كلما لاح في الافق حل لقضية رئيسية في منطقتنا عادت الاوضاع واكدت ان عالمنا العربي لن يكون من المناطق التي تنعم بالاستقرار في السنوات العشر القادمة. ففي منطقتنا تتغلغل تناقضات عدة بدءا من تراكم الفقر وحدة التميز وسيطرة الديكتاتورية وضعف الحراك ومحدودية الحرية. لكن جبهة الصراع العربي الاسرائيلي هي الاخرى مرشحة للفوران لانها تجمع عدة امور مفجرة بنفس الوقت: احتلال وعنف، اقتلاع من الارض ومطاردة، فقر وضيق، و هجوم يومي على مقدسات واراضي وحقوق. هذه الجبهة تهدأ احيانا من شدة الضغط وعنف الحروب وتراكم الهموم، لكنها ما تلبث الا وتنفجر في وجه الكبار والصغار المحبين والكارهين محدثة دويا كبيرا.
اليس الظلم، كما تعلمنا حوادث التاريخ، محرك وحافز للمجتمعات والناس للتغير؟ اليس صحيحا انه لولا مقاومة الناس للظلم لما وصل احد في التاريخ الى حقوق وعدالة؟ ان التعامل مع الظلم في فلسطين وعلى حدودها سيكون احد محددات العالم العربي والشرق في المرحلة القادمة.
ويتضح بنفس الوقت ان مسيرة السلام العربية الاسرائيلية، التي اوحت منذ اواسط التسعينات بأفاق حل سلمي للقضية الفلسطينية، وصلت لطريق مسدود. بل هناك في الاجواء العربية والفلسطينية راهنا الكثير من خيبة الأمل. وتكاد تصل هذه الاجواء للحظة خاصة في حجم إنسدادها وذلك بعد مرور اكثر من عام على رئاسة أوباما الواعدة. فهناك في الافق مخاض فلسطيني جديد في ظل احاديث عديدة عن حرب اقليمية قد تبدأها اسرائيل مع ايران او مع حزب الله. ان الابعاد الاستراتيجية لوقوع مواجهات بين أسرائيل وبعض القوى العربية والاسلامية ستكون كبيرة. ستعيد احداث كهذه، خاصة اذا ما تبلورت بين الفلسطينيين انتفاضة جديدة، الصراع العربي الاسرائيلي الى اساسياته الاولى.
لقد قامت اسرائيل منذ البداية على عقيدة أمنية تفرض تراجع محيطها العربي امامها وذلك بسبب تفوقها العسكري ومقدرتها على نقل الحرب الى المناطق العربية. هذا اساس حروب اسرائيل مع العرب حتى في زمن المقاومة الفلسطينية المنطلقة من قواعد لها في الاردن ولبنان في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وتقوم العقيدة الاسرائيلية الامنية على استخدام القوة المفرط، وعدم السماح بظواهر مسلحة تتحداها حتى بصورة شكلية كصواريخ القسام او اختطاف جنديين اسرائيليين من قبل حزب الله . فهذا يساهم، وفق الفهم الاسرائيلي الضيق للامن، في هز صورة الجيش الاسرائيلي والتأثير على ثقته بنفسه. ان ردة الفعل الاسرائيلية كما حصل في حرب غزة في ٢٠٠٩ وفي الحرب ضد حزب الله في ٢٠٠٦ تعبير عن هذه العقيدة التي واجهت اهتزازا بسبب طبيعة القتال الذي خاضته كل من حماس وحزب الله.
لهذا تستعد اسرائيل في هذه المرحلة لاستعادة المبادرة. فكل الموشرات تؤكد بأن اسرائيل مستمرة في طريقها العسكري. لقد تحول العنف الى الطريق الوحيد الذي تتبعه إسرائيل للتعامل مع استمرارها في الاستيطان وتهويد القدس وإهانة العالم العربي والاسلامي. ان قلة عدد سكان أسرائيل نسبة لعدد سكان العالم العربي، وطبيعة استقواءها على محيطها منذ ولادتها عام ١٩٤٨ بالاضافة الى سعيها لتهويد الاراضي الفلسطينية المحتلة، جعل اسرائيل تستخدم القوة المفرطة في التعامل مع العالم العربي.
اما الاساس الثاني في بنية اسرائيل الدائمة فهو حتمية الالتصاق الامني والسياسي والعسكري بدولة كبرى وتقديم خدمات لهذه الدولة الكبرى لا تقوى دول المنطقة العربية على تقديمها. هذا الجانب الثاني اساسي لوجود اسرائيل بصيغتها الصهيونية والتوسعية والمتصادمة مع سكان وشعوب المنطقة العربية. ففي البداية تحالفت اسرائيل في الخمسينات مع بريطانيا ثم مع فرنسا ضد اماني شعوب العالم العربي، و تحالفت مع الولايات المتحدة بعد حرب ١٩٦٧ ضد العالم العربي. وبما ان الموقف الامريكي المؤيد لاسرائيل هو جزء لا يتجزأ من أمن اسرائيل فأي ضعف او تردد في الموقف الامريكي يخلق ردود فعل كبيرة ومخاوف رئيسية في اسرائيل.
لكن في واقعنا اليوم هناك تغيرات رئيسية يجدر الانتباه اليها تتحكم بقوة الولايات المتحدة ومدى التزامها بأسرائيل. وتنجم هذه التطورات من وقائع مستقلة عن الرغبة الامريكية. ان الولايات المتحدة في طريقها للانسحاب من نقاط ساخنة في منطقتنا بسبب حربي العراق وافغانستان، وهي ايضا في طريقها لمزيد من التنافس والتدافع الهادئ مع دول مثل الصين وروسيا. وبنفس الوقت بدأت الولايات المتحدة تفقد مقدرتها القديمة على التحكم بمفاتيح العالم واضطراباته. هذا التغير يقلق اسرائيل التي ربطت مصيرها حتى الان بالدعم الامريكي.
لكن اسرائيل لم تستسلم لهذا التغير، فهي ايضا تخضع الولايات المتحدة لضغوط عالية التأثير. فمن خلال الكونغرس الامريكي على سبيل المثال ودور القوى المؤيدة لاسرائيل فيه لن تكون ادارة اوباما قادرة على التحرك باستقلالية رغم حاجتها الماسة لهذا التحرك في ظل الظروف الراهنة والتغيرات الكونية.
ان اسرائيل ستستمر في احراج الولايات المتحدة في لحظة ضعفها الكونية وحاجتها للتصالح مع نفسها ومع العالم الاسلامي. سيستمر هذا الاحراج في مجال الاستيطان وتهويد القدس وانشاء مساكن جديدة للمستوطنين كما حصل مع الاعلان السلبي عن الاستيطان الذي رافق زيارة نائب الرئيس الامريكي منذ ايام. ان السياسة الاسرائيلية الاستيطانية والعسكرية ستتحول مع الوقت في ظل الظروف الدولية والاقليمية الجديدة الى عبئ على الولايات المتحدة وعلى قواتها الموجودة في العراق وافغانستات والشرق الاوسط. سيؤدي كل هذا الى اهتزاز العلاقة في وقت من الاوقات. لكن هذا ليس بالامر القريب، اذ يتطلب استراتيجية عربية واسلامية وفلسطينية مؤثرة بالاتجاه المعاكس. ان هذا التناقض في ظل وجود اوباما وفريقه في البيت الابيض تحول لمدعاة قلق اسرائيلية.
وكلما أقتربت إسرائيل من اكتشاف ضعف مرتكزاتها الامنية سنجدها وقد ازدادت رفضا للتعامل مع الواقع والاعتراف به. يتضح هذا في سياسة نتنياهو في فلسطين والقدس و في عملية دبي الاخيرة وفي سياسة اسرائيل تجاه تركيا وايران. ان القيادة اليمينية لاسرائيل ضعيفة انتخابيا، لهذا فأن طريقها لكسب الاصوات والحفاظ على شعبيتها تعتمد علي التهور ونشر الكراهية.
ان منطقتنا تمر كل عدة سنوات بأزمة كبيرة. لهذا في المدى المنظور تتزايد احتمالات وقوع مفاجئة كبيرة تعيد ترتيب الاوراق واصطفاف القوى. ليس واضحا شكل النتيجة ومداها ولكن الواضح ان منطقتنا لن تستقر او تهدأ في ظل استيلاء اسرائيل على اراضي عربية وفلسطينية وفي ظل سياسة تهجير واقتلاع وفي ظل ضعف عام في الوضع العربي.
ان افضل استراتيجية عربية لمواجهة هذا الوضع هي تلك التي تزيد من الضغط على الولايات المتحدة وتوضح مخاطر الحرب الاقليمية ومخاطر اية حرب جديدة تستهدف غزة المحاصرة أو جنوب لبنان او ايران او سوريا او السلطة الفلسطينية والضفة الغربية. يجب تفادي هذا الاحتمال بقوة لانه يفجر المنطقة ولا يساهم بحل اي من مشكلاتها.
الحرب قد تقع، لكن على العالم العربي دعم لغزة ولبنان وإيران وسوريا والسلطة الفلسطينية لو وقعت الحرب. فرغم نقدنا للسياسة الايرانية الداخلية تجاه حركة الاصلاح الشعبية، ونقدنا لتعامل حزب الله مع التوازنات اللبنانية و ابعاد السياسة السورية تجاه لبنان او الداخل السوري او طبيعة حماس في غزة او طبيعة المشكلات التي تعتري السلطة الفلسطينية الا ان دعم هذه القوى في مواجهة اسرائيل امر اساسي لمنع تصدير الازمة الاسرائيلية الى الداخل العربي وللحد من مقدرة اسرائيل على تهويد الارض واقتلاع السكان.
بنفس الوقت يجب دعم سلطة ابومازن وحكومة فياض وذلك للقيمة الكبيرة التي تمثلها في تحقيق وجود وصمود بشري وانساني للشعب العربي الفلسطيني على ارضه وفي قراه ومدنه. لا تناقض بين رفض شن اسرائيل للحرب والعدوان على القوى العربية الاسلامية وبين دعم الاعتدال في الصف الفلسطيني الذي يساهم في تحقيق بقاء انساني لملايين الفلسطينيين على الارض التي تستهدفها الحركة الصهيونية منذ عقود.
قد تقع الحرب وقد تكون اخر الحروب، لا احد يستطيع ان يتنبأ بحجم المخاسر. وقد تقع الانتفاضة الفلسطينية المنتظرة وتكون الممهدة للاجابة التاريخية حول التعامل مع مأزق الاحتلال ومأزق الحركة الصهيونية. يبقى السؤال: الى متى تعيش اسرائيل بحالة حرب مع مجتمعات تزداد ثورة وربما تنظيما وارادة ؟ لم ينتهي التاريخ، بل بالكاد نجده قد بدأ.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت..
اهتزاز مرتكزات الامن الاسرائيلية والحرب الاقليمية!
يحمل المقال وجميع مقالات الدكتور شفيق الغبرا، رؤية ثاقبة، وتشريحا للواقع المعاش. حقا ان المعطيات سوف تتغير كثيرا، والمنطقة مقبلةعلى تغييرات لا ندري شكلها، لكن مخاضا عسيرا يعتري المنطقة.أوافقك على انه رغم مواقفنا من الأنظمة المستهدفة في الحملة الاعلامية،فان دعمهاواجب، فقد استطاع الغرب حشد معظم الأنظمةالعربية، في خندق واحد مع اسرائيل ضد ايران، وأن الخطر الايراني أشد وأخطر علينا من اسرائيل!!هذه المسخرة بعينها. نحتاج قلمك العادل يا دكتور شفيق الغبرا.
اهتزاز مرتكزات الامن الاسرائيلية والحرب الاقليمية!
ما هو نوع الدعم الذى تتطلبه يا سيدى؟ هل هو دعم سياسي عن طريق المزيد من المؤتمرات؟ أم هو دعم مادى عن طريق إرسال المزيد من المال الذي ينتهي به الأمر إلي شراء المزيد من الفيلات في أوربا وغيرها؟ أم هو الدعم العسكرى الذى سوف يؤدى حتما إلي هزيمة فادحة للعرب؟