اليهود العرب ضحايا حركتين قوميتين هما العربية والصهيونية. كلتاهما أنكرت عليهم حق أن يكونوا عرباً ومواطنين في أوطانهم. هذا أوّل ما ينبغي أن يُقال في سياق الكلام عن مؤتمر خاص نظمته الأمم المتحدة لمناقشة موضوع “اللاجئين اليهود من البلدان العربية”. وقد أثار المؤتمر، وما يزال، ردود فعل اتسم بعضها بالحماقة، كما قاطعته الدول العربية ما عدا مصر.
فلنضع الحماقة جانباً (وهي التي أعيت من يداويها) ولنفكر في المقاطعة: ما الذي يمنع العرب من المشاركة وطرح مواقفهم في مؤتمر كهذا؟
على مستوى الحِجاج فإن في مجرد كلام الإسرائيليين عن المهاجرين اليهود من البلدان العربية، في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، باعتبارهم لاجئين أُرغموا على الرحيل من أوطانهم، ما يُقوّض ركناً أساسياً في العمارة الأيديولوجية لمفهومي المنفى والخلاص، حسب الصياغة الصهيونية.
وعلى صعيد التاريخ فإن لهذا الأمر تاريخه، أيضاً، ويمكننا العودة به إلى سبعينيات القرن الماضي، وإلى إنشاء المنظمة العالمية ليهود البلدان العربية، وهي السنوات نفسها التي شهدت صعود منظمة التحرير الفلسطينية، عربياً وإقليمياً ودولياً، وعودة موضوع اللاجئين الفلسطينيين إلى الواجهة، وإدانة الصهيونية في الأمم المتحدة كحركة عنصرية.
في ذلك الوقت طرح يعقوب ميرون، وهو رئيس قسم الشؤون القانونية العربية في وزارة العدل الإسرائيلية، وأحد الفاعلين في المنظمة العالمية المذكورة، فكرة “اللاجئين” اليهود من البلدان العربية، وصاغها في إطار مرافعة تاريخية وسياسية مفادها أن هؤلاء طُردوا من البلدان العربية نتيجة تحريض وتآمر الفلسطينيين (الحاج أمين الحسيني والهيئة العربية العليا) مع القادة العرب.
ما تزال هذه المرافعة، مع تحوير هنا أو هناك، في خلفية كتابات “أكاديمية” غربية تطل علينا من حين إلى آخر، وتزعم تفكيك “لغز” العداء الحديث للسامية في العالمين العربي والإسلامي. وهي، أيضاً، بمثابة الخلفية “النظرية” لمشاهد بصرية في متحف ياد فاشيم في القدس، المُكرّس لذكرى ضحايا النازية. فما أن ينتهي الزائر من مشاهدة فظائع النازية في أوروبا، وصور السفن التي تقل الهاربين من المحرقة، حتى تطل عليه في آخر الرواق صورة كبيرة الحجم للحاج أمين الحسيني. وكأنها تقول: هربوا من النازية هناك ولكنها كانت في انتظارهم هنا.
على أية حال، أراد ميرون وجماعة المنظمة العالمية الرد على “مسألة” اللاجئين الفلسطينيين “بمسألة” اللاجئين اليهود. بيد أن الساسة الإسرائيليين لم يتحمسوا للفكرة، ولا للحملة الساعية إلى تجسديها. فهم لا يريدون فتح ملف اللاجئين الفلسطينيين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أثارت الفكرة غضب شخصيات إسرائيلية بارزة تعود في أصولها إلى يهود البلدان العربية.
رفض هؤلاء أن يُقال إنهم جاءوا إلى إسرائيل رغم إرادتهم، وكانوا لاجئين. ففي قول كهذا ما ينسف جانباً كبيراً من ميثولوجيا العودة الطوعية، والعلاقة التاريخية بين الشعب والأرض. المهم أن الحكومة الإسرائيلية أوقفت تمويل المنظمة المذكورة، وطُرد ميرون في وقت لاحق من وظيفته في وزارة العدل.
وقد عاد موضوع “اللاجئين” اليهود من البلدان العربية في العام 2000، وفي أجواء مفاوضات كامب ديفيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وجاء هذه المرّة من جانب الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي كشف في لقاء مع القناة الثانية الإسرائيلية عن إمكانية التوصل إلى اتفاق للاعتراف باليهود من البلدان العربية كلاجئين.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بموقف الحكومة الحالية في إسرائيل، فإن الظروف الحالية تختلف عن تلك التي أحبطت جهود المنظمة العالمية ليهود البلدان العربية ومرافعات يعقوب ميرون. ومنطق فائض القوّة، والتفاوت في موازين القوى، الذي حكم الانتقال من معادلة الأرض مقابل السلام، إلى معادلة الاقتصاد مقابل السلام، هو المنطق نفسه الذي يحكم إعادة إحياء هذه الموضوع استناداً إلى معادلة جديدة: لاجئ يساوي لاجئ مقابل السلام.
ما سبق جانب من تاريخ الموضوع. بيد أن فائض القوّة لن يحجب حقائق أساسية منها: عدم إمكانية وضع “اللاجئين” اليهود من البلدان العربية على قدم المساواة مع اللاجئين الفلسطينيين بالمعنى التاريخي والسياسي والأخلاقي. هذا لا يعني إنكار حقيقة أن بعض اليهود هاجر بمحض إرادته، والبعض الآخر وجد نفسه مضطراً للهجرة نتيجة الخوف من الاضطهاد، كما كتب يهودا شينهاف قبل سنوات. ولا يعني، أيضاً، إنكار حقهم الفردي في التعويض عن ممتلكات صودرت في البلدان العربية.
وضع اللاجئين الفلسطينيين مختلف تماماً، فقد تعرضوا للتطهير العرقي. هذا الاختلاف نصت عليه قرارات الأمم المتحدة منذ العام 1948، ويُعاد تأكيده سنوياً من جانب الأمم المتحدة، وحقهم الفردي والجمعي يتمثل في العودة والتعويض.
تبقى مسائل وثيقة الصلة بموضوعنا: العربي يمكن أن يكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً. وقد كان اليهود، على مدار قرون طويلة، جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للعالمين العربي والإسلامي. ومأساتهم أن صراع العرب والفلسطينيين مع الكولونيالية الصهيونية تزامن مع الكفاح ضد الكولونيالية الغربية من ناحية، ومع الصراع على هوية الدولة القومية الحديثة في العالم العربي من ناحية ثانية.
وبالنسبة للصهيونية لم ينل يهود العالمين العربي والإسلامي أهمية حاسمة إلا بعد الحرب العالمية الثانية، التي قضت في سياقها النازية على الخزان البشري اليهودي في أوروبا الشرقية والوسطى. لهذا السبب أصبحت هجرتهم ضرورية وحاسمة.
من ناحية أخرى، يهود البلدان العربية هم الجماعة اليهودية الوحيدة في العالم التي لا تملك اسماً يحيل إلى أوطانها الأصلية. فهم يهود الشرق مرّة، ويهود البلدان العربية مرّة أخرى، ولكن المصادر الصهيونية رفضت باستمرار وصفهم باليهود العرب، أو حتى بالمصريين أو العراقيين أو السوريين. وهذا يختلف عندما يتكلمون عن اليهود الروس والأميركيين والألمان..الخ.
في يوم ما، بعد إخفاق وهزيمة الصهيونية باعتبارها أعلى مراحل اليهودية، وحل مشكلة المواطنة، واندحار موجة الأصولية في العالم العربي، سيصبح من واجب العرب التفكير في كيفية إحياء التعددية اللغوية، والإثنية، والدينية، التي كانت جزءا من هوية الشرق، ومن سحره، ومن خصوصيته التاريخية والثقافية، وعندما يحدث ذلك سيعيد اليهود العرب كتابة تاريخهم.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني
اليهود العرب..!!
انا مع عودة يهود دمشق الى مدينتهم مثلما ارغب بعودة اهل القدس المسلمين والمسيحيين الى مدينتهم
هذه مسالة وطنية لا تراجع عنها تمهّد للسلام في المنطقة والعالم
فراس سعد