اثبتت ايران مرّة أخرى أنّها صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في العراق. نجحت ايران التي شاركت على طريقتها في الحرب الأميركية على العراق، في العام 2003، في أن تكون المنتصر الوحيد في تلك الحرب. تطالب الآن بعد توقيع الإتفاق النووي مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا، على قبول العالم بهذا الواقع الذي يجعل منها الوصيّ على العراق. ما تريده ايران عمليا هو القبول الرسمي الأميركي بوضع يدها على العراق وتكريس ذلك.
الظاهر، أقلّه إلى الآن، أن “الشيطان الأكبر” لا يمانع في ذلك بدليل وقوفه موقف المتفرّج حيال ما يدور في بغداد حيث أقدم رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي على سلسلة من الإجراءات تستهدف ظاهرا التصدي لظاهرة الفساد التي لم يسبق لأي بلد في العالم أن شهد مثيلا لها، بما في ذلك البلدان الواقعة في مجاهل افريقيا.
تختبر طهران ادارة الرئيس اوباما ومرحلة ما بعد توقيع الإتفاق النووي. بالنسبة إليها، ليس مهما أن يدخل نوري المالكي، رئيس الوزراء بين 2006 و 2014، ونائب رئيس الجمهورية المقال، في خلاف، أو حتّى مواجهة، مع رئيس الوزراء الحالي. المهمّ في المقابل أن تبقى لعبة التنافس بين المسؤولين العراقيين في الإطار الذي ترسمه طهران لهؤلاء المسؤولين وللسياسيين العراقيين عموما.
داخل الإطار المرسوم من ايران، يستطيع السياسي أو المسؤول العراقي أن يفعل ما يشاء، بما في ذلك أن يتخلى عن الموصل لـ”داعش” وأن يرتكب كلّ ما يريده من فساد، من دون أن يجد من يطرح عليه ولو سؤالا بسيطا. يكفي أن يزور هذا السياسي أو المسؤول طهران وأن يستقبله كبار المسؤولين هناك، حتّى يمرّ بعملية اعادة تأهيل. تسمح له هذه العملية بأن يصبح في امكانه العودة إلى بغداد على حصان ابيض وأن يضرب عرض الحائط بكل الإتهامات الموجهة إليه وأن يهاجم الإعلام العراقي والسياسيين العراقيين الآخرين وأن يلبس السياسيين والإعلاميين ابشع الأوصاف. هذا ما فعله المالكي، وهذا ما يبدو على استعداد لتكراره مستقبلا!
ليس مسموحا بأن يكون هناك سياسي أو مسؤول صاحب قرار مستقل في العراق. في حال كان هناك أي اصرار من أي نوع كان، لدى أي سياسي أو مسؤول على وضع مصلحة العراق فوق أي مصلحة أخرى، لا مجال أمام هذا السياسي أو المسؤول سوى القبول بالتهميش والرضوخ له رضوخا كاملا… في انتظار أيّام أفضل قد تأتي أو لا تأتي. والأرجح أنّ مثل هذه الأيّام لن تأتي إذا أخذنا في الإعتبار ما ينتظر العراق والعراقيين مستقبلا بعد كل الفرص الكبيرة، التي لن تتكرّر، والكمية الضخمة من الأموال التي ضاعت منذ العام 2003… وفي ظلّ الشرخ المذهبي الذي يزداد عمقا كلّ يوم بفضل ممارسات السلطات العراقية ومن يمثّلها على الأرض.
لم يكتف العبادي، تحت ضغط شعبي ليس معروفا هل يستمرّ، باقالة المالكي من موقع نائب رئيس الجمهورية، في اطار حملته على الفساد وكشف تبخّر الف مليار دولار في السنوات الثمان التي كان فيها الرجل رئيسا للوزراء وقائدا اعلى للقوات المسلحة والمسؤول الأوّل عن الأمن في البلد. باشر أيضا اجراءات محددة لملاحقة كلّ من تورّط في الفساد وكلّ من يُعتبر مسؤولا عن سيطرة “داعش” على جزء من العراق، بما في ذلك الموصل قبل ثلاثة عشر شهرا، عندما كان المالكي صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في البلد.
الآن، يكتشف رئيس الوزراء العراقي أنّ هناك سلطة فوق سلطته في العراق نفسه. هناك سلطة ايران ونفوذها الذي لا حدود له أوّلا. وهناك سلطة قادة الميليشيات المذهبية، الموالية لطهران، الذين يدعون مقاومة “داعش” بواسطة “الحشد الشعبي”.
ذهب نوري المالكي إلى طهران في طائرة ايرانية، بحجة حضور مؤتمر ذي طابع مذهبي، وعاد منها بحصانة تجعله من النوع الذي لا يمسّ. قدّم رئيس الوزراء العراقي اوراق اعتماده مجددا لـ”المرشد” علي خامنئي واستخدم كلاما بذيئا لا علاقة له بالحقيقة من قريب أو بعيد لمهاجمة المملكة العربية السعودية. طالب مجددا بوضع المملكة “تحت الوصاية الدولية” متذرعا بأنّها “منطلق الإرهاب”. نسي المالكي أن السعودية شريك اساسي في الحرب الدولية على “داعش” التي وفّر لها بتصرفاته الحاضنة الشعبية في بعض المناطق العراقية. صار نوري المالكي فوق كلّ الشبهات وذلك لمجرّد أنّه صار يحظى برضا الإيرانيين، الأسياد الجدد للعراق.
أكثر من ذلك، صار المالكي يشكّل ورقة ايرانية تضاف إلى الأوراق الأخرى التي تمتلكها ايران في العراق. بات الرجل اداة تستخدم في تذكير حيدر العبادي بأنّ ثمة حدودا لا يستطيع تجاوزها… وإلّا البديل جاهز. لا ينقصه شيء، خصوصا أنّه من “حزب الدعوة” أيضا، الحزب الذي تربّى رئيس الوزراء الحالي في كنفه.
فهم نوري المالكي قوانين اللعبة الداخلية العراقية وامتداداتها الإيرانية والأميركية في العمق. اكتشف باكرا أنّ في استطاعته أن يفعل ما يشاء وأن يرتكب كلّ الأخطاء وأن يجعل الفساد يتجاوز في عهده كلّ حدود يمكن تصورّها. في النهاية، يكفي أن يكون في الحضن الإيراني الدافئ، كي لا يتجرّأ أحد على ملاحقته أو مساءلته أو توجيه أي لوم اليه.
ما لا بدّ من الإعتراف به أنّ رئيس الوزراء السابق سعى، حتّى العام 2010 أن يكون متوازنا. حاول امتلاك هامش ما مع ايران. الدليل أنّه اتهم بشّار الأسد مباشرة بارسال ارهابيين إلى العراق. ولكن بعد انتخابات السابع من آذار ـ مارس 2010، اكتشف أنّه لن يكون في استطاعته البقاء رئيسا للوزراء من دون موافقة ايرانية، خصوصا أن لائحته حلت ثانية خلف لائحة الدكتور اياد علّاوي.
اكتشف المالكي ايضا وجود توافق اميركي ـ ايراني اعاده إلى موقع رئيس الوزراء بحكومة غير مكتملة عاشت اربع سنوات ولعبت دورا في ارسال ميليشيات مذهبية للمساهمة في ابادة الشعب السوري!
ثمّة وظيفة جديدة لنوري المالكي بعدما أدى كلّ الأدوار المطلوبة منه ايرانيا. جاء دور استخدامه لتؤكّد ايران أن الإتفاق النووي مع المجموعة الدولية، وهو اتفاق مع الإدارة الأميركية، لن يكبّلها بأي شكل من الأشكال. على العكس من ذلك، سيوفّر لها القدرة على متابعة مشروعها التوسّعي القائم على اثارة الغراز المذهبية. هل أفضل من العراق “ساحة” لتأكيد هذا التوجّه والتأكد من نيات ادارة اوباما؟