بدأ صعود النساء إلى قمة السلطة في آسيا من جنوبها، وتحديدا من سريلانكا التي قدمت في 1960 سيريمافو باندرانيكا كأول رئيسة للحكومة في العالم، لتتبعها أنديرا غاندي في الهند وحسينة واجد في بنغلاديش وبي نظير بوتو في باكستان. ثم إنتقلت الظاهرة إلى جنوب شرق القارة لتظهر ميغاواتي سوكارنو بوتري في إندونيسيا، وكورازون أكينو وغلوريا ماكاباغال في الفلبين، وينلوك شيناواترا في تايلاند. لكن منطقة شمال غرب آسيا التي تضم عددا من الديمقراطيات المستقرة ظلت بعيدة عن هذه الظاهرة، وإنْ عرف بعض دولها مثل تايوان وكوريا الجنوبية نساء يقدن السلطة التنفيذية، إلى أن كسرت كوريا الجنوبية القاعدة في الاسبوع الماضي بإنتخاب شعبها للمشرعة “بارك جيون هي” (60 عاما) كأول رئيسة للبلاد من بعد أربعة ذكور إنتخبوا ديمقراطيا منذ انتهاء الديكتاتورية العسكرية في 1987 .
والمفاجأة هنا لم تكن في أن الكوريين حزموا أمرهم وقالوا نعم بنسبة 51.7 بالمائة لإمرأة رشحها حزب سينوري (الحدود الجديدة) المحافظ الحاكم، فتميزوا بذلك عن اليابانيين الذين رغم عراقة ديمقراطيتهم لم يستطيعوا تغيير الدستور كي تتمكن أنثى من تقلد ولاية العهد، دعك من ترشيح أنثى كرئيسة للحكومة أو كزعيمة للحزب الحاكم. ولم تتمثل المفاجأة في هزيمة “بارك” للمرشح الشرس للحزب الديمقراطي المتحد المعارض “مون جي إن”، وستة منافسين آخرين مستقلين، وإنما تمثلت أيضا في تفضيل الكوريين لإمرأة هي إبنة رئيسهم الأسبق ” تشونغ هي بارك” الذي قمع المعارضة، وعدل دستور البلاد ليحكمها بقبضة حديدية منذ 1961 وحتى إغتياله على يد رئيس جهاز مخابراته في 1979 .
لكن هذا التفضيل لئن فسره البعض بحنين بعض الكوريين من الجيل القديم إلى أيام والدها التي تميزت بالإنضباط والصرامة والروح القتالية لبلوغ الأهداف الكبيرة وعلى رأسها تصنيع البلاد من خلال الشركات العملاقة، فإن البعض الآخر فسره برغبة أكثر من عشرين مليون كوري جنوبي ممن منحوها أصواتهم في إختبارها لجهة الوعود التي أطلقتها في حملتها الإنتخابية، ولاسيما فيما يتعلق بتقديم رعاية إجتماعية حكومية أكبر، وتخفيض نسب البطالة، واستعادة معدلات النمو السنوية السابقة (5.5 بالمائة كمتوسط خلال العقود الماضية) كي تحافظ البلاد على مركزها كرابع أكبر إقتصاد آسيوي، وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والحد من التمييز الجندري (تحتل كوريا الجنوبية المركز 108 بين دول المنتدى الاقتصادي العالمي، وتقل فيها أجور النساء عن الرجال بنسبة 39 بالمائة في المتوسط،) إضافة إلى بناء الثقة مع الشطر الشمالي المشاغب.
نعم، إن الرئيسة الكورية المنتخبة هي إبنة رئيس سابق، لكن الطريق أمامها للعودة إلى “البيت الأزرق” الرئاسي الذي عاشت فيه سنوات مراهقتها كإبنة لديكتاتور البلاد، ثم كسيدة أولى بالإنابة في سن الـ22 بعدما أغتيلت والدته في 1974 على يد مواطن كوري شمالي في محاولة فاشلة لإغتيال والدها، لم يكن طريقا مفروشا بالورود، وبالتالي يمكن القول انها عانت شيئا مما عاناه أسلافها الأربعة، وجميعهم ممن تشهد سيرهم الذاتية على عصامية فذة ونادرة.
ولم تتمثل معاناة “بارك” في تراجيديا فقدها لوالديها مبكرا، وإنما تمثلت أيضا في إضطرارها إلى الإبتعاد عن الأضواء طويلا تجنبا لشتائم وإنتقادات من كانوا يعادونها ويتقصدون إحراجها فقط لكونها إبنة للديكتاتور “تشونغ هي بارك” الذي سجن وعذب ونفى الكثيرين وفقا لمبدأ “أن الإقتصاد يتقدم على السياسة والثقافة، وبالتالي فإن تحقيق التقدم الإقتصادي يتطلب الإمساك بزمام الأمور بقبضة حديدية”. هذا ناهيك عن الضغوط الشرسة التي كانت تتعرض لها بإستمرار من قبل نشطاء الديمقراطية وحقوق الإنسان للتنديد بوالدها وتحقيره وتقديم إعتذار للكوريين عن حكمه الديكتاتوري. ولا شك أن هذه المعاناة معطوفة على الحرمان من الترف المعيشي فجأة، والذي منعها من العودة إلى باريس حيث كانت تدرس في “جامعة غرينوبل” وقت إغتيال والدتها وإضطرت إلى قطع دراستها هناك للعودة والوقوف إلى جانب والدها ، لعبت دورا في تشكيل شخصية “بارك” الصلبة والطموحة والواثقة من نفسها، بل الشخصية التي وهبت نفسها للشأن العام بدليل عدم تفكيرها حتى الآن في الزواج، ورفضها الإهتمام المبالغ بمظهرها الخارجي (لا تزال تسريحة شعرها مثلا مماثلة لموضة السبعينات).
والحقيقة ان الرئيسة الجديدة لا ترغب في أن يــُنظر اليها كتجسيد للماضي التسلطي، مفضلة أن يكون الحكم عليها وفق إنجازاتها الشخصية أثناء فترة زعامتها للبلاد في السنوات الخمس القادمة، بحسب ما قالته في مقابلة مع مجلة امريكية. لكن الكثيرون يعتقدون أنها ستستعين ببعض الدروس الإقتصادية المستوحاة من حقبة والدها الذي ساند الشركات العائلية العملاقة متعددة الأنشطة ودعمها من أجل التوسع وخلق فرص عمل جديدة، فكان أن قفز معدل الدخل الفردي من 225 في 1970 إلى 1693 دولارا في 1979 .
في كتاب سيرتها الذاتية المعنون بـ ” اليأس دربني، والأمل حركني” والصادر في 2007 تفصح “بارك” عن أسباب عودتها إلى المسرح السياسي أثناء الأزمة النقدية الآسيوية في 1997 فتقول: كان من الصعب عليّ أن أرى ما أقامه والدي من صروح إقتصادية يتحطم وأقف مكتوفة اليدين، لذا قررت خوض غمار الإنتخابات التشريعية علني أستطيع من خلال صياغة التشريعات إحداث التغيير المطلوب، ففزت في كل الانتخابات التي جرت ما بين عامي 1998 و 2011 باسم الحزب الوطني الكبير الذي تحول الآن إلى حزب سينوري.
أما عن مشوارها الدراسي وشهاداتها فتقول: انها تخرجت من مدرسة سانغشيم الإعدادية الثانوية للبنات في سيئول في 1970، ثم نالت بكالوريوس الهندسة الكهربائية من جامعة سوغانغ في 1974 ، إضافة إلى تلقيها دراسات كنسية لمدة فصل جامعي واحد في 1981 ، ناهيك عن حصولها على ثلاث شهادات دكتوراه فخرية من جامعات تايوانية وكورية.
والمعروف أن “بارك” لم تترشح لمقعد نيابي في إنتخابات 2012 كي تتفرغ لقيادة حملات حزبها في الانتخابات الرئاسية وإصلاح أحواله المعتلة بسبب فضائح الفساد التي طالت قادته في عامي 2002 و2004 ، بل وأفضت إلى وقوف الرئيس الأسبق للجمهورية والفائز بإسمه “روه مو هيون” أمام البرلمان في 2002 للمساءلة القانونية. وأستطاعت هذه المرأة الصلبة أن تحتل كرسي زعامة الحزب في 2004 وتقوده إلى حصد 121 مقعدا من مقاعد البرلمان. ورغم خسارة الحزب للأغلبية البرلمانية وقتذاك، إلا أن تلك النتيجة عــّدت بمثابة إنتصار لحزب يئن من الفضائح، الأمر الذي جعل الكثيرون يطلقون عليها إسم “ملكة الإنتخابات”. وتحت قيادتها تمكن الحزب من تحقيق إنتصار كاسح في إنتخابات 2006 وهو العام الذي تعرضت فيه إلى طعنة سكين في وجهها على يد أحد أرباب السوابق، مسببة لها جرحا غائرا، مما إستدعى إجراء عملية جراحية وتجميلية لها إستغرقت عدة ساعات.
والمعروف أيضا أن “بارك” نافست الرئيس الحالي “لي ميونغ” على دخول السباق الرئاسي بإسم الحزب الوطني الكبير (حاليا سينوري) في 2008 ، غير أن “لي ميونغ” فاز بالتسمية بهامش ضئيل، حيث تمكنت من تقليص الفارق بينها وبينه عبر إبراز الإدعاءات التي كانت تفيد بتورط منافسها في قضايا فساد مالي.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh