الميدالية الذهبية التي نتحدث عنها هنا هي فوز العاصمة اليابانية طوكيو بجدارة وإستحاق في السابع من سبتمبر بشرف إستضافة دورة 2020 الأولمبية. حيث إستطاعت طوكيو، التي يعني إسمها “العاصمة الشرقية”، ان تتغلب على مدينة إسطنبول التركية في التصويت النهائي (صوت لصالحها 60 عضوا من أعضاء اللجنة الأولمبية الـ 97،
فيما لم يصوت لصالح إسطنبول سوى 36 عضوا، بسبب ما تعانيه من إضطرابات سياسية وإنقسامات داخلية.
وكانت مدريد قد خسرت الإستضافة لأسباب مشابهة تقريبا تمثلت في ما تعانيه أسبانيا من بطالة وإفلاس وفساد ومظاهرات معرقلة للحركة بدليل ما صرح به الأمبير ألبير أمير موناكو وعضو اللجنة الدولية الأولمبية الذي قال إن المصوتين رجحوا كفة اليابان لأننا لا نريد مرة أخرى مواجهة الأخطار التي تواجهها “ريو دي جانيرو” البرازيلية في إستعداداتها لأولمبياد 2016 .
وإذا كان هذا الفوز الياباني يُعزي بالدرجة الأولى إلى ما تتمتع به اليابان من مقومات معروفة لإقامة دورة ناجحة وآمنة بفضل إقتصادها المنيع وإمكانياتها المالية الهائلة، وتقدمها الصناعي والتكنولوجي المشهود، وكياسة شعبها وأدبهم الرفيع، وما تختزنه عاصمة ومدنها من كنوز ومتاحف ومعالم تغري الآخر بالمجيء لحضور ألعاب الدورة ثم السياحة في ربوع البلاد، فإنه يُعزى أيضا إلى ملف الترشيح المحكم الذي قدمته الحكومة اليابانية إلى اللجنة الأولمبية الدولية التي إجتمعت في العاصمة الأرجنتينية “بيونس أيرس” للمفاضلة بين طوكيو وإسطنبول ومدريد وغيرها، ناهيك عن الجهد الجبار الذي بذله رئيس الحكومة اليابانية “شينزو أبي” الذي ترك “قمة العشرين” في مدينة “سان بطرسبورغ” وقطع آلاف الأميال جوا إلى الأرجنتين للدفاع عن ملف بلاده، مثلما يفعل أي زعيم مخلص حريص على سمعة بلاده ومصالحها ومكانتها.
فهو تمكن من تبديد شكوك البعض الذي كان متخوفا من آثار الإنفجار الذي لحق بمفاعل فوكوشيما النووي في مارس 2011 بسبب الزلزال، كما استطاع تبديد مخاوف البعض الآخر الذي تحجج بإزدحام مدينة طوكيو التي أختيرت كعاصمة في عام 1868 ويسكنها اليوم نحو 30 مليون نسمة، فصارت بهذه الصفة من أكثر عواصم الدنيا إكتظاظا بالسكان. وقد نجح الزعيم الياباني في إقناع الأعضاء الـ 97 الذين يحق لهم التصويت من أصل 103 دول تتمتع بعضوية اللجنة الاولمبية الدولية بفعل تركيزه على أمور عدة أولها: أن اليابان سبق لها شرف إستضافة أولمبياد 1964 الصيفية في طوكيو وأولمبياد 1972 الشتوية في سابورو وقد نجحت فيهما نجاحا مشهودا في وقت لم تكن فيه قد بلغت ما بلغته اليوم من ريادة إقتصادية وصناعية وتكنولوجية ومالية، ثم إستضافت مرة أخرى دورة الألعاب الأولمية الشتوية لعام 1998 في “نغانو” ودورة الألعاب الأولمبية لذوي الإعاقة الذهنية لعام 2005 في المدينة نفسها ونجحت فيهما أيضا. وثانيها: أن اليابان عازمة على تخصيص جزءا من المداخيل الكبيرة المتوقعة من إستضافتها لأولمبياد 2020 للنهوض بالمناطق المنكوبة في شمال شرق البلاد بفعل زلزال عام 2011 . وثالثها: أن بلاده ستوفر عروضا سياحية مغرية لمن يريد السياحة في ربوعها من ضيوف الدورة وسط جو آمن ومستقر، خصوصا وأن طوكيو تحتضن القصر الإمبراطري الرائع، وحي جينزا الشهير، والنسخة الكربونية من مدينة ديزني الأمريكية، ناهيك عن إحتضانها لـ”منتزه أوينو” حيث توجد مجموعة من أبرز متاحف العالم مثل”متحف طوكيو الوطني” الذي يقدر عدد معروضاته بثمانين ألف قطعة، و”متحف المدينة القديمة” الخاص بالتقاليد اليابانية، و”المتحف الوطني للفنون الغربية” الذي يعرض أعمال كبار الفنانين الغربيين، و”المتحف الوطني للعلوم”، إضافة إلى “حديقة الحيوانات العامة” وهي حديقة تضم أنواعا نادرة من الحيوانات والطيور وتستقطب نحو 50 مليون سائح سنويا. ورابعها: أن اليابان، على الرغم من إمتلاكها لمنشآت رياضية مكتملة بنيت في منتصف القرن الماضي من أجل إستضافة أولمبياد 1964 ، إلا أنها عازمة العقد على بناء منشآت جديدة تليق بأولمبياد 2020 ، وأنها سوف تسخر كل ما وصلت إليه من ريادة في عوالم الهندسة والتكنولوجيا لجعل الحدث متميزا ومبهرا. وخامسها: أن اليابان تقع في آسيا وآسيا هي أكبر سوق في عالم اليوم والحاضنة للبلايين من البشر من عشاق الرياضة.
وبنجاح “شينزو أبي” في إقناع أعضاء اللجنة الدولية الأولمبية والذي أفضى إلى تصويت غالبيتهم لصالح بلاده حق له أن يفرح، بل ربما كان أكثر مــَنْ فرح بدليل تصريحاته لوسائل الإعلام التي قال فيها أن شعوره بالسعادة فاق ذلك الشعور الذي إنتابه يوم إعلان فوزه برئاسة الحكومة اليابانية. كيف لا وإقتصاد بلاده سوف يتأثر إيجابيا بهذا الحدث العالمي. حيث تفيد التقارير بأنه من المرجح أن يرتفع حجم الناتج المحلي لليابان بنسبة 0.5% في عام 2020 ، وأن يزيد الطلب بقيمة 2.3 تريليون ين في مجالات البناء وتغيير الأجهزة الكترونية المنزلية ومبيعات السلع ذات الصلة بالأولمبياد، وأن تستقطب طوكيو 8.5 مليون سائح أي أكثر من إجمالي عدد من زارها في عام 2012 ، وأن يصل حجم الإستثمارات في مجال البناء إلى أربعة مليار دولار (هذا أقل مما إستثمرته الصين في أولمبياد 2008 ، وما إستثمرته بريطانيا في أولمبياد 2012 لأن طوكيو تملك منشآت رياضية كثيرة جاهزة وليست بحاجة إلى بناء المزيد).
إلى ما سبق تتوقع بلدية طوكيو أن يكون لإستضافة الأولمبياد تأثيرات غير مباشرة تدر نحو ثلاثة تريليون ين على الإقتصاد الياباني من الآن وحتى عام 2020 ، وأن يكون أكثر القطاعات المستفيدة هي قطاعات التجارة والنقل والإعلام.
والمعروف أن الأولمبياد يستمد إسمه من مدينة أولمبيا الإغريقية حيث كانت تنظم الألعاب الأولمبية القديمة بدءا من القرن الثامن قبل الميلاد وحتى القرن الخامس الميلادي على شرف كبير الآلهة وزوجته لمدة سبعة أيام. أما الألعاب الأولمبية الحديثة فقد بدأت في عام 1896 أي بعد سنتين من قيام البارون الفرنسي “بيار دي كوبرتان” بتأسيس اللجنة الأولمبية الدولية في فرنسا، وإتخاذ اللجنة من لوزان السويسرية مقرا لها. وقد منحت أثينا شرف إستضافة أول أولمبياد تكريما لها لكونها مهد الألعاب القديمة. وفي عام 2004 إستضافت أثينا الأولمبياد مرة أخرى. وبمقارنة الدورتين من حيث عدد الرياضيين والدول والمسابقات يستطيع المرء أن يكون فكرة عن التطورات الكبيرة التي مرت على الأولمبياد. ففي دورة 1896 إقتصرت الألعاب على الصيفية دون الشتوية حيث لم تبدأ الأخيرة إلا في عام 1924 ، وكان عدد الرياضيين المشاركين 300 من 15 دولة تنافست في 9 ألعاب. أما في دورة 2004 الصيفية فقد شارك 10 آلاف رياضي من 202 دولة تنافسوا في 28 لعبة.
كاتب وباحث أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh