في أواخر كانون الأول الماضي، وفي خطبة له في مسجد عمر بن الخطاب في الدوحة، شكك الشيخ يوسف القرضاوي في بعض المدن الخليجية فيما إذا كانت لاتزال تنتمي للعالم الإسلامي أم هي في طريقها إلى الانتماء للعالم “النصراني”، وذلك على أثر رؤيته للزينات وأشجار رأس السنة وحفلات الألعاب النارية في شوارع هذه المدن وساحاتها. وفي هذه الخطبة أخذ (رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) يصدر الفرمانات التي تحرِّم على المسلمين شراء أشجار عيد الميلاد والمتاجرة بها وبعدم تبادل التهاني بالأعياد مع غير المسلمين.
-1-
حينما سمعت ما قاله الشيخ القرضاوي في الدوحة، خطر على ذهني مباشرة شيخ دمشق الأشهر(عبد الغني النابلسي) حينما مر في إحدى رحلاته على مدينة بيت لحم في فلسطين في عام 1601م. فقد زار آنذاك في المدينة ديراً للرهبان ومكث عندهم فترة من الزمن، وتعرف عليهم واستمع إلى صلاتهم وقد أعجب آنذاك بموسيقى الأرغن(الأورغ) ونظم قصيدة جميلة في هذه الآلة الموسيقية ولم يصدر فتوى بتحريمها على المسلمين باعتبارها آتية من الغرب!!
وكذلك تذكرت ما قاله عميد الأدب العربي طه حسين 1934 في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر): “يجب أن لا يقوم خلاف بين المسلمين والأقباط، فإن الاختلاف بينهما أشبه بالاختلاف بين النغمات الموسيقية، فهو اختلاف لا يفسد وحدة اللحن وإنما يقويها ويزكّيها ويمنحها بهجة وجمالاً” ثم يواصل كلامه قائلاً:” إن الكنيسة القبطية مجْدٌ مصري قديم ومقوِّمٌ من مقومات الوطن المصري، فلا بد أن يكون مجدُها الحديث مثل مجدِها القديم”.
فصاحب كتاب على “هامش السيرة” كان يعتبر الوطن مثل اللحن الموسيقي، يتألف من انتماءات وهويات مختلفة تتعايش تحت سقف الهوية الوطنية. فيرتقي هنا طه حسين في العقلانية إلى أعلى مستوياتها حين يؤكد أن وحدة الوطن ليس لها معنى إذا لم يكن مضمونه في الأساس متنوعاً ونسيجه متباين؛ ويقرر بكل صدق وموضوعية وحس تاريخي أن الأقباط قدماء في مصر وليس كما يصور بعضهم المسيحيين الشرقيين، وكأنهم جاليات أجنبية طارئة تاريخياً على المنطقة وليس من سكانها الأصليين.
ويتكلم عن هذه التلاوين الديموغرافية المفكر العربي الدمشقي الراحل (قسطنطين زريق) في معرض كلامه على نشأته التي كان يعتز بها، والتي كان يعتبرها أحد العوامل التي أسهمت في تكوين فكره القومي. فقد نشأ في بيت يقع في حي أرثوذوكسي في إحدى أهم مناطق دمشق القديمة(القيمرية)، على تخوم أحياء المسلمين السنة من الغرب والشمال ، وتخوم الحي الشيعي والحي اليهودي من الجنوب، و حي المسيحيين الكاثوليك من الشرق… وكذلك في هذا الحي المختلط ترعرع الزعيم السياسي السوري عبد الرحمن الشهبندر وهو مؤسس أول حزب باسم (حزب الشعب) في سوريا، ويعتبر أحد أهم الرواد الذين وضعوا بذور الدعوة للدولة المدنية الحديثة والعلمانية.
وكاتب هذه السطور، نشأ في بلدة سورية تاريخية قديمة، فيها ست وعشرون ديراً وكنيسة من الحقبة المسيحية الأولى، وديرها الكبير مبني في عهد الامبراطور الروماني جستنيان؛ ويحج إليها المؤمنون من أنحاء العالم كله. عشت في بيت يقع في وسط (صيدنايا) تماماً في شارع الجامع، ويعيش في هذا الحي المسلمون والمسيحيون الأرثوذكس والكاثوليك على أحسن ما يرام، وصيدنايا اليوم صارت تحوي مذاهب مسيحية أخرى بعد مجيء الإخوة المهاجرين من العراق، من السريان والكلدان والآشوريين والصابئة. لا أتذكر يوماً أية خلافات أو صدامات تذكر قد حدثت بين المسلمين والمسيحيين في بلدتنا، ولم يكن بينهم غير التعايش والتحابب والتزاور والتعاون وتبادل التهاني في الأعياد والأفراح والتعازي في المآتم والأحزان… والحال ذاته كان بين بلدتنا التي يغلب عليها الطابع المسيحي والقرى الأخرى المسلمة القريبة منها؛ إذ كان سكان هذه القرى يأتون في صباح كل يوم بإنتاجهم الزراعي إلى سوق بلدتنا ليبيعونه ويتبضعون منها حاجياتهم.
ولذلك استهجنت كثيراً فتاوى الشيخ القرضاوي، وكذلك زاد استهجاني أنها تصدر في أوائل القرن الواحد والعشرين، في الوقت الذي لم نكن نسمع بمثل هذه الفتاوى العجيبة في منتصف القرن الماضي. وبخصوص هذه المفارقة كان المرحوم ياسين الحافظ يتكلم دائماً في أدبه السياسي حول مفهوم (الفوات) أو ما كان يدعوه أحياناً التقدم إلى الخلف، الذي يطَّرِد في عالمنا العربي مع تفاقم الاستبداد وتغول السلطة.
-2-
المشكلة في فتاوى الشيخ القرضاوي الأخيرة، أنه ليس فقط لا يعترف بموضوعية التنوع المجتمعي، وينسى أو يتناسى تاريخ منطقة الشرق الأوسط ووطنه الأول مصر قبل ان ينتقل إلى قطر، لكنه كغيره من التماميين(integristes)، لا يقيم أي اعتبارٍ لتغير الشروط الموضوعية وتأثير هذا التغير على الناس؛ وكأن هذه العولمة الرأسمالية التي تمخر عباب الكوكب من رياحه الأربعة لا تؤثر على أفكارهم وحياتهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم. وكذلك نحن هنا إزاء موقف لا يعترف بالتثاقف بين الشعوب. والتثاقف قديم، وارتبط دائماً بتطور المعرفة وتطور المواصلات والاتصالات. فيبدو أن لدى البعض نسيان كامل للتثاقف، في حقبة ازدهار الدولة العربية الإسلامية في كل من بغداد وقرطبة مع الثقافات اليونانية والفارسية والهندية. وكذلك هناك نسيان لعهد الترجمة في عهد المأمون، وقد دخلت إلى لغتنا العربية في تلك الفترة مفاهيم لغوية غير عربية مثل الموسيقا والجغرافية والاستاطيقا والديناميكا والسراط (strata) والقانون (canon) وغيرها… وكذلك أخذ الغرب من عندنا ما أنتجه ابن رشد وابن ميمون وابن خلدون وابن سينا والفارابي والبيروني…
أما ما يتعلق بمشهد انطواء عام 2009 وانبثاق السنة الجديدة 2010؛ فلم أر المشهد كما رآه الشيخ يوسف القرضاوي، ولم يبد لي عيداً (نصرانياً) على الإطلاق، إنما كان مشهداً عولمياً بامتياز. ففي باريس وسيدني ودبي ونيويورك وهونغ كونغ وبكين وطوكيو وموسكو وسان باولو وكثير من المدن الأخرى، كانت المشاهد توحي بعيد للعالم كله ولا تخص ديناً بعينه، رغم ما حوت من أشكال وصور متباينة وثقافات وتقاليد وخصوصيات متفارقة للشعوب.
تقليداً مسيحياً في الأساس وإنما هو من قبل المسيحية. فالشجرة الخضراء وسيلة تزيينية لدى كل الشعوب، ولون الشجرة يرمز لتجدد الحياة واخضرارها في السنة الجديدة. وتحظى الشجرة بحب الناس بغض النظر عن معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم. ولها عند أهل الصحراء مكانة خاصة لندرة الواحات فيها؛ وكم قرأنا في الأدب العربي قصصاً وحكايا عن بعض الأشجار الوارفة التي كانت موضع احترام وتقديس لدى بعض القبائل في الجزيرة العربية.
أما عيد رأس السنة الميلادية (الشمسية) فهو أيضاً لم يبق عيداً للشعوب المسيحية فقط، وإنما صارعيداً للعالم كله، وخاصة في الحقبة المدنية الحديثة، وكذلك هذه المناسبة صارت تعتبر تشييعاً لدورة أعمال سابقة واستقبالاً لدورة أعمالٍ جديدة. ففي الأسبوع الأخير من كانون الأول (ديسمبر) تجري الحسابات التجارية الختامية في كل أنحاء العالم، وكذلك هذا التقويم صار معتمداً في العلاقات التجارية العالمية، و دخل في الحواسيب والمعلوماتية كمقياس للزمن. لم يبق هذا العيد فقط للمسيحيين وأوربا وأميركا، وإنما تحتفل به كل أمم الأرض، في البلدان الأرثوذوكسية. و بلدان شرق آسيا الهندوسية والبوذية والطاوية والشنتوية. وكذلك يحتفل به في بلاد الشام في كل من سورية ولبنان والأردن وفلسطين وفي مصر والعراق والمغرب العربي. فلماذا نستغرب أن تنتقل تقاليد هذا العيد العالمي إلى بعض المدن الإسلامية التي صارت تضاهي المدن الغربية والرأسمالية الكبرى بتجارتها وعمرانها وشركاتها وأسواقها وفنادقها وأبراجها ووسائل نقلها.
فلا يمكن القطع بين التحديث والحداثة، ولا يمكن تجاهل التثاقف بين الشعوب باعتباره ظاهرة موضوعية لا يمكن إلغاؤها بالإرادة والرغبة والقوة. ومن الأمثلة القريبة لهذه الحداثة وهذا التثاقف، الجامعة التقنية للدراسات العليا التي دشنها في السنة الماضية الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز، وعلى أساس أن تكون مختلطة بين الذكور والإناث. ولما احتج أحد رجال الدين المتزمتين على مبادرة الاختلاط أدى ذلك إلى عزله. وكذلك الحال بالنسبة لقيادة المرأة للسيارة، فالمفتي الباز الابن يقول في هذه الأيام أن هذا الحق لم تحرم منه المرأة بسبب الأحكام الشرعية، وإنما بسبب الأعراف والتقاليد، في الوقت الذي كان للمفتي الباز الأب موقف آخر تماماً. فالأحوال لا تبقى حالها……
إن ايديولوجيا الشكل الواحد(UNIFORME) والتجانس والتماثل في المجتمع التي يعشقها التماميون، فيما يتعلق بالدين والمذهب أو على المستوى الإثني والقومي، أو ما يتعلق بالفكر والثقافة والسياسة، أو على مستوى الطقوس والتقاليد والعادات والألبسة والأزياء، مثل هذه الإيديولوجية مدمرة لأي مجتمع ومفككة له… وإن الطبيعي والموضوعي في المجتمع هو التنوع والتعدد.. ولا نعتقد أن الحياة ستكتب طويلاً للدولة الدينية أو المذهبية أو الإيديولوجية، ولا لدولة حكم الرعيان كما كان يسميها الشاعر الراحل (منصور الرحباني) وإنما المستقبل لدولة المواطنة……
zahran39@gmail.com
* دمشق