منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية توطدت العلاقات بين اليابان واستراليا كثيرا، من منطلق وجود مصالح مشتركة بينهما، ناهيك عن ارتباط كليهما بعلاقات استراتيجية وثيقة مع العالم الغربي خصوصا وأن استراليا تعتبر نفسها دولة آسيوية وبالتالي معنية بأمن واستقرار الأقطار الآسيوية وأمن المحيطين الهندي والهاديء. وهكذا توسعت روابطهما البينية الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والعلمية والثقافية، حتى صارت أستراليا ثاني أكبر شريك تجاري واستثماري لليابان بعد الولايات المتحدة.
غير أن السنوات الأخيرة شهدت منحى جديدا في علاقات البلدين تمثل في تعاونهما العسكري، على الرغم من القيود العسكرية المفروضة على طوكيو منذ انتهاء الحرب عام 1945. والحقيقة أن مثل هذا التعاون لم يكن ليبرز لولا الأنشطة العسكرية للعملاق الصيني في السماوات والمياه المشاطئة على نحو ما حدث خلال شهر يوليو الفائت حينما انتهكت طائرة استطلاع صينية من نوع Y- 9 المجال الجوي الياباني، ثم ما حدث في 18 سبتمبر الجاري عندما عبرت حاملة الطائرات الصينية “لياونينغ” المياه المتاخمة لليابان، وما حدث من قبل يوم أن اخترقت سفينة مسح صينية المياه الإقليمية اليابانية قبالة محافظة “ماجوشيما” الجنوبية.
هذه الإختراقات البحرية الصينية وصفها كبير أمناء مجلس الوزراء الياباني بأنها غير مقبولة على الإطلاق وتشكل تهديدا للأمن الوطني والاقليمي، مشيرا إلى أن بكين توسعت بشكل متزايد وكثفت أنشطتها العسكرية حول اليابان في السنوات الأخيرة.
ولعل هذه الأحداث، مضافا إليها ما وقع في الآونة الأخيرة من احتكاكات ومناوشات بحرية بين الصين والفلبين، هو ما دفع وزير الدفاع الياباني “مينورو كيهارا” في سبتمير الفائت للقيام بزيارة إلى استراليا للقاء نظيره الأسترالي “ريتشارد مارلز” في ملبورن والتباحث حول التعاون المشترك في مجال الانتاج الحربي.
وفي هذا السياق ذكرت صحيفة “ماينيتشي” اليابانية أن الوزيرين ناقشا سبل التعاون العسكري المشترك في مواجهة التهديدات الصينية، واستفادة كل طرف من الطرف الآخر في مجال الأسلحة الدفاعية المتطورة، علاوة على موضوع استخدام اليابان لأراضي وبراري أستراليا الشاسعة لتجاربها الصاروخية قيد التطوير. أما الأهم من كل هذا فهو اتفاقهما على تطوير صواريخ بعيدة المدى.
والمعروف أن البلدين وقعا على عقود مع الولايات المتحدة لتزويد كل منهما بمائتي صاروخ من طراز توماهوك. وطبقا للتقارير العسكرية والدفاعية فإن اليابان تعتزم نشر هذه الصواريخ على مدمراتها المجهزة بنظام Aegis بينما تعتزم استراليا نشرها على مدمراتها من طراز هوبارت وفرقاطاتها من طراز هنتر. ومن هنا قيل أن التعاون الياباني ــ الأسترالي الجديد في مجال الانتاج الحربي المشترك سوف يركز على تطوير فاعلية ومدي صواريخ توماهوك الحالية. فهذه الصواريخ ــ طبقا لخبير الأسلحة التقليدية والنووية فابيان هوفمان ــ يمكنها في شكلها الحالي كسلاح بعيد المدى أن تخلق تأثيرات استراتيجية كبيرة في الحرب من خلال استهداف العدو وشل قدرته على المقاومة، فما بالك لو تم تطويرها. وفي رأيه أيضا أن صواريخ توما هوك، مناسبة جدا للدول التي لا تملك قوة ردع نووية، لأنها تحقق نتائج حاسمة دون الإشتباك المباشر في ساحة المعركة، وذلك من خلال تعطيل لوجستيات العدو وقيادته وقواته العسكرية.
وهذا يعني أن طوكيو وكانبرا اختارتا أن تتعاونا في صناعة أو تطوير السلاح الأنسب والأجدى من أجل الردع أو من أجل تعزيز قدراتهما الهجومية البعيدة المدى لمواجهة التهديدات الاقليمية، خصوصا وأن استراليا في حاجة للتوماهوك نظرا لإفتقارها إلى قدرات الضربة البعيدة.
ومما يجدر بنا ذكره في هذا المقام أن الدكتور “موري ساتوري”، وهو خبير ياباني في السياسة الدولية والدبلوماسية الامريكية، ومواطنه المؤرخ وعالم السياسة “شينيتشي كيتاوكا” قالا خلال مؤتمر مؤسسة “راند RAND” الذي انعقد سنة 2021 أن حصول اليابان على قدرات الضربة المضادة ممثلة في صواريخ توماهوك الأمريكية هو جزء من استراتيجية طوكيو الدفاعية المتطورة، مضيفين أنه من الضروري لليابان أن تمتلك، عبر التفاهم مع الحليف الأمريكي، قدرات هجومية محدودة لمواجهة الأنشطة العسكرية المتصاعدة للصين، وأنْ تخطط لإستراتيجيات “منع الوصول والحرمان من الدخول” (A2/AD)، التي تعد أداة حرب مهمة للردع، مثلما فعلت الصين منذ زمن حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت)، حينما شعرت بالقلق من انتصار الولايات المتحدة وبالتالي احتمال سعيها للهيمنة على المياه المحاذية لها، فقامت مذاك بتسريع تحديث جيشها والانفاق المكثف على عدد من العناصر ذات الصلة مثل الصواريخ بعيدة المدى وأجهزة الإستشعار الذكية والجزر الإصطناعية الصالحة لإقامة قواعد عسكرية.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي