عيُدنا يحتفي العالم به يوماً،
ثم ينساه.
كأنه جاء كي نبكي عليه!
نتحدث كثيراً في الثامن من مارس عن أوضاع المرأة المتدنية والتمييز ضدها.
نتحدث كثيراً.
نرفع أصابعنا، ثم أيدينا، ثم حناجرنا وأصواتنا معها، منبهين، محذرين، قلقين.
مسكينة امرأتنا.
عليها العوض امرأتنا.
تعاني كثيراً امرأتنا.
يا عيني على امرأتنا.
نتحدث كثيراً يوم الثامن من مارس.
نرغي، ونرغي، ونرغي.
حتى تبح أصواتنا.. أمام المكيروفونات.
ونسمعها وهي تبح طوال اليوم،
ثم نسمعها وهي تخفت،
ثم وهي تغيب،
وعندما يحل الظلام على ليل الثامن من مارس، نسمعها وهي تكف عن الكلام.
واجبٌ وأديناه.
امرأتنا المسكينة… دافعنا عنها… وبحماس.
ثم… و بنفس الحماس … ننساها.
ننساها أثني عشر شهراً إلا يوماً.
تلك المسكينة،
يكفيها يوماً نذكرها فيه.
ربما لذلك دأبتُ دوماً على تجاهل ذلك اليوم.
أهنيء أصدقائي وصديقاتي به.
أتلقى الزهور من زوجي فيه.
لكني لا أتحدث عنه في حينه، لا بالخير ولا بالشر.
وأعرف أن تسمية ذلك اليوم حدث هام.
وأعرف أن تغيير واقع امرأتنا هو المفتاح لتغيير واقعنا المتخلف.
لكن أعرف أيضاً أن امرأتنا لم تكن مسكينة يوماً.
امرأتنا كانت دوماً قوية.
رغم المصاب.
فما رأيكم لو تذكرنا القوة فيها؟
أمسية الثامن من مارس هذا الشهر قضيتها مع المفكر نصر حامد أبو زيد وشريكة حياته ورفيقة دربه الدكتورة ابتهال يونس، أستاذة الحضارة الفرنسية بكلية الآداب، جامعة القاهرة.
كان الدكتور أبو زيد مدعواً من قبل جامعة زيورخ للمشاركة في ندوة بحثية، وانتهز منتدانا، “منتدى من أجل إسلام تقدمي”، الفرصة كي يدعوه لإلقاء محاضرة عن المرأة والإسلام في جامعة بازل. وقد وافق كدأبه متواضعاً.
انتبهت لتلك المصادفة.
الثامن من مارس، اليوم العالمي للمرأة، وأمسية عشاء مع ابتهال يونس.
كأنهما كانا على ميعاد.
هل تذكرون موقفها؟
هل تذكرون قوتها؟
لعلكم نسيتم، فلا ضير من التذكير.
ابتهال يونس هي المرأة التي رفضت قرار محكمة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية في 14 يونيو 1995 بالتفريق بينها وبين زوجها.
كان قراراً كهنوتياً.
لا يمكن وصفه بغير ذلك.
أصاب مصر بالصدمة.
هدفه كان خرسَ صوت الفكر العقلاني الحر.
ولسان ذلك الصوت كان الدكتور نصر حامد أبو زيد.
وقطعه كان يستلزم جعله عبرة لمن يتعظ.
لذا وصفوه بالمرتد،
وهو مفكر العصر العربي الحديث.
ثم قالوا إنه كافر،
فكأننا عدنا إلى القرون الوسطى.
ثم صمموا على التفريق بينه وبين زوجته.
لولا أنها رفضت!
“قولوا ما تريدون. هذا زوجي “.
“أحكموا كما يحلو لكم. فنحن زوجان”.
امرأتنا تقف وتتحدى الكهنوت.
قلت لها في أمسيتنا “امرأة غيرك كانت ستخاف وتخضع”.
ردت بغضب “”من الذي يقول ذلك؟ أية امرأة مصرية ستفعل ما فعلته”.
قالت ذلك بحدة.
ولم يكن تواضعاً.
بل عَنتْ كل كلمة من عبارتها.
وجدتها فيما بعد تترنم بزجل بيرم التونسي عن بنت البلد:
“أحب بنت البلد من حسن عشرتها،
إن اشتكيت الفَلس ترهنلي حلتها،
والا حنانها عليه ولا غيرتها،
أنا إذا خاصمت العدو تفرش ملايتها،
ولو تكلمني مرة جارتها، آه يا هبشتها، آه يا عضتها .. ”
رَددت أستاذتنا تلك الكلمات بصلابة، ودمعٌ يرفض أن ينحدر يلمعُ في عينيها.
فأخذتني على حين غره.
امرأتنا القوية،
والحنون،
بنت البلد الجدعة،
يعرفها رجلها،
ويدرك معدنها في الشدائد،
ويخاف من غيرتها،
ومن أظافرها.
تلك المرأة نعرفها في مصر، ونعرفها في المغرب العربي،
تماماً كما نعرفها في شبه الجزيرة العربية.
هل نسيتم موقف فاطمة السعودية التي آثرت أن تسجن، ومعها طفلاها، على أن تنفذ حكما ظالماً بتطليقها من زوجها؟
طلقها قضاة، لا نعرف بأي شرع يحكمون، بدعوى عدم الكفاءة.
وهي ببساطة رفضت.
“أسجنوني، لكني لن أتركه”.
“ليس رغماً عني”.
امرأتنا تقف وتتحدى شرع القبيلة.
كما لم أنس زوجة أخ عزيز، سُجن قبل سنين طوال لأسباب سياسية في تونس،
ووجدت زوجته الشابة نفسها وحدها مع طفليها،
وحدها بعد أن أنفض الأهل والأصدقاء عنها،
خافوا كلهم من بطش الدولة.
ما أضعف الإنسان حيناً.
فكانت تحمل طفليها على ظهرها،
تحملهما وهي تجري،
تبحث عمن يدافع عن زوجها،
وتبحث في الوقت ذاته عن لقمة عيش طفليها.
لم تهجره،
ولم تطلب الطلاق،
بل وقفت بجانبه.
وإلى اليوم تقف بجانبه بعد أن خرج.
“لا تخش شيئاً، فأنا معك”.
“محنة وسنجتازها”.
امرأتنا تقف وتتحدى بطش الدولة.
القوة في امرأتنا.
تُعطي، عندما تختار.
وتحب، مادامت حرة.
تلك القوة عبرت عنها الدكتورة ابتهال يونس بلباقة مذهلة عندما قالت “عندما أقرر أن أتطلق، سأفعل ذلك بإرادتي”. قالتها وابتسامتها ساخرة.
امرأتنا القوية.
لا تنسوها في الثامن من مارس.
واذكروها،
كل يوم بعده.
elham.thomas@hispeed.ch