تتكون عناصر ثقافة أى مجتمع من موروثات تاريخ وعادات وتقاليد ودين ولغة، إضافة لعناصر أكثر عرضة للتطور والتغير مثل القوانين والفنون والأنظمة الإجتماعية والأشكال الإقتصادية والأساليب السياسية ونظام الحكم، ناهيك عن مجموع المعارف والعلوم الحامل الحقيقي لكل عناصر الثقافة الأخرى.
وعندما تتوازن عناصر الثقافة ويأخذ منها كل عنصر فيها حقه في الوجود والفعل، ويأخذ ذات الفرص التي تأخذها بقية عناصر الثقافة في رسم نهج المجتمع الشامل، فإن المجتمع يعيش حالة من السلام والإزدهار بتوازن عناصر ثقافته وتناغمها معاً، كمال المجتمعات يشبه كمال الأجسام بتناسق النسب في الجسم بما يعطيه القوة والتناسب وتآزر أعضائه، وهو الشأن الذي عرفته الحضارات القديمة، فإعطت لكل عنصر ثقافي حقه في الممارسة والوجود بهارموني وتناسق ترك أثره في كل لوح وحجر وتمثال ومعبد وسلوك.هو ما فعله الإغريق والروم ومصر والرافدين والصين والهند، كانت مسابقات في كمال المجتمعات.أما عدم توازن الثقافة فيحدث عندما يسيطر عنصر من عناصرها على بقية العناصر ويقوم بإزاحتها عن الفعل، فيصبح في جسد المجتمع كالورم السرطاني الضاغط على بقية وظائف الجسد، وقد يكون هذا الضاغظ تقاليد مقدسة أو دين أو أيديولوجيا أو معرفة أو حتى علماً.وهو الأمر الذي ثبت بالتجربة في أوروبا وأمريكا عندما سيطرت ذهنية التكنولوجيا والعلم وحده، وتقدمت على بقية عناصر الثقافة، لتبرز الأزمة حوالي سنة 1900، لتعلن فشل المجتمع الأوروبي في كبوة قيمية ونكسة خلقية تتمثل في قصة (اليوجينيا)، التي تحكي لنا عن الكارثة التي تصيب المجتمع عندما يسبق عنصر من عناصر الثقافة فيه علي بقية العناصر، ويسود ويسيطر وينحي غيره، وما حدث في المجتمع الغربي هو تسارع الكشوف والاختراعات والتطور العظيم في التكنولوجيا، ولم يكن الذنب في الحقيقة ذنب العلم، بقدر ما هو كامن في طبيعة البنية الثقافية الفوقية من نظم مجتمعية وعادات وتقاليد وسلوك ودين، لأنها تسير في تطورها بتؤده شديدة، وتقاوم التغيير الذي حدث في البنية التحتية للمجتمع، حرصاً عليه في ثباته الذي أنجز في الأزمنة السابقة مجتمعهم الحالي المتقدم، مجموعة قيم المجتمع الأخلاقية التي تتمثل في نظم اجتماعية لا تقبل التغير بيسر وسهولة، بينما طبيعة منهج العلم وأصله وسره وبراعته تكمن في سرعة تغيره وقبوله للجديد الأكثر تطوراً في تراكم كمي ونوعي هائل، وقد فاق هذا التطور نفسه وتجاوز ذاته خلال الأعوام من 1900 إلى السنة الأخيرة في تاريخ العالم، فمن المتوقع عام 2010 وحده أن تنجز الإنسانية ما يعادل أو يزيد عما أنجزت الإنسانية منذ وجود الإنسان على الأرض.من هنا حدثت الفجوة عام 1900 م بين تقدم تكنولوجي فرض على المجتمع شروطه الاقتصادية السوقية، بينما لم ترق الأخلاق والقيم وتتطور بذات الدرجة لتلائم العلم الصاعد، الذي كان بحاجة ماسة وضرورية لتطور مماثل في البنية القيمية للمجتمع وكذلك بقية عناصر الثقافة كالفن والدين، وكان تأخر الجانب القيمي في الثقافة عن الجانب العلمي العملي المتفوق، هو السبب في التمزق الذي تمثله حكاية اليوجينيا، فقد بات العلم ومنجزاته بحاجة إلى رقي أخلاقي لإحداث التوازن المجتمعي، لأن التكنولوجيا أعطت للإنسان تسهيلات ما كان يحلم بها، يمكن استخدامها في نفع ورفاه البشرية، ويمكن أيضاً استخدامها للقتل والسرقة وللحروب والدمار، فهي تبدع مع تقدمها ما يمكن أن يؤدي لجرائم عظيمة الخطر، وكان الحل أحد اثنين، إما أن يتراجع العلم وذلك كان هو المستحيل، او أن تتقدم عناصر الثقافة الأخرى وترتقي لتحقق توازن المجتمع، وهو ما اختاره المجتمع الغربي بعد تجربة (اليوجينيا).
ولنعرف ما هي (اليوجينيا)، نعود إلى العلم وما وصل إليه حينذاك، كان القس مندل (1865 – 1900) قد بحث كيفية انتقال الخصائص المختلفة للنبات من جيل إلى جيل آخر، وأجرى تجاربه على البازلاء مُركزاً على صفات يريد تثبيتها في الأجيال التالية، وصفات أخرى يريد أن ينحيها من التأثير في الأجيال التالية وذلك بغرض تحسين الإنتاج، وهو ما يلزمه التخلص من استمرار تكاثر النباتات ذات الصفات غير المرغوبة، وكانت اليوجينيا هي تطبيق هذه الفكرة على البشر لإنتاج بني آدم ابن ناس، أو ابن أصول، وهو معنى كلمة يوجينيا الإغريقية فهي تعني نبيل المحتد أو طيب الأرومة، مع استبعاد المعيبين جسدياً أو عقلياً من التكاثر.
أول من وضع فكرة اليوجينيا محل العمل هو العالم فرانسيس جالتون، وهو ابن خالة العالم الجليل رفيع القدرتشارلز داروين، فاقترح أواخر القرن الـ 19 أنه من الجائز تحسين السلالة البشرية بنفس الطريقة التي استخدمها مندل مع النبات ويستخدمها مربو الحمام و الكلاب في إنتاج سلالات أرقى و أجمل و أقوى.
كان جالتون يريد تحسين سلالة المجتمع الغربي باليوجينيا، بالتخلص من أصحاب الصفات الغير مرغوبة في المجتمع، بالعمل على عدم تكرارها في الأجيال التالية، مع العمل على تكاثر الصفات المرغوبة في الأجيال التالية التي ستخرج كاملة النقاء.و مع بداية القرن العشرين كانت اليوجينيا علماً له مختبراته وأساتذته الكبار قي أمريكا وفي بريطانيا وألمانيا ومعظم دول أوروبا، وساند هذا العلم الجديد علماء بارزون بل وعلمانيون كبار تحمسوا لتحسين البشرية باليوجينيا، وتحدثوا عن المستقبل الذي سيعيش فيه الإنسان الكامل أو السوبر مان.وتحدث آخرون عن ضرورة اليوجينيا للمجتمع الأوروبي والأمريكي الصناعي لوقف التدهور الإجتماعي الذي تمثل في إنحلال سلوكي وتفشي جرائم السرقة والقتل والغش، وانتشار الرذائل خاصة في الأحياء الفقيرة حيث تستفحل أيضاً الأمراض الجسدية والنفسية والأخلاقية.وقد رأوا أن أسباب الإنحلال الخلقي هي صفات وراثية في دماء الإنسان، وهي سبب وجود المجرمين والفقراء والمرضى، (اكتشف العلم بعد ذلك خطأ هذا الفهم فلا علاقة مباشرة للدم بحد ذاته بالمسألة الوراثية التي اكتُشف أنها شديدة التعقيد وهائلة التفاصيل).كان الحل عند اليوجينيا هو الاستئصال، لكن من الذي يجب استئصاله ؟ هنا لن يكون الدور للعلم إنما سيكون دور الاختيار ودور التنفيذ لما تريده ثقافة المجتمع، أو بالأحرى ثقافة الطبقة القادرة في هذا المجتمع، وهذه الثقافة وليس العلم هو من سيمايز وبفاضل ويختار، من الذي يبقى ومن الذي يفنى ؟ أما الأهم فهو أن علم اليوجينيا خرج من التاريخ كأسرع علم يأتي ويخرج من عالمنا، لكن بعد أن أسس لدراسة الإنسان وراثياً، ليصل إلى ما وصل إليه اليوم، بعد أن أسس اليوجينيون البرنامج والمعامل والأدوات التي كان هدفهم منها تحديد الصفات الوراثية التي تزيد العبء على المجتمع للتخلص منها في الأجيال التالية، وأن هذه الصفات تحدد الطبيعة المزاجية والسلوكية التي قد تكون سبباً في إدمان الكحول أو المخدرات أو البغاء أو الجرائم او الفقر في المجتمع، حيث نُسب الفقر للعجز العقلي للفقير.
واعتبر اليوجينيون أن ضعف العقل هو أصل كل الشرور والسلوك الاجتماعي المنحط، فصمموا اختبارات ذكاء لاكتشافه تقف وراءها معاهد ومراكز ومعامل، مثل معهد جالتون لليوجينيا القومية بجامعة لندن، ومعهد القيصر فلهلم لبحوث الطب العقلي بألمانيا، وكان لليوجينيا كراسي أساتذية في ميونخ وبرلين، وقامت هذه المعاهد بوضع المعايير للمواطن النموذج وللقيم المرغوبة الذي يجب دعمه وإتاحة الفرص أمامه، والمعايير للمواطن ضعيف العقل أو الجسد الذي يجب العمل على إيقاف نسله حتى تتنحى الصفات الوراثية السلبية من بعد.
هذه المعايير أرجعت فقر الجماعات ذات الدخول المتدنية إلى قصور في قدراتهم العقلية والأخلاقية، وأن هذا القصور مُتجذر في بيولوجيتهم، وغاب البحث عن أى أسباب أخرى واحتمالات مختلفة، كعدم حصول هؤلاء على ما يكفى من فرص تعليم أو فرص اقتصادية متكافئة، واختيار القصور العقلي كسبب للمشاكل الاجتماعية.هو إعفاء للمجتمع من مسئوليته عن انحطاط بعض جماعاته وفقرهم، وتحميل السبب للبيولوجيا والوراثة حتى يمكن تبرير استئصالهم من المجتمع.
وبعدها وصل الأمر إلى تصنيف شعوب بكاملها، فالشعب الإيطالي يميل بطبعه السلالي إلى الشر والعنف الجسدي، والشعب اليهودي هو في منطقة وسط بين الخبث الشرير للصرب ووساخة اليونانيين، اما البوهيين فهي فهم لصوص بالميلاد.واليونان والقبارصة هم (دوجز أوف يورب) كلاب أوروبا، مجرد كلاب، أما العرب في تصنيف هتلر فهم نوع من الذباب اللزج.
ونتيجة الاندفاع والتحمس للعلم المتفوق لم تعتمد معاهد اليوجينيا أسلوب العلاج، إنما قررت التخلص من العناصر المعيبة، ولم تتعامل مع المعيبين كمواطنين من ذات الدرجة والأهلية، ولم ترهم يستحقون الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية والاقتصادية، ففضلت الإبادة، وقامت الحركة اليوجينية بتعقيم آلاف الناس المعاقين والعميان و الصُم والمشوهين بالإخصاء، و هو ما مهد وبرر بعد ذلك لمعسكرات الموت الجماعي والهولوكست كما فعل النازي، فأبيد الألوف من المعوقيين واليهود حرقاً للاستفادة بهم كوقود للماكينة الصناعية العسكرية الألمانية .
تلاحظ أن الخصائص التي ركز عليها علم اليوجينا هي من الأمور التي يصعب قياسها أو تسجيلها بأمانة بعيداً عن الهوى والغرض، مثل قوة الشخصية والخلق الرفيع وخفة الظل وحضور البديهة وحرص الفرد على احترام الذات والإخلاص في العمل كصفات مطلوبة، لذلك كان يسيراً أن يتم اتهام هذا العلم حتى في زمنه بالتحيز الطبقي والطائفي والعنصري، وكانت تلك الانتقادات الصحافية في حينها هي البداية أيضاً لاكتشاف عدم تناسب الارتقاء القيمي الخلقي مع الارتقاء والتفوق العلمي، فكل ما أمكن لليوجينا عمله هو تعقيم الضعاف والمجرمين والمنحرفين والمرضى والمعوقين، والإلقاء بملامة الفقر على الفقير وليس على المجتمع، ألقت المسئولية على الضحية، أما السبب الأهم فهو أن الإبادة أقل تكلفة من إعادة التاهيل، ومع تعامل اقتصاد السوق مع الإنسان تعامله مع السلعة، يكون التعقيم أو الهولوكست هو الأرخص، تعاملوا مع الإنسان تعاملهم مع الحيوانات، فالبقرة المعيبة لو عالجناها سنصرف أكثر بينما ذبحها وبيعها هو الأكثر مردوداً، الناس مجرد مشروع اقتصادي، وهذا ليس زمناً بعيداً، إنه القرن الماضي فقط.أما القرون الأسبق فقد شهدت أكبر جريمة تاريخية بإبادة سكان أمريكا الأصليين بفتاوي باباوية ومجامع مقدسة اجتمعت وقررت بعد بحث أن الهنود الحمر ليسوا من نسل آدم، ولم يكونوا من ضمن ركاب السفينة الناجية في طوفان نوح، إنما هم بقية لحيوانات غير معروفة أو ربما كانوا نسلاً للشيطان، لذلك سهلت إبادتهم باعتبارهم حيوانات كاسرة وشيطانية وليسوا بشراً، لأن أبناء آدم كانوا معروفين في العالم المعروف قبل الكشوف الجغرافية (هابيل وقابيل)، كذلك نسل (نوح) سام وحام ويافث وما خرج عن ذلك فهو نسل حيوان أو شيطان، ولأن آدم أو نوح لم يهبط في أمريكا أو أستراليا و لم تتحدث الكتب المقدسة عن هذه القارات و ما فيها، فإن قتلهم يكون مؤازرة للإله و للخير ضد الشر، كانت حرباً ضد الشيطان !! و قبلها بقرون أُخرى انشغلت المجامع المقدسة بمحاولة التأكد إن كانت المرأة إنساناً كالرجل الذي خلقه الله على شبهه و مثاله، أما المرأة فليست شبهه و لا مثاله.. فماذا تكون ؟ حتى اعتبرها آباء كبار بالكنيسة فى مرتبة الدواب المسخرة لآدم؟
*
ثم كانت الثورة البلشفية الروسية و الاتجاه نحو اقتصاد الدولة الموجه، و ما حققته من نجاحات، رداً عملياً و جرس انذار عظيم لكل دول أوروبا لتوجيه النظر نحو فكرة العدالة الاجتماعية باعتبار المجتمع مسئولاً عن جميع أفراده، و أن ما يصيب الأفراد هو نتيجة تقصير المجتمع.و أن ما يصيب الفقراء هو نتيجة تقصير المجتمع.بعد أن تمكن الفقراء الذين هم في اليوجينا أصل الشرور من الثورة و إقامة دول عظمى مثل الصين و الاتحاد السوفيتي، مما كان سبباً مباشراً و هاماً في تراجع علم اليوجينيا ثم سقوطه تاركاً معامله لعلم الوراثة.و نهض فلاسفة الأخلاق بدورهم لشرح و بيان مدى العيب الذي لحق بالثقافة الأوروبية عندما تفوق عنصرها العلمي و تخلفت بقية عناصرها مما أدى لخلل خلقي عظيم تمثل في علم اليوجينيا.
لهذا حارب العالم كله هتلر و بديهيته في رقي العنصر الجرماني بعد أن ارتد السحر على الساحر و أصبح كل الأوروبيين و بقية العالم في تصنيف أدنى عند يوجينا هتلر، و هو ما انتهى بإقرار المجتمع الغربي بذنوبه و إدانته لليوجينا و الهولوكوست، و عوض الضحايا باعتذارات تاريخية، مع تعويضات مادية لمن بقى منهم ترتقي بهم و تاخذ بيدهم للتفوق، بل و قام يعطي كل الأقليات حقوقاً تفوق حقوق الأغلبية.
الثقافة المعيبة التي يتضخم عنصر منها على بقية العناصر تؤدي إلى كوارث أخلاقية و إلى حروب أممية، و هو ما حدث أوائل القرن العشرين، لذلك فإن عالم اليوم يطارد مثل هذه الثقافات المختلة، و لأن الثقافة كائن حي و لأن كل حي يقاوم الفناء و يرفض أن يموت و يعيد تشكيل نفسه ليتلاءم مع الظرف الحياتي الجديد ليستمر حياً، فإن الثقافة رغبة منها في الإفلات من الهلاك تضطر إلى التخفيف من بعض أثقالها وأوزارها الشديدة الوضوح بعيوبها، فتسمح ببعض الانتهاك لمحرماتها، فتضحي بالجزء في سبيل الكل وتضحي بالأطراف في سبيل القلب، وهو ما تمارسه اليوم ثقافتنا المعيبة التي تخلفت كل مكوناتها بينما تقدم مكون واحد منها فقط هو الدين، ومن هنا يتنازل الدين عن تطبيق عقوباته البدنية كحد القطع والرجم والجلد وعن الدعارة الاغتصابية المسماة ملك اليمين وعن الاستعباد و فقه العبودية، وسلوك الدين هنا هو سلوك تلجأ إليه كائنات حية أشهرها زاحف (البُرص) الذي يقطع ذيله و يتركه يلعب ليشغل مطارده و ينجو هارباً بحياته، وهو سلوك كل الثقافات بلا استثناء.
بعد هزيمة 1967 و تدفق نهر البترودولار، بدأ عنصر الدين يأخذ مكانه الطبقي بين ثقافات المصريين، وأصبح له دور يساوي دور بقية عناصر الثقافة من فن و إبداع و قيم…إلخ، بينما قبل ذلك منذ الحملة الفرنسية و محمد على و حتى هزيمة 1967، إلتزم كل عنصر مكانه و دوره لا يتجاوزه، لكن الدين كان العنصر الأكثر طموحاً بين بقية العناصر، لذلك كان قبوله بالتساوي مع بقية عناصر الثقافة تقية مؤقتة و فترة كمون و بيات كبيات الحيوانات البرية الشتوى حتى لا تنقرض وسط هذا الزخم العظيم لعناصر الثقافة الأخرى، و حتى تتحسن البيئة فيعود من بياته.و قد تحسنت هذه البيئة باستيلاء العسكري على حكم الأوطان و انتهى بهزيمة 1967 المروعة و سجود الشعراوي لله شكراًعلي هذه النعمة، و بعدها جاءت الغزوة الوهابية و صحوتها الإسلامية ليتورم عنصر الدين على بقية عناصر الثقافة (أتحدث هنا عن الحالة المصرية التي أعرفها)، و تورم الإسلام السني الحنبلي بلباسه الوهابي الجديد على حساب ألوان إسلام أخرى، كذلك تورمت المسيحية الأرثوذكية كرد فعل اجتماعي موازي لما حدث بين المسلمين، وهو ما أدى إلى زيادة الضغط على بقية عناصر الثقافة المصرية لتتراجع بل و تتلاشى، و انتكس المجتمع من تقديس الفرد المواطن و حقوقه و سعادته إلى تقديس الطائفة الدينية أو الأمة ذات الدين المشترك، بغض النظر عن حال أفرادها و مواطنيها، و تقديس المكان بدلاً عن الإنسان، تقديس المساجد و الكنائس و الأحجار و الكعبة و الأقصى و الصخرة حيث المعجزات و المبهرات، و هي شئون لا علاقة لها بما يصون أخلاق المجتمع أو النظام القانوني أو القيم الأخلاقية، فهي تتعامل مع الغيب و هو غير عالمنا.و لذلك وضع رجال الدين كل الخطوط الحمراء حول تفاصيله أو حتى عمومايته، و لا تجد عندهم خارج ذلك أى خطوط حمراء كالمتعلقة بحقوق الإنسان و المرأة و الطفل و سائر شئون مجتمع القرن الحادي و العشرين، و هنا بدأت الفجوة تظهر، اختفت كل التماثيل الفنية الراقية من الشوارع تكفيراً للفن و حلّ بدلاً منها كلمة (الله) في شكل (قُلّة) أو (زير) كبير في الميادين، التي أصبح اسمها جميعاً (ميدان لفظ الجلالة)، و رغم كل مظاهر التقوى المنتشرة حجاباً و نقاباً و لحيّ و ميكروفانات تقصف الأذان و شعارات إسلامية تملأ الشوارع أينما وليت وجهك، فإن المجتمع في انهيار قيمي حاد، بعد أن فشلت ثقافته في حمايته حتى تفككت وحدته الأولية (الأسرة)، و امتلأت شوارعنا أطفال بالملايين بلا أسر، و بالجماعات السرية، و العشوائيات و المهمشين، و هو كله علامات مرض عضال بالثقافة التي لم تعد قادرة على القيام بوظائفها في حماية مجتمعها، لأننا نعيش ثقافة زمن القرن السابع الميلاد في زمن القرن الحادي و العشرين، و هو فارق لا يبعد كثير عن إنسان الكهوف بمقاييس الحضارة، ناهيك عن كون هذه الثقافة في معظمها ليست حضارية المنشأ و التكوين، لأنها صادرة من بيئة البداوة العربية و هي أقرب البيئات في زمنها السحيق إلى البدائية قياساً عما جاورها من حضارات ذلك الزمان، فإذا كان الذين يعيشون في 1900 سبقهم التطور العلمي فتخلفوا أخلاقياً عن زمنهم نتيجة عدم التسارع القيمي مع التسارع العلمي، فما بالك بمن يعيشون تطور العلم في القرن الواحد و العشرين بثقافة القرن السابع، بل و بثقافة موغلة في البدائية لطبيعتها الصحراوية الوحشية قياساً على بقية ثقافات القرن السابع.فيكون طبيعياً أن نأخذ السفن و العبّارات و القطارات من الحضارة المعاصرة لكن دون العقل الذي أنتجها و قيمه الأخلاقية التي تتابع شروط السلامة، فتغرق العبارات بالناس، و تحترق القطارات و تشوى البشر بداخلها و تنهار معظم المشروعات انهياراً كارثياً، و يستورد صاحب المصنع العمالة الماهرة من خارج البلاد رغم كارثة البطالة لمتعلمين و خريجي جامعات مواطنين على مختلف الصنوف لا يعرف أحدهم شكل المفتاح الذي يدير به الجهاز الذي تعلم عليه، أو يفترض أنه كذلك.
لقد اعتقد مفكرو القرن التاسع عشر أن الأعراف والعقائد و العادات تتسرب في النسيج العصبي للإنسان لتصبح بعد عدة أجيال استعدادات فطرية. ولعدم التمييز بين السلالة والعرق، و بين الثقافة، فقد نظروا إلى التطور الاجتماعي باعتباره عرقياً وراثياً، و هي فكرة موغلة في القدم لا تناسب ما حدث من تطور علمي تقنى عظيم، و كذلك كان حال جميع الشعوب و الأمم و ضمنها الشعوب الشعوب المسلمة التي تعتقد بقداسة لأشخاص في التاريخ الديني، و أن هذه القداسة متوارثة تميز قبيلة عن قبائل، و بيت عن بقية بيوت القبيلة و فرد عن مجموع أفراد المجتمع، لهذا كان علم العرب الوحيد حتى ظهور الإسلام هو علم الأنساب و ظل أهم علومهم بعد الإسلام.أن الظن بتوريث القداسة أدى لصراعات هائلة ما بين الأمويين و الهاشميين و العباسيين و عموم الطالبيين، و كلهم كان يعتبر نفسه مقدساً و أرفع من لمامة الناس فلا يخالطهم بصهر أو زواج خاصة أبناء البلاد المفتوحة حفاظاً على نقاء السلالات، التي أكدتها لهم الآية ” كنتم خير أمة أخرجت للناس “.و هذه الأمة تبدأ بقدسية النبي محمد (ص) و آل بيته و عشيرته و قبيلته، و الخيرية تتضمن صفات النبالة الحميدة التي تميزهم عن بقية العوام شكلاً و موضوعاً، و المسلم بشكل عام و مطلق يعتبر نفسه إنساناً مقدساً قياساً على بقية الإنسانية و يتعالى عليها و يولى نفسه قيماً عليها يريد فتحها و إدخالها في نور الإسلام لأنه فرد مقدس من تلك الأمة المقدسة، التي قال عنها النبي (ص) “الخير في أمتى إلى يوم الدين” و عليه عبء هداية العالمين و هو ما يحق للآلهة لا البشر، و لا يقدر عليه إلا الآلهة و ليس البشر.
نفس العقائد والمفاهيم كانت لدى بني إسرائيل و احتسابهم أنهم أطهر شعوب الأرض و أقربها إلى الله باختيار منه و قصد، لذلك هم الشعب المختار.لكن هذا الشعب المختار قرر أن يتخلى عن معظم ثقافنه القديمة بعد أن جعلته منبوذاً بين الشعوب حتى تم تصنيفه وسطاً بين قذارة الصرب و اليونانيين، و تمكن من إنشاء دولة قوية غير متخلفة، و هذا الدرس هو الذي يجب أن يعيه كل المتخلفين و المرفوضين من العالم كأمل لهم في إنجاز مثلما أنجز الإسرائيليون من تطور و تقدم و إنجاز مبهر في سنوات قليلة.
حتى اليوم نعيش مع مشايخنا مخيال البدوي الصحراوي في القرن السابع الميلادي، يعلموننا كيف نحشد أكبر قدر ممكن من الحسنات، و كيف نتوقى السيئات، أو نستبدلها بحسنات، يعلموننا كيف نحوز في الجنة على الراحة التامة و الكسل الأبدى في قصور مرمرية و أسرة ذهبية و إشباع غرائزي لا ينقطع، لكنهم لم يعلموا الناس شيئاً واحداً يرفع عنهم معاناة دنياهم.رغم أنه عندما يتمتع المسلم بالأمان و الشبع و النوم الهادئ في مسكن آدمي مناسب، فإنه سينهض نشيطاً متأهباً لأداء فروض ربه و فروض عمله و وطنه، فالجوع كافر و البرد قارص و الاكتئاب مرض مستوطن و وبائي لعناء التفكير في رغيف خبز يوم الغد، وعندما يصبح الدين طقوساً ظاهرية لإعلان الإيمان، و يُعطل الموظف الحكومى أعمال خلق الله لأنه مشغول بالصلاة و تلاوة القرآن، و يترك مُنسق القطارات عمله للصلاة الجامعة، و يموت المئات في كوارث كبرى جامعة، و عندما تهتم حكوماتنا برفاهية مشايخها وراقصاتها و لصوصها و تترك قرى وأحياء بكاملها محرومة من أبسط الخدمات، و تقدم للسواحل الفخيمة والقرى الخمس نجوم خدمات سوبر، فإنها تتعامل معنا بمنطق السوق السلعي، لأن الخدمات التي تقدم للفقراء لا تعطي العائد الاقتصادي (مش هايجيب همه) !! أليست تلك يوجينيا وطنية بقرارات رسمية حكومية ؟ ! تعامل الفقير بحسبانه أقل درجة من الإنسان المتحضر لغياب ذكائه، فهو آفة مجتمعية و عالة على المنجزين.نلقي بالملامة على الفقراء رغم أننا لم نعلمهم و لم نعالجهم و لم نؤمنهم و نلقى بمسئولية ما هم فيه على تكوينهم الخلقي، و الصرف عليهم هو خسائر محققه، لذلك نعملهم هولوكست، نجعلهم يعيشون كالحيوانات في العشوائيات، و على المستوى الديني نتعامل وفق يوجينيا إسلامية فنحدد الغير مرغوب وجودهم في المجتمع كالأقباط و البهائيين و الشيعة و العلمانيين، أوروبا تخلصت في 1900 م من غير المرغوب فيهم بالتعقيم و نحن نتخلص منهم بالفقر و الجهل و الذبح و السلخ و الحرق و التفجير، إن ضربنا لأبراج مانهاتن هو نوع من اليوجينيا يمارس هولوكست إبادة جماعية، لدينا يوجينيا إسلامية تضع مواصفات المواطن الصالح و غير الصالح لتبقي على الأول و تتخلص من الثاني، و أصبحت خير عبادة هي الإبادة.إن الثقافة التي تقدس ذاتها و مكوناتها و معارفها لن تقبل بالتعاطي مع أى ثقافة أخرى، لذلك ستظل كما هي منذ يوم وجدت إلى يوم فنائها.و رقي الثقافة مرهون بالحرية المطلقة للفكر المبدع لمزيد من قيم الحرية و الارتقاء لينتقل من القديم إلى الجديد، كما أن هذا الرقي مرهون بحرية الحركة بين طبقات المجتمع، حيث تفرز الحرية ارتقاء العباقرة لقيادة التطور، لكن الأمر عندنا ليس كذلك، فعندنا طبقية دينية لا يصح فيها حرية الانتقال من الطرف الإسلامي إلى أى طرف آخر، و تصح فيها حرية انتقال أى طرف غير مسلم إلى الطرف الإسلامي في إتجاه واحد فقط غير قابل للعودة.
ولأن النظام الطبقي المجتمعي الإسلامي يشدد على الفروق الطبقية الملتبسة دوماً بالعنصر و بالدين، فالعرب غير العجم (العجم هم أي بشر من أي لون لا يتحدث العربية)، و العربي الهاشمي غير بقية قريش غير بقية العرب المسلم، و العربي المسلم السيد غير العربي المسلم العبد، و الرجل العربي المسلم غير المرأة العربية المسلمة، و جمميعهم غير الموالي، أى المسلمين من الأعاجم، و جميع هؤلاء غير أهل الذمة، و لكل طبقة من هذه الطبقات حقوقاً و واجبات تختلف عن الأخرى، فالحر بالحر و العبد بالعبد والأنثى بالأنثى.و نتيجة إلتباس الطبقة بالعنصر أو بالدين، فإن الطبقات تصبح غير مسامية لا تسمح بالحركة من طبقة إلى أخرى، فالعنصر لا يقبل غيره عنصراً مميزاً، و الدين لا يقبل إلا بإنضوائك و ولائك الكامل له و الخروج من جلدك الأصلي و هويتك.و لأن الحقوق و الواجبات تقوم على شرائع ثابتة فإن الطبقات تظل على جمود و ثبات التشريع الذي يحول بين الأفراد و بين النفاذ من طبقة إلى أخرى إلا إذا غير ذاته بالكلية و تماماً.و يظل رغم ذلك ضمن الطبقات الأدنى فعنصره غير عربي كما أنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام، يكفي فقط أن ينتقل الذمي من مستوى الذميين إلى مستوى الموالي عندما يدخل في الإسلام، و يظل من الموالي مؤبداً.و هي شكل و إن لم يعد قائماً اليوم بهذه التشكيلات العديدة، إلا أن الخاصية الدينية و الطائفية (و العنصرية في الريف بين العرب و الفلاحين) ظلت قائمة، و هى طبقية كفيلة باستمرار المجمع عند مراحله البدائية التي لا تعرف الكفالة المتساوية للمواطنين في وطن مشترك واحد، و لا تسمح بأي حراك طبقي و لا نفاذ عبر الطبقات.
ويترتب على هذا الوضع مشاكل على مستويات عدة تؤدي لمزيد من التخلف، فبصعب على النوابغ من أبنائه النفاذ إلى الطبقة الأعلى ليظهر نبوغه، و هو أيضاً الوضع الذي يحرم كل أصحاب القدرات الإبداعية النافعة من أخذ مواقعهم لرفعة المجتمع بسبب من دينهم أو طائفتهم.بعكس المجمعات المرنة التي يتساوي فيها الجميع أمام قانون واحد من وضعهم، يراعى ظروفهم جميعاً، و الذي يسمح بالمرور الفوري عملاً بقاعدة (دعه يعمل، و دعه يمر)، أما الكارثة المروعة بكل المقاييس هو أن هذا الشكل الطبقي الديني والعنصري لن يسمح بالمرة بظهور طبقة وسطى واضحة المعالم تكون صاحبة المصلحة و يمكنها أن تكون الحامل التاريخي لحركة التطور الثقافي و المجتمعي نحو مجتمع مدني سليم.
المشكلة عندنا أننا نقلب الأوضاع، فبدلاً من أن يكون الدين أحد مكونات الثقافة و الشخصية المجتمعية، فإنه يصبح هو كل ثقافتها، و هو مصدر كل ثقافة أخرى، فتصبح الثقافة ناتج له و فرز منه، و بدلاً من أن يتكيف تطورنا مع التطور الثقافى العالمي، فإننا نقوم بتكييف التطور الثقافي العالمي على مقاسنا بما نسميه العلم و الإيمان.
وعبر التاريخ الإسلامي واجه المسلمون هذه المشكلة عدة مرات، عندما كانت تتقدم الثقافة الدنيوية وعلومها و فنونها وتتطور، كان الدين في هذه الحالة يحاول أن يتكييف مع الظروف الجديدة، بخلق مذاهب جديدة تتواءم مع الجديد، و هو بدوره ما فقدناه فلم يعد يظهر لدينا مذهب جديد منذ ألف سنة، رغم أن السماح بظهور مذاهب جديدة حتى لو كانت متعارضة، فإنه كفيل بإعطاء الدين و الثقافة معاً المرونة و الحيوية و يعيد إليهما الحياة للتواءم و التاغم.و هنا يدهشك إصرار الأطباء المسلمين على الحمل الكامن و حديث الذبابة و بول الناقة في زمن تجاوز هذه البدايات البدائية بأحقاب جيوزمنية، مثله بالضبط ما تفعله الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بإصرارها على ظاهر النص بنصوص مقيدة لطاقات المسيحيين و تسبب لهم كثيراً من المشاكل التي تسنفذ وقتهم و طاقاتهم حفاظاً على سخافات نصية، رغم أن المسيح نفسه قد شدد و نبه على أن الوقوف عند ظاهر النص الناموسي يؤدي بأصحابه للفناء و الخروج من الوجود، مؤكداً أن ” الحرف يقتل “.
اليوجينيا الإسلامية
بحث ممتع ومقنع أنصح كل قراء الشفاف بالاطلاع عليه. فكرة الطبقية في الاسلام مهمة، وفكرة التوازن بين العلم والاخلاق من جهة وبين الدين والثقافة من جهة اخرى ايضا فكرة مهمة. الابادة والعبادة، ثم الدعارة الاغتصابية مصطلحات ذكية. المقالة موفقة.