تسربت أنباء متواترة عن الاجتماع الذي عقد بالقصر الرئاسي بدمشق وترأسه
الرئيس السوري بشار الأسد، بحضور صهره نائب وزير الدفاع، آصف شوكت، وثلة
منتقاة من أهم تجار العاصمة السورية. كان الاجتماع حادا وعاصفا ومهينا
للتجار، استمعوا فيه إلى تهديدات فجة وصريحة لا تقبل التفسير ولا التأويل
إلا بمعنى واضح: إما دعم واضح وصريح جدا للنظام ومنع تام لتمويل وتأييد
الثورة من التجار والصناع، أو المصير الأسود لهم جميعا.
تهديد بتدمير تام لدمشق بحيث لا يبقى منها أثر، تهديد بهدم كامل لدمشق وحي
الحميدية التجاري التاريخي العريق وتسويته، هو وباقي أحياء أبواب دمشق
المعروفة، بالأرض تماما، كما فعلوا بحي بابا عمرو العريق في حمص وأحياء
أخرى بها أيضا، وكما فعلوا بحي الكيلانية الشهير بمدينة حماه خلال المجزرة
الدموية البشعة التي حصلت في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي.
النظام الأسدي بنى علاقة قوية وحساسة ودقيقة واستراتيجية وطويلة مع قطاع
رجال الأعمال والصناعة، حرص على «إفادتهم» لكي يستفيد منهم.
عرف النظام تركيبة الشخصية السورية «المعجونة» و«المنغمسة» في التجارة منذ
قديم الأزل وبدايات الأزمان؛ فالتجار جزء من الشخصية والهوية والتاريخ
السوري بامتياز، وعليه عرف من السوري في الحل والترحال، في الموطن والمهجر،
قدرته على التعامل ببراغماتية قاتلة في بعض الأحيان طالما قدرت المصلحة وتم
وزن الأمور على هذا الأساس، وبالتالي استغل الأسد وابنه هذه الفكرة ولعبا
عليها، وكانا دوما ما يقربان رجال الاقتصاد منهما ويحثانهم على الاستفادة
من السوق المغلقة جدا، وتحقيق أرباح خيالية في ظل انعدام المنافسة
الحقيقية، وتوظيف الشروط والقيود بحسب المطلوب، ولكن الثمن كان دوما مكلفا
جدا، منها ما هو معروف وواضح من دعم وتمويل أسلوب حياة للكثير من المسؤولين
النافذين والمؤثرين، أو دعم لمشاريع خاصة لمسؤولين لأهداف أمنية أو
استخباراتية مجهولة الأسباب.
معروف أن هناك واجهات معروفة هم تجار مرموقون ومعروفون يعملون لصالح
مسؤولين أيضا معروفين، وهو زواج مصالح بامتياز خال من الأعراف والقوانين
والنظم؛ فالغاية تبرر كل وسيلة، ولذلك يرى النظام الآن الانشقاقات
الاقتصادية من مجموعة رجال الأعمال في تزايد شديد جدا، وهي ظاهرة لا تلقى
نفس التغطية الإخبارية الإعلامية كتلك التي تلقاها ظاهرة الانشقاقات
الهائلة التي تحصل في القطاع العسكري لجيش النظام.
رجال الأعمال والتجار والمصنعون باتوا يدعمون الثورة ويقدمون العون المادي
والمعنوي، ومنهم من هرب وخرج من البلاد وتحول لعنصر ضغط في وسائل الإعلام
أو مع الحكومات المؤيدة للثورة السورية الكبيرة، ومنهم من آثر العمل بسرية
من الخارج واستمر داعما مؤثرا للثورة بشتى الوسائل.
رأس المال بطبعه يبحث عن الشريك الحكومي الذي يتيح له الأمان، مع عدم إغفال
أن لكل وضع فئات تجني الفائدة منه وتحقق الكثير من المكاسب الكبرى بسببه،
ولكن الخطر والمهانة والمذلة والتكلفة الهائلة التي أصابت قطاع رجال
الأعمال السورية، وهو الذي تعود أن «يحسبها» جيدا واكتشف أن الموضوع لم يعد
مجديا، وبالتالي بات الموضوع بحاجة لإعادة نظر في الموقف بالكامل، وهو سبب
وجيه وجديد «لهسترة» النظام السوري؛ لأنه بات يتلقى الضربات من كل القطاعات
في الداخل والخارج – حلب ودمشق أهم قاعدتين اقتصاديتين في سوريا بعد أن
انقلب على النظام من قبل القاعدة الفلاحية الزراعية في حمص وحماه ودرعا
ودير الزور.
الانشقاق الاقتصادي سيكون أداة خنق جديدة في وجه النظام، وستقيد قدرته على
تصريف الأمور وتدبير الاقتصاد، كما كان يحصل من قبل، وهذه هي المعضلة الأهم
بالنسبة للنظام السوري الذي تختفي خياراته وتتقلص قاعدة مؤيديه بالتدريج.
حاول النظام جادا في الشهور الأولى للثورة «طمأنة» قاعدة الاقتصاديين
بإعطائهم تسهيلات غير مسبوقة، وتجاوز الحكومة عن كل الغرامات والعقوبات؛
لأجل تسيير الأمور، ولكن عمال المتاجر والمصانع باتوا متضررين شخصيا من
النظام؛ فهم كانوا وقودا للثورة، ومنهم من قتل وجرح واعتقل، وبات بالتالي
من المستحيل على رجال الأعمال مواصلة مسيرة دعم النظام واختاروا الآن
الثورة. إنه مسمار جديد في نعش نظام آن أوان دفنه.