كان عنوان أول مقال نشرته في هذا الموقع بتاريخ 3 يونيو 2005 “السلطة تحد السلطة”، وقد ذكرت فيه “كان وجود شيخين متنافسين أو حتى أكثر يرسم خطا أحمرا يمنع أقطاب السلطة من التعسف، وكانت المنافسة تحد من النزعة الفطرية لدى الحكام في التمادي والتسلط وكانت المنافسة بين الشيوخ عامل مهم يخدم مصلحة الكويت إلى حد معين، فالأقطاب كانت تعمل جاهدة لاستقطاب الناس والقوى السياسية.” واليوم أعود لأكتب عن الموضوع ذاته من زاوية مختلفة فرضتها الحالة الصحية للشيخ سالم العلي.
فمع تمنياتنا له بموفور الصحة والعافية وبأن يستعيد نشاطه، إلا أن مرض الشيخ سالم العلي الصباح فرض واقعا جديدا على الأسرة الحاكمة وعلى الكويت أيضا. فالشيخ سالم العلي هو آخر الشيوخ “الأقطاب”، وبابتعاده عن المشهد السياسي تنقضي معادلة التوازن التي لازمت الأسرة الحاكمة، ومن المؤكد أن هذا الابتعاد سوف يغير أوضاعا كثيرة، خاصة ما تعلق منها بترتيبات الحكم في العهد القادم. نعم فعلى الرغم من محدودية دور الشيخ سالم العلي إلا أنه في السنوات الأخيرة كان يقوم بدور مهم على صعيد قرارات الأسرة الحاكمة. وقبل أيام فقط من مرضه كان له موقف معارض من فكرة الانقلاب الثالث على نظام الحكم الدستوري وهي الفكرة التي تمت مناقشتها في اجتماع ضم أقطاب الأسرة الحاكمة ونشرت صحيفة السياسة بعض تفاصيله.
وقد يرى البعض أنني أبالغ في منح مواقف الشيخ سالم العلي أهمية، لكنني أقول أنه يتعين إدراك أن موقفه الأخير هو الذي شجع القوى السياسية على تداول نوعية تحركاتها القوية المضادة لفكرة الانقلاب الثالث. فاعتراض الشيخ سالم العلي على الفكرة، وأيا كانت مبرراته، يعني أن الإجماع غير متحقق داخل الأسرة الحاكمة. إن الأسرة الحاكمة تحرص دائما على توفير الإجماع على قرارات الحكم المهمة، لإظهار اصطفاف الأسرة حتى ولو كان اصطفافا شكليا!
وإذا تجاوزنا الحديث حول تأثير مرض الشيخ سالم العلي على احتمالات الاندفاع في تنفيذ مشروع الانقلاب الثالث على الحكم الدستوري قريبا، فإنه لا يمكننا تجاوز تأثير غياب الشيخ سالم العلي على مجمل الأوضاع العامة. إن مرض وعزل الشيخ سعد ومرض ووفاة المرحوم الشيخ جابر الأحمد ومرض واعتزال الشيخ سالم الصباح ووفاة المرحوم الشيخ علي صباح السالم، بل وحتى مرض الشيخ جابر المبارك، كل هذا فرض واقعا جديدا على الأسرة الحاكمة وعلى الكويت إلى حد كبير.. فاليوم يمكننا أن نقول أن المعادلة القطبية تلفظ أنفاسها الأخيرة في الكويت، ونحن الآن نستعد لمواجهة فراغا كبيرا لم يعرفه تاريخ الكويت.
لقد حرق مرض ووفاة الشيوخ المراحل في مدى زمني غير متوقع. فما هي آثار ذلك؟
تتكون ذرية الشيخ مبارك بشكل أساسي من فرع آل جابر الذي ينتمي إليه سمو ولي العهد، وفرع آل سالم الذي ينتمي إليه الشيخ سالم العلي، وفرع آل حمد الذي ينتمي إليه الشيخ جابر المبارك، وفرع آل ناصر الذي ينتمي إليه الشيخ سالم صباح الناصر. ولأسباب عدة ظلت السيطرة في ذرية الشيخ مبارك متداولة بين فرعي آل جابر وآل سالم، في حين كان فرع آل ناصر أقرب إلى فرع آل جابر وهو غير مؤثر سياسيا على الإطلاق. أما فرع آل حمد فقد كان مهمشا إلى أن تولى الشيخ محمد الخالد منصب وزير الداخلية ثم نائب رئيس مجلس الوزراء في إطار تحالف غير مكتمل مع آل سالم. وإذ أضعفت “عوامل الطبيعة”، من مرض ووفاة، فرع آل سالم بعد وفاة الشيخ علي صباح السالم ومرض كل من الشيخ سالم الصباح والشيخ سعد العبدالله، دانت السيطرة لآل جابر، وتم “تحييد” آل حمد بتوزير كل من الشيخ جابر المبارك والشيخ صباح الخالد بعد استبعاد الشيخ محمد الخالد من الوزارة. وكشفت أزمة الحكم عن تفكك فرع آل سالم وانحسار تأثيرهم الذي تجسد في آراء الشيخ سالم العلي التي ظلت غير مقترنة بعمل أو تحرك سياسي مهم. ولأن توفير “الإجماع” على قرارات الحكم يعتبر أمر مهم في تراث ذرية مبارك، ولأنه من الصعب تجاهل الشيخ سالم العلي، فإن معادلة الفروع احتفظت بقيمتها “الشكلية” حيث جرت العادة تمثيل فروع ذرية مبارك في الاجتماعات المهمة. وقد لوحظ في الاجتماع الأخير غياب من يمثل فرع آل حمد على الرغم من أنه ممثل في الحكومة بوزيرين هما الشيخ جابر المبارك والشيخ صباح الخالد. وقد أعطى هذا الغياب إشارة إلى أن فرع آل حمد خرج من معادلة الفروع!
وعلى ضوء الغياب المحتمل للشيخ سالم العلي عن المشهد السياسي بتأثير المرض، فإن القيمة الشكلية التي تبقت لمعادلة الفروع بعد أزمة الحكم تكون قد تلاشت نهائيا. فوجود الشيخ سالم العلي هو الذي كفل لفرع آل سالم الاحتفاظ ببعض الوجود السياسي، ولا أظن أن الشيخ الدكتور محمد الصباح مثلا سوف يتمكن من فرض نفسه كممثل لفرع آل سالم، كما أن فرع آل ناصر مساند دائما لفرع آل جابر، أما فرع آل حمد فهو مستبعد من معادلة الفروع. ويترتب على هذا أنه لم تعد هناك ثمة حاجة لاجتماع أقطاب الأسرة وستكون قرارات الحكم فردية بصورة مطلقة سواء ما اتصل منها بالوضع السياسي أو بترتيبات الحكم في المرحلة القادمة. إن هذا الوضع صعب للغاية على عكس ما يبدو فحين ينعدم اختلاف الآراء وسط ذرية مبارك فإن هذا يعني أن احتمالات المواجهة بين الأسرة الحاكمة والقوى السياسية تتزايد نظرا لعدم وجود “صمامات أمان” في كيان ذرية مبارك.
بعد أن وثب الشيخ مبارك الصباح إلى الحكم في العام 1896، فرض سيطرته الكاملة على البلاد وأسس نظام حكم جديد يقوم على أساس القمع والتسلط والرأي الواحد، فاختفى نهائيا دور أسرة الصباح كمؤسسة حاكمة، وخفت إلى حد كبير صوت الشعب واختفت معادلات التوازن داخل الأسرة الحاكمة وفي علاقة الشيخ مبارك بأهالي الكويت. وكانت النتيجة أن تمادى الشيخ مبارك في فرض قراراته من دون تشاور مع أحد، فلم تكن هناك سلطة تحد سلطاته المطلقة باستثناء مخاوفه من مؤامرات خارجية قادها يوسف الابراهيم من جهة ومحاولات الدولة العثمانية عزله عن الحكم. وقد خسر الشيخ مبارك معظم الحروب التي خاضها واستنزف موارد التجار.
وقد يقال أن الكويت دولة دستورية الآن وأن غياب عدد من الشيوخ عن المشهد السياسي يجب ألا يؤثر فهناك رئيس للدولة وهناك حكومة وهناك برلمان. لكن الواقع يقول عكس ذلك تماما.. فالحكم يبقى هو الأقوى، وها نحن نواجه الآن احتمالات التخلص من الحكم الدستوري وتثبيت دعائم الحكم الفردي وسط رهان سياسي على قدرة الحكم على تحييد القوى السياسية وعلى قدرته في إخماد أي تذمر شعبي من خلال منح الهبات والعطايا الجماعية. ونحن نعلم أن القوى السياسية اليوم مخترقة وبعض من فيها منغمس في الفساد، وهؤلاء من السهل على الحكم نزع شوكتهم!
إن وجود شيوخ يمكنهم الانحياز للشعب ومصالحه هو صمام أمان للنظام وللدولة ذاتها، وبسقوط معادلة القطبية لن تكون لدى النظام صمامات أمان!
وإذا كنت قد أشرت إلى فترة حكم الشيخ مبارك الصباح قبل قليل فذلك ليس لأنني أرى تشابها بين تلك الفترة والفترة الحالية، فحاكمنا اليوم صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد، على عكس جده الشيخ مبارك الصباح جاء إلى كرسي الحكم بأصوات مجلس الأمة لا من خلال “البندق” وفي وضح النهار لا في عتمة الليل، فهو حاكم توفرت فيه أقصى درجات شعبية الحكم حيث تم تنصيبه من قبل الشعب، ويفترض أن يكون هذا الواقع هو بذاته صمام الأمان.
إن القمع والإجبار والرشاوى الجماعية والتخويف لم تعد أدوات حكم صالحة. فعلى الرغم من جبروت الشيخ مبارك الصباح وعدم وجود الانترنت والبلوتوث والفضائيات والهواتف النقالة والمسجات في عهده إلا أنه خضع للعقل وسافر إلى البحرين مقدما اعتذاراته وتعهداته لأحد وجهاء الكويت الذي قرر الهجرة منها احتجاجا على ظلم الشيخ مبارك، وكان سفر الشيخ مبارك واضطراره للاعتذار ضربة موجعة لهيبة حكمه!
ويبقى السؤال: كيف يمكن تحقيق التوازن إذا تأكد غياب الشيخ سالم العلي عن المشهد السياسي؟ مع الأسف ليس هناك من هو مؤهل لممارسة دور القطب في الأسرة، لذلك وأمام احتمالات القيام بانقلاب ثالث على الحكم الدستوري لابد من تكرار الدعوة لخلق جبهة معارضة شعبية دستورية لا تفرق بين المادة الرابعة من الدستور والمادة السادسة منه. ولابد من الاستعداد الجاد لمواجهة مرحلة قد تكون الأسوء على الإطلاق في التاريخ الحديث للكويت.. إن الشيخة ليست “بشوت مذهبة” ولا هي بخور ودهن عود!
موقع “ميزان”
http://meezan.aljasem.org/