عنوان المقال ليس من عندي، كيلا يُقال أني أتجنى على بلد مسلم صديق، وإنما هو من عند الإعلامي الباكستاني المستقل “أمير أمير” صاحب المؤلفات العديدة في قضايا العنف والإرهاب.
والحقيقة أن الكاتب لم يأت بجديد، فالإحصائيات والأرقام المتوفرة منذ هجمات 11 سبتمبر 2011 تؤكد أن باكستان قد تحولت فعلا إلى عاصمة للإنتحاريين في العالم. وبلغة الأرقام فإنه منذ ذلك التاريخ وقعت 310 عمليات إنتحارية أسفرت في مجملها عن مقتل نحو 4820 وجرح نحو 10500 شخصا طبقا لبيانات وزارة الداخلية الباكستانية، علما بأن تلك العمليات أخذت منحى تصاعديا منذ 2002 بمعدل 30 عملية إنتحارية سنويا، وأربع عمليات شهريا. والأرقام السابقة، بطبيعة الحال، كبيرة بالمقارنة مع مثيلاتها في أفغانستان والعراق. ففي العراق قـُتل منذ 2003 نحو 13 ألف مدني، وجـُرح نحو 30 ألفا، طبقا لإحصائية نشرتها إحدى الدوريات الطبية البريطانية. وبتفصيل أوضح، ذهب ضحية مثل هذه العمليات الإجرامية 12284 شخصا من إجمالي 108624 قتلوا في العراق، علما بأن الهجمات الإنتحارية في هذا البلد أخذت في التراجع ما بين عامي 2003 و 2010 ، فيما هي تصاعدت في باكستان بشكل دراماتيكي.
أما في أفغانستان فإن الإحصائيات تشير إلى أنه، منذ مقتل زعيم تحالف الشمال”أحمد شاه مسعود” في 9 سبتمبر 2001 في عملية إنتحارية نفذتها عناصر طالبانية، وقع نحو 740 عملية إنتحارية أسفرت في مجملها عن مقتل 3800 شخصا، طبقا لتقرير أصدرته “منظمة إدارة الأزمات” الهندية.
وإذا ما عدنا إلى باكستان لوجدنا أن جذور العنف الدموي تعود إلى حقبة زعيمها الأسبق الجنرال “ضياء الحق”. فهذا هو المسئول الأول عن تفشي ظاهرة “ثقافة الكلاشينكوف” في المجتمع الباكستاني، وتحديدا منذ أن حوّل بلاده إلى واجهة للجهاد ضد المحتلين الروس في أفغانستان، ومكانا لإستضافة قادة هذا الجهاد وأشياعهم من كل أنحاء الدنيا. لكنه حتى تلك الحقبة لم تعان باكستان من أنهار الدماء المتدفقة من العمليات الإنتحارية. فكل ما سُـجل في حينه لم يتجاوز عملية إنتحارية يتيمة إستهدفت مبنى السفارة المصرية في إسلام آباد في 1995. وبكلام آخر فإن العمليات الإنتحارية داخل باكستان، وتحديدا في كراتشي، لم تتصاعد وتيرتها بشكل متوحش إلا منذ الضربة الجوية الإمريكية ضد معاقل طالبان والقاعدة في أكتوبر 2001 .
فإبتداء من التاريخ المذكور راحت جموع الإنتحاريين الأفغان والباكستانيين، ومن يوالونهم تنطلق من المدن القبلية النائية المنفلتة أمنيا على الحدود الباكستانية – الأفغانية صوب الحواضر الباكستانية، زارعة الخراب والدمار، والقتل العشوائي الذي لم ينج منها حتى المتعبدين في المساجد والكنائس، وذلك بحجة “الإقتصاص من الكفار”. غير أن هذا القصاص المزعوم لم ينحصر في ضرب الأهداف الأجنبية، وإنما طال مراكز الشرطة والأمن الباكستانية أيضا (بدعوى أنها مناصرة للكفار أو متحالفة معها)، بل طال حتى المستشفيات والمدارس والأسواق المكتظة ومقار الجمعيات الأهلية، الأمر الذي لا تفسير له عندي سوى إشاعة الفوضى والتخريب وقتل أكبر عدد من البشر، بهدف توغير صدور البسطاء ضد السلطة المركزية.
وتفيد كرونولوجيا الحوادث الإرهابية في باكستان منذ 2002 بأن أول عملية إنتحارية وقعت في مارس من ذلك العام، حينما فجـّر إنتحاري نفسه في كنيسة بإسلام آباد، فقتل 15 شخصا وجرح 40 آخرين. تلت تلك العملية حادثة زرع متفجرات في حافلة بالقرب من فندق “شيراتون كراتشي” في 8 مايو 2002 ، وهي الواقعة التي أزهقت أرواح 15 شخصا وجرحت 35 آخرين (كان من بين القتلى 9 مهندسين فرنسيين و 5 من زملائهم الباكستانيين العاملين في مشروع بحري مشترك). وقتها قيل، وللمرة الأولى، أن الدافع وراء العملية هو الإعراب عن غضب المسلمين من تحالف الحكومة الباكستانية مع أعداء الإسلام.
وتمثل عملية 8 مايو أهمية خاصة لأن نظام الرئيس السابق الجنرال “برويز مشرف” بدأ بعدها سياسة جديدة قوامها نبذ السياسة الرسمية لبلاده والداعمة لحركة طالبان الأفغانية، والتي إستمرت على مدى عقد من الزمن. ومما لا ريب فيه أن هذه السياسة الجديدة جعلت جهاز المخابرات الباكستاني القوي يبدو (فعليا أو صوريا) في مواجهة الجماعات الجهادية العاملة في أفغانستان أو تلك المنطلقة من باكستان.
بعد ذلك، وتحديدا في 2003 قـُتل 70 شخصا وجـُرح 114 آخرون في ثلاث عمليات إنتحارية منفصلة، إستهدفت إثنتان منهما حياة “مشرف” في ديسمبر من ذلك العام، فيما إستهدفت الثالثة حياة رئيس وزرائه “شوكت عزيز”. أما في عام 2004 فقد قــُتل 91 شخصا وجـُرح 393 آخرون في سبع عمليات منفصلة. وفي العام التالي مباشرة بلغ عدد القتلى 86 وعدد الجرحى 219 شخصا من جراء أربع عمليات إنتحارية. وفي عام 2006 كان هناك 161 قتيلا و352 جريحا بفعل سبع عمليات إنتحارية.
في السنة التالية ساهمت عدة عوامل، أهمها إقتحام الجيش للمسجد الأحمر في إسلام آباد لتطهيره من المتطرفين، في إرتفاع أرقام ضحايا العنف بصورة قياسية. حيث ســُجل مقتل نحو 766 وجرح 1677 من خلال 56 هجوما إنتحاريا. لكن الأهم من هذا هو إرتفاع أعداد القتلى في صفوف قوات الأمن والشرطة المحلية في ذلك العام، الأمر الذي عزاه البعض إلى محاولة لجؤ مشرف إلى خداع الميليشيات الجهادية عبر إرسال من يتعقبهم بالملابس المدنية بدلا من الزي العسكري. وهذا في الواقع دفع الميليشيات القبلية المتطرفة إلى مضاعفة عملياتها الإنتحارية بدليل أنه في 2008 قــُتل ما لايقل عن 895 شخصا، وجُــرح 1873 آخرون في 60 عملية إنتحارية متفرقة. وفي العام التالي إستمرت أرقام القتلى والجرحى في منحاها التصاعدي، فقـُتل 951 شخصا وجـُرح 2361 . لكن الأرقام الأخيرة لا تقارن بما ســُجل في عام 2010 والذي شهد مقتل 1172 وجرح 2204 شخصا في 51 عملية.
ورغم أن المشهد العام في السنة الجارية يوحي بتراجع العمليات الإنتحارية (حتى تاريخه وقعت 36 عملية حصدت أرواح 610 أشخاص وأصابت 850 آخرين بجروح)، فإن ما لا يمكن توقعه هو إستمرارية منحى التراجع، لا سيما في ظل المتغيرات التي تعصف بالمنطقة. فجزء من أعمال العنف الإنتحارية لم يكن بسبب تدخل “الكفار” في الشأنين الأفغاني أو الباكستاني كما قيل، بقدر ما كان صدى لأجواء الطائفية المقيتة في المنطقة بدليل إستهداف بعض الميليشيات المتطرفة لمساجد الجماعات التي تختلف معها مذهبيا.
والحال أن الباكستانيين من أشياع طالبان والقاعدة تدربوا وتعلموا من إخوتهم الأفغان الكثير، ونقلوه إلى بلادهم، تمزيقا لوحدتها، وتخريبا لسلمها الأهلي. والغريب أنه رغم وضوح الصورة وإدراك ما يسعى إليه هؤلاء المخربون، فإن جهاز المخابرات الباكستاني لم يقطع علاقاته معهم، وهو ما عزاه البعض إلى الصراعات الخفية بين رموز هذا الجهاز المتنفذ حول السلطة والإمتيازات والنفوذ. ومن هنا لم تكن آتية من فراغ دعوة واشنطون مؤخرا لحليفتها الباكستانية بضرورة حسم علاقة الجهاز مع الجماعات المتحالفة مع طالبان (وتحديدا جماعة حقاني) بأقصى سرعة تحت طائلة قطع المساعدات الإمريكية السخية.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين