في مسرحية سيئة الإخراج، وعمل إستعراضي قصد منه إرسال رسالة إلى من يعنيهم الأمر في دول الجوار وعبر مياه الخليج العربي أيضا حول قوة أنيابها المخابراتية، وقدرتها على الوصول إلى خصومها وإلتقاطهم، سواء كانوا في البر أو الجو أو البحر، زعمت طهران في الثالث والعشرين من فبراير المنصرم أن نجاحها في إصطياد زعيم جماعة “جند الله” السنية البلوشية “عبدالملك ريغي” قد تم بقدراتها الذاتية ومن دون أدنى مساعدة أجنبية.
“محمد عباسي” يكذب رواية طهران ويحرجها
وحتى قبل أن يدحض السفير الباكستاني في طهران “محمد عباسي” هذه المزاعم ويحرج الإيرانيين عبر تصريح صحفي قال فيه بوضوح “أن الرواية الإيرانية بعيدة كل البعد عن الحقيقة” – لولا أصول الدبلوماسية لقال أن الرواية كاذبة – و أن بلاده ساعدت إيران إستخباراتيا على إعتقال ريغي وهو مسافر على متن طائرة ركاب مدنية (إتضح فيما بعد طبقا لتصريحات سلطات الطيران المدني في بشكيك عاصمة قيرقيزستان أنها تابعة للأخيرة وكانت في رحلة إعتيادية من دبي إلى بشكيك تحت رقم 454) و”أن هذا العمل لم يكن ممكنا لولا تعاون باكستان”، كان كل الشواهد والمعطيات تدل على وجود ضلع للمخابرات الباكستانية في الحدث.
مصلحة طهران وإسلام آباد في القبض على ريغي
فلئن كان لطهران مصلحة أكيدة في إعتقال الرجل الذي وقف وراء عمليات إغتيالات وتفجيرات عديدة بحق رجال حرسها الثوري وموظفي أجهزتها الرسمية في إقليم “سيستان/ بلوشستان”، و لها مصلحة أخرى تتمثل في إستثمار العملية في التغطية على إخفاقاتها وأزماتها الداخلية المتصاعدة منذ إنتخاباتها الرئاسية الأخيرة، ولها مصلحة ثالثة في الإدعاء بأن ريغي لم يكن سوى أداة في أيدي “الشيطان الأكبر” وحلفائه، فإن لإسلام آباد مصلحة أكبر بكثير خصوصا في ظل ظروفها ومشاكلها الحالية التي تبدأ بمعاناتها الإقتصادية المزمنة، والفلتان الأمني في مدنها الكبرى والذي جعل منها بلدا غير جاذب على الإطلاق عند المستثمرين الأجانب، والتوترات الصامتة في علاقاتها مع جارتها الإيرانية والناجمة عن إتهام طهران المتكرر للأنظمة الباكستانية المتعاقبة بالتساهل في التعامل مع المتمردين البلوش المتحركين عبر الحدود المشتركة، ولا تنتهي عند التحديات التي تواجهها في شمال البلاد المتاخم لأفغانستان من قبل الفرع الباكستاني لحركة طالبان المدحورة التي أسستها وجهزتها وأطلقتها مخابرات إسلام آباد نفسها في التسعينات زمن حكم رئيسة الحكومة الراحلة السيدة “بي نظير بوتو”، وذلك قبل أن ينقلب السحر على الساحر على النحو المعروف للجميع.
وقد يقول قائل ما الفائدة الآن من الحديث عن هذا الموضوع؟، فأيا كانت الجهات المتورطة في العملية، وأيا كانت تفاصيلها، فإن المهم لطهران وحلفائها الإقليميين من حكومات وأحزاب هو وقوع أحد أهم المطلوبين لدى النظام الفقهي الإيراني في المصيدة!
طهران ستشنق ريغي لا محالة
مثل هذا الكلام صحيح دون شك، خصوصا وأن نهاية ريغي ستكون حكما بالإعدام شنقا تصدره محاكم الثورة الإسلامية على نحو ما فعلته هذه المحاكم منذ الثورة الخمينية في عام 1979 بحق عشرات الآلاف من الإيرانيين ممن لم تصل تهمهم إلى ربع التهم الموجهة إلى ريغي الذي تتداخل في سيرته صورتا “المناضل” من أجل الحرية، و”الإرهابي” الذي لا يفرق ما بين الأهداف العسكرية والمدنية.
عبدالملك ريغي وعبدالله أوغلان
لا يمكن ، بطبيعة الحال، التقليل من عملية إعتقال “ريغي” أيا كانت أسرارها وتفاصيلها غير المعلنة حتى هذه اللحظة. فهي حدث كبير ومهم، وربما كان في مستوى إعتقال الأتراك لزعيم حزب العمال الكردي “عبدالله أوغلان”. غير أن من يعتقد بأن الحدث سوف يؤدي إلى إنطفاء جذوة الحركة الإنفصالية البلوشية في باكستان وإيران من أجل إقامة كيان مستقل للبلوش الموزعين ما بين البلدين تحديدا، فهو واهم. إذ ربما كان العكس صحيحا، بمعنى أن إعتقال “ريغي” قد يؤدي إلى المزيد من المتاعب لكلا النظامين الإيراني والباكستاني. وشاهدنا هنا هو أن نجاح أنقرة في إعتقال الزعيم الإنفصالي الكردي “عبدالله أوغلان” في عام 1999 في عملية مخابراتية جريئة في العاصمة الكينية من بعد طرده من سوريا، رضوخا لتهديدات أنقرة لدمشق، لم يفض إلى تراجع طموحات الشعب الكردي في تركيا في إقامة وطنهم المستقل أو موت قضيتهم التاريخية.
العملية قد تؤجج نوازع الإنتقام عند البلوش
وبعبارة أخرى، فإن إعتقال “ريغي” وإعدامه المؤكد لاحقا – بدليل ما ذكره المدير العام لعدلية طهران “علي رضا أوايي” الذي قال أن ريغي قاتل وبالتالي سيطالب بمحاكمته في طهران كي ينفذ فيه حكم الشريعة الإسلامية بحزم – قد يدفع بأنصاره في حركة “جند الله” – التي للكثيرين منا بالطبع تحفظات عليها بسبب طروحاتها الطائفية والوسائل العنيفة التي تنتهجها – وغيرهم من بلوش الداخل والمهجر إلى التضامن والتكاتف والتحرك بصورة غير مسبوقه بقصد الإنتقام، بل قد يدفعهم إلى التحالف أو التنسيق مع القبائل البشتونية في باكستان وأفغانستان الطامحة هي الأخرى منذ زمن بعيد إلى إقامة كيان بشتوني مستقل في شمال باكستان وجنوب أفغانستان تحت إسم “بشتونستان”، مستغلين في ذلك العداء المشترك تجاه النظام الباكستاني المائل دائما نحو تفضيل العناصر البنجابية في المقام الأول والعناصر السندية في المقام الثاني، ناهيك عن توظيفهم للتداخلات العرقية والقبلية والثقافية ما بين الشعبين البلوشي والبشتوني.
رد حركة “جند الله” على عملية إعتقال زعيمها
والحقيقة أن رد حركة “جند الله” على إعتقال زعيمها جاء سريعا ومتناغما مع ما ذكرناه في السطور السابقة. فمن بعد الإعراب عن إستيائها لتعاون مزعوم بين المخابرات الغربية ومخابرات طهران وإسلام آباد وكابول في الإيقاع بزعيمها، ومن بعد التذكير بأن طهران تنسق وتتعاون مع الغرب على خلاف ما قد يبدو للعيان من عداء ونفور، طمأنت الحركة أنصارها قائلة في بيان رسمي لها “نقول لأهل السنة المؤمنين في إيران والشعب البلوشي، عليكم بالصبر، وينبغي أن نعلم جميعا أن هذا قضاء الله وقدره، ونحن مستمرون في القتال والجهاد”، ومضيفة “إن المأساة الكبيرة ستزيد تصميمنا على النضال عن طريق الجهاد بصورة أكثر حزما لتكريم الضحايا وتحقيق الحرية والكرامة للأمة البلوشية وجميع أهل السنة”.
وفي مكان آخر من البيان، تعهدت الحركة بالانتقام لإعتقال زعيمها مهددة طهران بهجمات نوعية غير مسبوقة على يد من وصفتهم بالمئات من الشباب البلوشي المدرب على القتال والكر والفر.
من هو عبدالملك ريغي؟
لكن من هذا الرجل الذي أظهرته أجهزة الإعلام الإيرانية المرئية على شاشاتها كسيرا ويائسا، ومعترفا على نفسه بالضلوع في مؤامرة أمريكية ضد إيران، على عكس ما عرف عنه من بأس وعزيمة وإصرار على نفي تهم التعاون مع الغرب؟
ينتمي عبدالملك ريغي المولود في عام 1979 إلى قبيلة “ريغي” البلوشية المعروفة كما هو ظاهر من إسمه. ويقال أنه لم يحظ بأي تعليم سوى بعض الدروس الدينية، قبل دخوله المعتقل بسبب إعتدائه بالسلاح الأبيض على أحد مواطنيه، هذا على الرغم من أنه وضع لقب “دكتور” قبل إسمه حينما إستضافته إذاعة “صوت أمريكا في إبريل من عام 2007. أي بعد سنتين كاملتين من إدعاء السلطات الإيرانية بموته في عملية عسكرية على الحدود الإيرانية – الأفغانية.
أما حركته المعروفة بإسم “جند الله” فقد ظلت طوال السنوات القليلة الماضية محورا لإتهامات طهران بوقوفها خلف عمليات القتل وقطع الطرق في إقليم “سيستان/ بلوشستان” وتهريب المخدرات، بل اتهمتها أيضا بسعيها إلى فصل الإقليم المذكور عن التراب الإيراني بمساعدة الغرب وتنظيم “القاعدة” معا، على الرغم من النفي المتكرر لريغي بأن هدف جماعته هو فقط إزالة التمييز والغبن الواقع ضد مواطنيه السنة وسنة إيران عموما، وتحقيق العدالة والمساواة لهم.
أهم خمس عمليات لحركة “جندالله”
ولعل أهم خمس عمليات جريئة قامت بها الحركة و تسببت في ثورة طهران العارمة عليها هي: ما حدث في مارس من عام 2006 ، حينما اعترض مقاتلوها على طريق زابول – زاهدان حافلة ركاب وقتلوا 22 فردا ممن كانوا على متنها من موظفين رسميين عائدين إلى أسرهم للإحتفال بعيد النوروز. وما حدث في 14 فبراير من عام 2007 حينما فجرت الحركة حافلة كانت تقل عناصر من الحرس الثوري الإيراني فقتلت 11 وأصابت 18 آخرين. وما حدث في مايو من العام نفسه حينما قتلت الحركة 34 إيرانيا وأسرت آخرين على طريق بام – كيرمان. وما حدث في مايو من عام 2009 حينما فجر مقاتلو الحركة مسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في زاهدان فتسببوا في مقتل 20 من المصلين. وأخيرا ما حدث في أكتوبر من العام نفسه حينما هاجمت عناصر من الحركة مدينة “سرباز” البلوشية الشرقية فجرحت نحو 150 شخصا وقتلت 43 من قادة الحرس الثوري البارزين، كان من بينهم نائب القائد العام للحرس “نور علي شوشتاري” وقائد الحرس الثوري في إقليم “سيستان/بلوشستان” رجب علي، وقائد وحدة أمير المؤمنين في الحرس المذكور، علاوة على عشرة من الزعماء القبليين الموالين لطهران.
elmadani@batelco.com.bh
* كاتب ومحاضر في الشئون الآسيوية من البحرين
للمزيد نقترح على القارئ مشاهدة المقابلة التالية التي اجرتها قناة “العربية” مع عبد الملك ريغي قبل اعتقاله. وقد تسّبت المقابلة بطرد مراسل “العربية” من باكستان، قبل أن تتراجع سلطات باكستان عن قرار الطرد.
صناعة الموت مع زعيم جماعة جند الله 1
صناعة الموت مع زعيم جماعة جند الله 2
باكستان تكذب رواية طهران عن إعتقال زعيم متمردي بلوشستان
i think u work for the suadies moukhabrat . to much hate