لم أكن في وارد الكتابة إليك وعنك بعد انقطاع أواصر الصلة والاتصال بشخصكم، وبعد أن اختطفتكم الحكومة وفقدناكم أستاذا معلما ملهما، صديقا حميما، وكان عزاؤنا هو أن يكسبك الوطن كصاحب خبرة وكفاءة وعلم ومقدرة، وذلك أمر مشكوك فيه حتى الآن- على الأقل.
كنت أحسب أن سلطة النظام الغاشمة والهجامة التي طالما تقيأت قباحاتها ونذالتها وخسّتها وانحطاطها وهمجيتها عليك وأمثالك قد ولت إلى غير رجعة، وأزاحت عنا عبء الكتابة عنك في مضمار التضامن الإنساني ومقاومة القبح والتسفّل والسياسة الرثة. وفي ذلك كان خطئي جسيما لأني اعتقدت بأن سلطة الفساد والاستبداد تنحل بالضربة القاضية، وأن الاستبداد ينحصر في احتكار السلطة والثروة والقوة من قبل فئة أو طغمة أو عائلة حاكمة فحسب. وفي ذلك إسقاط لحقيقة أن الاستبداد في احد مضامينه الأكثر عمقا وخطورة هو “ثقافة” مجتمعية تضمر فيها الروح، أحيانا، وتنحدر إلى مستوى الفلكلور الشعبي، ولكنها تستيقظ وتلتهب حين تحتدم الأزمات وتطل برأسها لتنطق بنفس لغة “النظام” الذي توهّمنا بأنه سقط وهو لم يسقط قط.
والشاهد على ذلك هو أن أبواق “النظام” التي كانت تنهال عليك بأقذع وأحط الاتهامات والشتائم، وتتقصّد الانتقاص من أصلك وفصلك -لمجرد أنك ابن مدينة ومجبول على التمدن والتحضّر ولغة الحوار- وتذهب إلى حد مصادرة يمنيتك باستعلاء عنصري أجوف لم يتورع عن وصفك بـ”الصومالي”، لا تختلف عن الأصوات الزاعقة اليوم والتي تنكر عليك جنوبيتك –أي من الجنوب- أو تتعمد القول بأنك لست من ذوي الحسب والنسب وأبناء الأصول، وأنك لست أكثر من “ظل باهت” وجدار قصير!
إنه “النظام” نفسه وبكامل حذافيره البدائية والبدوية المحكومة بمنطق التراتب والأصل والجاه والمكانة والنسب وكامل مفردات ومشتقات ما قبل الدولة والقانون والحداثة والإنسان الفرد/المواطن.
ولا شك أن هذا المنطق كان وما زال يقبع في خلفية عجزنا عن إنتاج دولة وتعاقد اجتماعي وقوانين عامة فوق الأعراف، وعجزنا عن الانتقال من مفهوم الملَّة إلى مفهوم الدولة.
ولا شك –أيضا- أن حقبة المخلوع صالح لم تنته وإن كانت بدايات ربيع الثورة قد أغوتنا بشعور من ذلك القبيل حين أظهرت صورة التنوع والحوار والتواضع. إلا أنه وبعد انقضاء أكثر من عام أخرجت –أي حقبة صالح- أسوأ ما في المجتمع من تعصب وطائفية وجريمة وعينات من قطعان البلطجة وحناجر تتبادل الأدوار مع الخناجر.
وسوف نقول لأبي “خالد” ذلك هو حظك وقدرك بعد أن صرت في أتون الإشكالية اليمنية وعلى رأس حكومة لا حول لها ولا قوة.
الناس يا سيدي لا تقدر أنك إنسان من لحم ودم وإحساس ودمع، وسوف تستمر جولات العدوان اللفظي عليك، ومن الراجح أن تتصاعد طالما وأنت على رأس سلطة تنفيذية مشلولة منذ اليوم الأول.
المحزن أن الحملات العدوانية تبدو شرسة وفجة وخالية من أولويات أدب التخاطب وهي تستهدف منعك من القيام بواجبك. وقد انخرط فيها المغرضون وذوز النوايا الطيبة، وكلهم يريدون محاسبتك على الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى تقصير المؤسسات وفساد الإدارات، ويطالبونك بمواقف خرافية وأنت لا تملك حتى الحد الأدنى من أدوات الفتنة!
الواضح أن ضغوط قوى الأمر الواقع وقوى النظام و”حماة الثورة” وطلاب الثأر والانتقام تلتقي في أغلبها على ابتزازك، وقلما تجد أو ستجد من يتفهم المواقف الصعبة التي ارتضيت لنفسك تحمل مسؤوليتها، ويتفهم صمودك في أزمة كفيلة أن تطيح دهاليزها وفخاخها بأكثر السياسيين تمرّساً ودهاءً وحنكة.
ويبدو أن الضريبة التي يمكن أن يدفعها من يقف على رأس حكومة في مرحلة انتقالية باهظة. وهي باهظة إلى ما يتجاوز كل معقول في بلاد مشلولة ولا ينتمي أهلها إليها بقدر ما تتوزع انتماءاتهم وولاءاتهم ذات اليمين وذات الشمال.. بلاد في حالة انقسام، وفي حالة انعدام يقين على كافة المستويات، وحالة فوضى تدفع بالجميع إلى قرار هاوية، وأنت أعزل من كل سلاح.. سلاح القانون مفلول، وليس ثمة هيبة للدولة حتى ولو كانت ممرّغة في الوحل ويمكن استعادتها، وليس بمقدور حكومتك ولا حتى مؤسسة الرئاسة والرئيس المنتخب التحكم بالعنف بسهولة أو تدارك تفكك مؤسسات الجيش والأمن التي تحولت إلى مقاطعات وإقطاعيات.
لن تنفعك أيها الرجل الطاعن في الحكمة والصبر والحلم وشوشات الكواليس، ولن تغنيك التلميحات عن التصريحات وليس ثمة سبيل آخر أمامك غير قول الحق ولو كان مُرّاً ومكاشفة الجماهير بأسماء الجلادين والفاسدين والمفسدين، وكافة عناصر وهيئات الخراب: كشف اسم الجلاد يشلّه، حسب ساتر.
وعليك أن تعلم بأن الخطأ في المراحل الانتقالية يؤسس لأخطاء متسلسلة ووخيمة، ومن الأحرى الأخذ بالعبرة من دروس الانتقالات الناجحة حتى لا تتبعثر البلاد في دوامة الفوضى، أو تنتهي إلى قبضة طالبانية.
وفي السياق لا بأس من الاعتراف بكافة الأطياف والمكونات في الساحة، وتدارس الأسباب البعيدة والقريبة للانفلات والفوضى، وبلورة الزعامة المرتكزة إلى إطار مؤسسي مكين مع الأخذ بالاعتبار أن المجتمع متعطش من أعماقه لزعامة تنقذه من أهوال الحاضر. ولا بأس من الرهان على العلم والتعليم فمن التعليم تنبثق السيادة. وحذاري ثم حذاري أن تعتقد بأن العامين فترة وجيزة. وأملي كل الأمل أن تعملوا أيها الرجل الفاضل بالانطلاق من الإحساس بأن ما تبقى من فترة مهمتكم الخطرة سوف يستغرق ما تبقى من عمركم، بل وأعمارنا جميعاً معكم.
ومع علمنا أيها الرجل النبيل أنكم تسلمتم بقايا خراب غير قابل على إعادة التأهيل، فإننا نتمنى لكم من الأعماق النجاة والتوفيق ولسفينة اليمن الرسو على برّ..
mansoorhael@yahoo.com
* كاتب يمني- رئيس تحرير صحيفة “التجمع”، صنعاء
باسندوة.. ليس كائناً خرافياً
استاذي العزيز انت رائع جدا