا علمانمة، بل ولأنه لا يقدم لنا إلا مثال إخفاق تطلعات ديموقراطيات لم تقترن بالعلمنة، فها نحن نعيش أزمة مآلات (الديموقراطية الثيولوجية الإيرانية) بالمقارنة مع استقرار الديموقراطية التركية الإسلامية من خلال التعايش مع العلمانية رغم تاريخها الراديكالي في تركيا، في حين أن التاريخ الحديث مفعم وممتليء بعلمانيات استبدادية وطغيانية، ليس في ماضي النموذج الستاليني وحمى الفاشيات التي اجتاحت العالم على أعتاب الحرب العالمية الثانية في صور أنظمة توتاليتارية شمولية فاشية ونازية وكلها تتوحد تحت القول بالعلمانية، إذ لم يكن تشرشل أكثر علمانية من ستالين أو هتلر في كل الأحوال…!
نقول: إن التعايش بين العلمانية والاستبداد ليس في ماضي الشموليات والفاشيات (العلمانية) المذكورة فحسب، بل هي مستمرة حتى لحظتنا الراهنة التي لا زالت تملأ عالمنا اليوم بنماذجها المتوحشة، ويكفي المقارنة بين وطن الجابري (المغرب) الأبعد عن إعلان العلمانية كمنهج ومسار سياسي، وبين وطننا السوري الذي يسوق نفسه للعالم كنظام علماني، حيث تظهر الفروق النوعية بين الاعتدال العقلاني للدولة القانونية الحديثة والأقرب إلى احترام التجربة الديموقراطية عبر مراجعة الوريث الملكي لإرث الاستبداد والتقارب مع ثقافة حقوق الإنسان، بينما النموذج المعلن للعلمانية في سوريا هو الأكثر اغترابا عن ينية الدولة القانونية الحديثة، والأكثر امتهانا واحتقارا لثقافة حقوق الإنسان باسم الخصوصية القومية، عبر استمرارية الوريث (الجمهوري) في ممارسة طغيان أبيه في عدائه الشرس لثقافة حقوق الإنسان، وتعميق البعد اللاعقلاني للدولة عبر العودة بها إلى دولة الطوائف باسم علمانية (فاجرة كاذبة) قائمة على الانحطاط والفتك بالضمير الوطني والاجتماعي والأخلاقي، علمانية كاذبة لا تعلن عن ذاتها سوى للتسويق والتسول والتهتك على أعتاب الغرب ليخفي النظام المافيوي من خلالها بعده العائلي والطائفي في أسوأ نموذج ممكن لعلمانية يريد اليوم انتهاك شرفها كما انتهك شرف كل القضايا الكبرى من فبل بدءا من فلسطين وليس انتهاء بالوحدة العربية… ذلك ما سيشكل الخلفية السياسية لحوارنا القادم مع الفقيد الكبير لفكرنا العربي الدكتور محمد عابد الجابري…
mr_glory@hotmail.com
* كاتب سوري- فرنسا
بعد أن تقرأ محمد عابد الجابري لست أنت قبل قراءته Kareem — maktoobji@gmail.com العزيز الأستاذ الكاتب الدكتور عيد : لقد كتب الأستاذ جورج طرابيشي مقالا في موقع “الأوان” وأرسلت له تساؤلا استيضاحيا حول ما ورد في مقاله لكنه لم يجب ولم تنشر الأوان سؤالي رغم أني أرسلت السؤال مرتين ، وباعتبارك سوريا وتعرف الإثين معا فقد قرأت لك الكثير عنهما، فإني سأوجه لك مضمون هذا السؤال عسى أن أجد عندك الإجابة، وهو : إن الأستاذ طرابيشي ذكر في مقاله في( الأوان العدد 6) أيار أنه كان زميلا للدكتور الجابري في جامعة دمشق، وهذا أمر مفهوم ومعروف، حيث أن الجابري درس… قراءة المزيد ..
بعد أن تقرأ محمد عابد الجابري لست أنت قبل قراءته الهادي المزوغي — hedi.mzoughi@gmail.com نشر الراحل بجريدة الصباح التونسية اليوميةفي الأسابيع القليلة قبيل وفاته المفاجئ سلسلةمن المقالات تابعتها بانتظام واهتمام وهي تشكل في تقديري رؤية ناضجة متبصرة في التعامل العقلاني المعتدل في الخطاب والحجاج مع مختلف الممارسات الدينية الأصولية وتتنزل في مشروع لقراءة للنص القرآني وما يرتبط به من أقوال مدونة في سياقه التاريخي الذي يراعي ملابسات النزول وظروف التأويل .والمقال المنشور يندرج في تصوري في هذا المسار. لأنه جعل من العقلانية السبيل المناسب لتفكيك بعض أطروحات الأصولية مثل فكرة الاستشهاد و الحور العين ..ووجدت في أسلوبه الهادئ الرصين رغبة… قراءة المزيد ..