إنهم يرقصون ليلة عيد الموسيقى. هذا العنوان مستوحى من فيلم شهير عرض في السبعينات »انهم يرقصون ليلة رأس السنة« صفقنا له كثيراً آنذاك وهو يعرض في درامية رائعة بعض صور »توحش الرأسمالية« في البعد الاجتماعي وهي الرأسمالية نفسها التي نقرأ اليوم فيما نقرأ انها تفتح قصورها وشوارعها ليلة احتفال عيد الموسيقى للجمهور، ليعبر عن بهجة اخرى في عالم آخر يفهم ويعلم ان للموسيقى وجهاً وجدانياً آخر يشع داخل الروح ويتألق بالوجدان الانساني إلى ذرى الشفافية والابداع.
قصر الاليزيه في فرنسا قرأنا انه وبقرار من الرئيس »المختلف« نيكولا ساركوزي فتح ابوابه امام الجمهور للمرة الاولى بمناسبة يوم الموسيقى او عيد الموسيقى. وصدر بذلك بيان ان اوركسترا الحرس الجمهوري ومن ثم جوقة الجيش تفتتحان الحفل في ساحة الشرف في الايليزيه مع عزف موسيقى ومؤلفات شوبان وتشايكوفسكي وموزارت واختتمت الحفل فرقة برازيلية بمعزوفات وقطع موسيقية اخرى منتقاة من المؤلفات العالمية.
ليست لحظة عادية وليس خبراً عادياً ولكنه وعي حضاري تجاوز لحظته »الرسمية« ليعيد للفن للموسيقى اعتبارها وليكشف لنا هنا كم هي »الموسيقى« تعيد صياغة الانسان ذوقاً واحساساً وجمالاً ورقياً عندما تلامس مسام روحه فتنقيها من شوائب لحظة حياتية عاصفة لترتفع بها إلى فضاءات التذوق والتألق والانتقال إلى عوالم الابداع والبهجة التي تصحرت وجفت ارواحنا بدونها بعد ان خاصمنا الابداع وطاردنا الموسيقى ولاحقناها في كل زاوية ومكان لنخنق صوتها فنخنق روح الابداع فينا. تلك التي يبثها داخلنا لحن موسيقي شفاف يلامس شغاف القلب والروح. ولو لم تكن الموسيقى كذلك لما غردت البلابل في سيمفونية صباحها ومسائها، ولما تمايلت الاغصان في معزوفة ابدية هي روح الموسيقى في الطبيعة وفي الطيور، فما بالنا بالانسان الذي يحتاج شيئاً من البهجة، وشيئاً من الفرح، وشيئاً من المرح، صادرناه وطاردناه ولاحقناه، حتى تصحرت من حولنا كل الاشياء، وجفت حناجر بلابلنا عن مجرد تغريدة صباحية او مسائية.. اسألكم متى سمعتهم آخر تغريدة بلبل، حتى بلابلنا وعصافيرنا كفَّت عن التغريد، وغادرتنا لتحل الغربان مكانها في اطلالة ذات بعد يكشف عن تصحرنا نحن الذين حاربنا تغريد البلبل وفجعنا بالغربان، تقف عند كل صباح على نوافذنا وفوق اغصان اشجارنا.. لا تسألوا اين البلابل والعصافير بل اسألوا اين الموسيقى واين اللحن واين الشجن..؟؟!!
قصر الاليزيه واحد من قصور اوروبية عديدة وساحة، الاليزيه واحدة من ساحات اوروبية عديدة فتحت ابوابها وهيأت مكانها ليلة عيد الموسيقى للموسيقى، تعيد فيهم تخليق الوجدان وتنشر حولهم البهجة في رقصة ايقاع واحد..
تذكرت كل ذلك وانا استعيد كيف نجحنا في السنوات الاخيرة وفي زمن قياسي قصير في اجتثات آخر اشكال البهجة والفرح بمصادرات وملاحقات ممنهجة لا تترك ثغرة »يخترقها« صوت يغني او حفلة موسيقى تقام.
هل تتذكرون حفلة غنائية او موسيقية اقيمت في منطقتنا في الفترة الاخيرة دون ان تعترضها التنديدات والتهديدات، ودون ان تتحرك جماعات منع الفرح وقمع البهجة لوقفها حتى لا يفرح الناس ولا يبتهجوا؟؟
انتهت روسيا القيصرية بما لها من سطوة وانهارت روسيا الشيوعية بما لها من قوة، وتساقطت تماثيل القياصرة الروس وزعماء البلاشفة. وحده تمثال الموسيقار تشايكوفسكي ظل شاهداً وظل علامة على ان كل شيء إلى زوال ما عداه الفن الذي يبقى اضاءة في التاريخ ودليلاً في جغرافية المكان. وليست المفارقة في جغرافية المكان ففي العصر المعولم سقطت المسافات ولكنها المفارقة والفارق في جغرافية الوعي وتحولاته ان يمضي إلى الامام دائماً مستشرفاً انوار العقل وانوار الروح وبين ان يمضي الوعي إلى الوراء مستدلاً بعلامات انغلاق الوعي وانغلاق الروح. لذا هم هناك في جغرافية وعيهم يخلقون البهجة ويصنعونها ونحن هنا في جغرافية وعينا نذبح البهجة.. وهذا هو الفارق الذي لم ندركه، احتضنوا الموسيقى فابتهجوا وطاردناها فاكتأبنا..!!
sadaalesbua@alayam.com
* كاتب واعلامي بحريني