يقول المثل المصري : ” طباخ السم بيذوقو” . وهذا حال إنجلترا التي أحيت الذكرى الثانية لتفجيرات مترو الأنفاق على وقع سلسلة من الهجمات الإرهابية الفاشلة بواسطة السيارات المفخخة التي كانت تستهدف قتل نحو 1700 شخص من رواد النادي الليلي (تايغر تايغر). ولحسن الحظ ، أن هذه الهجمات وتلك التي استهدفت مطار كلاسكو لم تخلف ضحايا في صفوف الأبرياء . ذلك أن إنجلترا ظلت ولا زالت حضنا آمنا يؤوي شيوخ التطرف وغيرهم من الإرهابيين الفارين من عدالة بلدانهم أمثال الكربوزي ، أبو قتادة ، أبو حمزة وغيرهم . وهذه الهجمات الإرهابية التي وقعت يومي 3 و 4 يوليوز الحالي أكدت حقيقتين أساسيتين :
الحقيقة الأولى : وتتعلق بالاستنتاجات التي توصلت إليها أجهزة الاستخبارات البريطانية بأن التطرف لدى الشبان المسلمين من أصل باكستاني هو ظاهرة بريطانية صرفة . وهذا ما سبق وأكده عدد من الخبراء في السابق بأن الإرهاب الأصولي في بريطانيا “نبتة محلية” . وهذه الحقيقة ظلت الحكومة البريطانية تتجاهلها . كما أن القيادات الإسلامية في إنجلترا لم تلعب دور الرقابة والإرشاد على عموم المساجد والأئمة والدعاة والخطباء . فقد سبق للدكتور زكي بدوي عميد الكلية الإسلامية في لندن أن أكد ، عقب الأحداث الإرهابية ليوم 7/7 ( واقع الأمر أن أئمة المساجد، وأنا شكواي كثيرة منهم، لا يخاطبون الناس على الإطلاق ، فبعضهم لا يعرف اللغة الإنجليزية والبعض الآخر الذي يعرف الإنجليزية لا يتطرق للقضايا المهمة مثل التطرف، والفراغ الموجود بين المسجد والشباب يملؤه المتطرفون ). وهذا واحد من الأسباب المباشرة في تحويل مساجد عدة إلى أوكار للتطرف واستقطاب الانتحاريين . وقد لعب الطرطوسي وأبو قتادة وأبو حمزة وغيرهم دورا مركزيا في نشر ثقافة القتل والكراهية بين مسلمي إنجلترا خصوصا وعموم مسلمي أوربا. وحسبنا هنا التذكير بالشهادة/ المقالة التي نشرها د. محمد القويز في جريدة الرياض السعودية 5/7/2007 قال فيها ( عندما كنت في بريطانيا في بداية التسعينات هجرت ما يسمى بالتجمعات الإسلامية. حيث زرت أكثر من مسجد فوجدت الكره هو العامل المشترك بين تلك المراكز. فهم يكرهون البريطانيين، ويكره بعضهم بعضا. غير العرب يكرهون العرب والعرب يكره بعضهم بعضا ). إن ثقافة الكراهية ، إذن ، هي المسئولة عن تحويل الأبرياء إلى قنابل بشرية . فقد سبق لجريدة “لوس أنجلوس تايمز” أن أوضحت في مقال لها أن الفيزازي، أحد شيوخ السلفية الجهادية، الذي يقضي عقوبة بالسجن لمدة 30 سنة لتورطه في أحداث 16 ماي بالدار البيضاء، كان يقدم مواعظ على نحو شبه دائم بمسجد «القدس» بهامبورغ، وذلك في الوقت الذي كان فيه ثلاثة من الانتحاريين يعيشون بالمدينة، ويرتادون المسجد وينزعون رويدا نحو التطرف . كما أكدت نفس المجلة أن الفيزازي نشط عدة اجتماعات خاصة مع منفذي هجوم 11 شتنبر 2001 .
الحقيقة الثانية : اعتماد تنظيم القاعدة على تكتيك مغاير يستهدف تجنيد فئات جديدة خارجة عن دائرة الشبهة أو المراقبة . وهذا واضح من نوعية العناصر التي جندها تنظيم القاعدة لتنفيذ ما بات يصطلح عليه بـ”غزوة الأطباء” التي اعتقلت فيها الشرطة البريطانية ثمانية عناصر كلهم أطباء عدا سيدة واحدة . وسبق لمسئول في تنظيم القاعدة ـ حسب ما أوردته صحيفة “تايمز” في عددها ليوم 4 يوليوز الجاري ـ أن حذر القس الانغليكاني اندرو وايت ، خلال اجتماع ديني في العاصمة الأردنية بقوله “سيقتلكم من يقومون بمعالجتكم”. وهذا التكتيك الجديد للقاعدة سيعقد من مهام الأجهزة الأمنية البريطانية التي تعترف بأنها ( تفتقر إلى المعلومات عن الآلاف من “الشبان المسلمين المتطرفين” من باكستان ودول شمال أفريقيا والصومال الذين بسبب انعدام المعلومات عنهم وعن اتصالاتهم مع التنظيمات الإرهابية ليسوا مدرجين على قوائم الأشخاص المطلوبين أو الذين تتابعهم أجهزة الأمن ) . وهذا التعقيد لا ينحصر فقط في مسألة المراقبة الأمنية ، وإنما كذلك في طبيعة القوانين التي تكبل عمل الحكومة والأجهزة الأمنية . ولعل هذا ما جعل وزير الداخلية البريطاني جون ريد ، من جهة ، يلوم القضاة ودعاة الحقوق المدنية ومجلس اللوردات، ويتهمهم بتكبيل يدي الشرطة في التعامل مع المشبوهين الخطرين في قضايا إرهابية ، ومن جهة ثانية ، يعد باقتراح قوانين مشددة «أكثر قساوة» للتعامل مع الارهاب.
إذن “غزوة الأطباء” جاءت تكشف عن الحقائق التالية :
أ ـ أن الإرهاب الذي تنفذه القاعدة والجماعات المرتبطة بها لم يكن بدافع الفقر والتهميش ، بدليل أن منفذي عمليتي لندن وكلاسكو هم أطباء فتحت لهم إنجلترا كلياتها ومعاهدها للتكوين ومراكمة الخبرة ، فصدق فيهم قول الشاعر زهير بن أبي سلمى :
ومن يجعل المعروف في غير أهله /// يكن حمده ذما عليه ويندم
ب ـ أن إنجلترا تضمن للمسلمين من الحقوق الدينية ما لا تضمنه بلدانهم الأصلية . ومن ثم لا يمكن اتهام إنجلترا بـ”الإسلاموفوفيا” .
ج ـ أن مواجهة الإرهاب تقتضي مقاربة شمولية تنطلق أساسا مما هو فكري . أي مواجهة فقه الكراهية وثقافة القتل وعقائد التفجير والتدمير .
د ـ أن الدول الأوربية وأمريكا مسؤولة عن حرية نشر التطرف وصناعة الإرهاب عبر الشبكة العنكبوتية . لأنها لا تتخذ إجراءات الحظر ضدها .
إذن ،إنجلترا كانت وستظل هدفا للإرهابيين ، ليس لأنها شاركت في الحرب على أفغانستان والعراق ، بل لأنها كانت ولا تزال الحضن الآمن لفقهاء التطرف وأمراء الدم الفارين من عدالة بلدانهم الأصلية ، تؤويهم وتمنحهم حرية كاملة لنفث سمومهم تحت ذرائع شتى . ومن يحضن الأفاعي والثعابين يكون أول ضحاياها .
selakhal@yahoo.fr