يقول أستاذ العلوم السياسية الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في دراسته عن سبب الرفض الإسلامي للدولة الوطنية القومية المعاصرة التي نتابع مناقشتها هنا: “إنه من البداية نؤكد على أن معنى الجماعية أو الجماعة في مفهوم الأمة الإسلامية غير نافية للتعدد وغير مانعة من انضواء عقائد أخرى، أو ما استقر على تسميته بغير المسلمين في الدولة الإسلامية. ومن المهم أن التصور الإسلامي للمعمورة قام على قاعدة دار الإسلام، تحكمهم قواعد نظام عام واحد وتجمعهم قبلة واحدة، ومن ثم كان التعدد في ذلك الوقت يعني خروجاً عن الأصل الذي أقره الفقهاء”.
كلام واضح ومحدد، لكن بعين متأنية يمكنك أن تكتشف داخل هذه الكلمات القليلة الكثير من الفخاخ اللفظية باستخدام ألفاظ ذات دلالات محددة بعينها لتدل على معان ومقاصد بعكس الدلالات الأصلية في اللفظة، لأن اللفظ هو ابن التاريخ وابن الواقع الذي يعطيه المعنى والدلالة.
ومثل تلك الفخاخ والمتاهات اللفظية أصبحت سمة في الخطاب الأصولي والديني عموماً. تعالوا نفهم ما كتب مرة أخرى في تأكيده على مفهوم الجماعية (الجماعة) في مفهوم (الأمة الإسلامية)، لنجد أستاذ علم السياسة بيقول أي كلام في أي حديت، وأنه يستخدم الألفاظ بغير مدلولاتها عن قصد ورغبة اعتادوها في خطابهم على الناس، حتى باتت تلك الألفاظ تحمل دلالاتها المشيخية وأغراضها الدينية بشكل معتاد، حتى أمست تبدو حقيقة بينما يتم استخدامها للدلالة على أشد الأمور بطلاناً، بل للدلالة على مدلولات غير موجودة أصلاً.
والفخ الواضح لكل ذي عينين إعلانهم القبول بالتعدد داخل الجماعة المسلمة السياسية حتى لو كان تعدداً عقدياً، ولا تفهم كيف ستنضوي عقائد كالمسيحية أو اليهودية تحت عنوان (الجماعة المسلمة)، خاصة مع اعترافه الواضح أنه خلال الأزمنة السوالف التي يطلق عليها عبارة (في ذلك الوقت)، كان التصور الإسلامي للمعمورة يقوم على قاعدة دار الإسلام ودار الكفر أو ديار السلام وديار الحرب، وأن ديار الإسلام لم تقبل فقهياً بالتعددية في ذلك الوقت (الذي لم يحدد لنا أين بدايته وأين نهايته) لأنها كانت تعد كما قال خروجاً على الأصل الذي هو : قواعد إسلامية واحدة وقبلة واحدة.
وهكذا يبدأ الدكتور سيف زمن المعاصرة ليحدثنا بلغة الحداثة دون أن يحدد لنا بوضوح زمن انتهاء القديم الذي لم يكن يسمح بالتعدد، وزمن بداية الجديد الذي سيسمح بالتعدد، ولماذا يسمح اليوم بالتعدد؟ هل تغير الفقه؟ أم تم إلغاؤه؟ أم تغيرت القبلة الواحدة؟ أم تغير المسلمون؟ وإذا كانوا قد تغيروا فهل معني ذلك أن القديم المقدس كان هو الخطأ؟
إن مفهوم دار الإسلام وهي دار السلام، ودار الكفر وهي دار الحرب، مفاهيم إسلامية ظرفية ظهرت زمن قوة العرب، وهي القوة التي حضرت في التاريخ نتيجة ضعف القوى الأخرى في محيط الجزيرة الجغرافي، فتمكنوا من الغزو والإحتلال وانتزاع الأرض من أصحابها بحجة إيمانية لا منطقية، وهي أن أصحاب الأرض كفار لا يحق لهم الامتلاك ولا الحكم ولا حتى الحياة إلا بشروط الغازي العربي.
واليوم لا يملك العرب ولا المسلمون جميعاً تلك المقومات التي أدت لظهور مفهوم دار الحرب والسلام، لأنهما كانا نتيجة مقدمات لم تعد متوفرة اليوم لتؤدي إلى تلك النتائج. إن العصر الحديث جاء بمفاهيم بديلة هي دار الحداثة ودار التخلف، أو دار العلم ودار الجهل، أو دار العافية ودار المرض، أو دار المنهج العلمي في التفكير ودار الأساطير، أو دار الحرية ودار الاستبداد، أو دار الجمال النفسي والسلوكي ودار القبح على كل المستويات. إن الدولة بالمعنى الحديث، وبالمعنى القديم الما قبل إسلامي، قبل أن يحتلها العرب، هي الدولة القطرية ذات الحدود الواضحة دولياً وإقليمياً يعيش فيها مجتمع متعدد الثقافات والأعراف والألوان، لأنه من المستحيل علمياً القول بمجتمع من عرق واحد ذا ثقافة واحدة. و المجتمع بأرضه وحدوده وعروقة المتعددة وأديانه المتباينة هو ما يسمى دولة قومية أو وطنية قطرية، لكن الإسلاميين يرفضون مثل هذا التعريف للدولة، بل هم يرفضون معنى الدولة ذاته. وإزاء ما ينشأ من تناقض حاد بين المفهومين الإسلامي والمحدث الذي فرض نفسه على العالم حتى توارى المفهوم الإسلامي لأمة خلافة كبرى، وأصبح من الماضي. يحاول هنا الفلاسفة الجدد للتيار المتأسلم استعادة المفهوم الإسلامي القديم بصبغة حديثة يزعمون أنها ستراعى التعدد بداخلها ثقافات أو أعراق أو ديانات.
إن المغالطة هنا تظل نوعاً من التلبيس الذي ينسبونه هم إلى إبليس حتى أنه تجسد بيننا وعشش في عقولنا وأصبح للمسلمين سيداً في شكل جماعات إسلامية. وسنجد هنا تلبيساً بارعاً ومخاتلة مدروسة ومصاغة في قوالب معاصرة يسهل لها التسلل إلى العقل المعاصر والتعامل معه بالأساليب المحدثة، لتمرير القديم إليه وفق شكل يبدو حداثيا مقنعاً ومنطقياً وهو أبعد ما يكون عن ذلك. لو كان هدفهم الإسلام ما سلكوا مسالك الشيطان وسبلة التي بين أيدينا هنا بأقلامهم.
أول تلبيس هو في تقديمه مفهوم الجماعة الإسلامية كما لو كان أمراً متفقاً عليه ومنتهياً كمقدمة ينتقل بعدها إلى النتائج التي يريدها، بينما تعريف الجماعة الذي يدل على هويتها لا يتم إلا بالجماعة نفسها، فالجماعة هي التي تقرر شكل وصفة أعضائها وهويتها، فتقرر من ينتمي إليها ومن ليس عضواً فيها.
والجماعة الإنسانية ابتداء من أبسط صورها هي (الأسرة) التي تقوم بتعريف نفسها ابتداء، ثم مجموع الأسر الذي كان في تاريخه القديم يشكل القبيلة البدوية، وكانت بدورها هي من يقرر إن كان هذا الشخص عضواً فيها من عدمه. وكان قصد القبيلة المتبدية من صنعها لنفسها تعريفها المعنوي والمادي، هو حماية كيان الجماعة وهويتها. لذلك لم تكن تسمح لغريب عنها أن يخترق حدودها التي توافقت عليها سواء كانت تلك الحدود معنوية أو مادية. لأنها ببساطة لا تملك أرضاً ولا تستقر في مكان واحد.
وبسبيل تقوية ذاتها تقوم بدعم كلي للجانب المعنوي فتعلم أفرادها الإعتزاز بالنسب والأصل والسلف الذي هو إعتزاز بالنفس والذات التي يعبر عنها هذا النسب المتصل. وكان هذا الاعتزاز يصل إلى حد عبادة الأسلاف من باب تقوية التماسك بين أعضاء الجماعة. لذلك كان البدو يحفظون أنسابهم حفظاً لبقاء الجماعة وعدم ذوبانها في غيرها, أو ضعف الولاء والإنتماء بشكل يهدد وحدتها وتماسكها فتنحل وتضعف وتفقد قوتها إزاء جماعات أخرى, وهو ما يعني فقدانها لسيادتها وكرامتها، وهو ما كان يؤدي في الأزمنة السوالف إلى استعباد أفرادها من قبل آخرين، وأجلى صورة لهذا الشكل للجماعة كان في جزيرة العرب في الزمن الما قبل إسلامي وإلى أجل طويل بعده يستمر حتى اليوم في القرن الحادي والعشرين، ولأن الجماعة البدائية البدوية لم تكن تعرف الوطن وحدوده، لأنها لم تكن تعرف الاستقرار، وتعتمد بالكلية على عطاء الطبيعة العشوائي المتنقل والمتقطع لصحراويته، فقد استمر هذا الشكل من الجماعات الإنسانية لمدة أطول عن نظيره في المجتمعات النهرية, التي انتقلت من مرحلة الصيد المرتحل والسعي وراء خيرات الطبيعة, إلى اكتشاف الزراعة ومن ثم الإستقرار فالتمدن، فعرفت معنى الوطن وحدوده وهويته مبكراً بالقياس على حياة البداوة التي استمر فيها الإنسان عالة على الطبيعة، مرتحلاً دوماً وراء عيون الماء والكلأ فلم تعرف الجماعة البدوية معنى الوطن، لذلك كان تركيزها وتأكيدها الشديد على الجانب المعنوي : النسب والثقافة وأطلقوا على ذلك إصطلاح (الحمى) الذي يتحرك معهم أينما كانوا في حمى الأسلاف الأرباب الذين ينتسبون إليهم, كمقابل لاصطلاح المواطنة في البلاد الخصيبة النهرية. وهكذا كان أخطر ما يمكن أن تتعرض له الجماعة البدوية هو الغزو الثقافي والعدوان المعنوي، لذلك كانت تصد ذلك بشدة وقسوة إذا ما وجدت أحد أفرادها لا يسلك بموجب ما اعتادت تقاليدها المتوارثة عليه منذ وجدوا آباءهم وأجدادهم، وهو ما يشكل هوية الجماعة القبلية. فالحمى من ثقافة وعادات وتقاليد ونسب في بيئة ندرة شحيحة هو السبيل الوحيد لحماية القبيلة وشخصيتها المستقلة، وهو ذات الموقف الذي يتخذه المتأسلمون من ثقافات عالم اليوم كحفرية حية لزمن أصبح من الماضي البدائي العتيق.
وعندما كانت القبيلة تتعرض لعدوان ثقافي شديد، كانت تضطر أحياناً للتنازل عن بعض محددات الحمى مع الإبقاء على حدود دنيا من محددات هويتها القديمة حتى لا تذوب في غيرها.
والأمة هي الجماعة البشرية الأكبر عدداً، والتي تضم قبائل وعشائر وأفخاذ وبطون توافقت على الحدود الدنيا بينها وقبلت بها محددات لهويتها.
وللتوضيح (مع بعض التجاوز) يمكن القول أن النوبيين مثلاً هم أمة قبلت نتيجة للغزو العربي بالإسلام ديناً وباللغة العربية، لكنها احتفظت بلغتها الخاصة إلي جوار العربية، وبكثير من عادات الأجداد وتقاليدهم حرصاً على هويتها لذلك بقيت مستمرة حتى اليوم.
والأكراد أمة والأمازيغ والترك والفرس أمم غزاها العرب المسلمون، لكن كل منها احتفظ بمحددات تميزه، فمثلاً اختار الفرس المذهب الشيعي محدداً مميزاً واحتفظوا بلغتهم لإظهار شخصيتها وهويتها المستقلة.
وفي مصر تمسك المصريون بقواعد لغتهم المصرية القديمة نحواً وصرفاً وتكلموا العربية وفق قواعدهم الخاصة منشئين العامية المصرية، واحتفظوا بآلاف المفردات من زمن الأجداد في مصر القديمة، وبكثير من العادات والتقاليد والاحتفاليات الخاصة بهم وحدهم كشم النسيم وسبوع المولود وأربعين الموتى وأكل الفسيخ في الأعياد والتقويم القبطي للزرع والحصد، حفاظاً على هويتها من الضياع. وكان ذلك يتم من قبل أبناء الأمة بشكل ميكانيكي تلقائي رغم محاولات الطمس المقصود من الغزاة العرب لهويات الأمم المفتوحة جغرافياً وثقافياً. وما أن خف الضغط بسقوط الخلافة حتى استعادت معظم هذه الأمم هويتها وحدودها الجغرافية منذ مينا الفرعون الأول في مصر أو منذ سرجون الثاني في العراق.
وإعمالاً لما سلف نصل إلى نتيجة صنعها التاريخ، وهو أن الجماعة الإنسانية لا تنشأ بقرار كما يرى الدكتور سيف عبد الفتاح وأهل بيته الأيديولوجي من الإسلاميين، ولا كما يريدون، الجماعة لا تنشأ بإرادة فرد ولا بقرار جماعة كالإخوان المسلمين ولا حتى بظهور دين بعينه، وإلا اختفت باختفاء الفرد المنشئ لها أو الدين الذي قامت عليه.
وليبان ذلك كمثال قبيلة قريش صاحبة الدين الإسلامي ذاتها، كانت جماعة بشرية قائمة قبل الإسلام عندما كانت مكة معقلاً للوثنية، وظلت قائمة عندما أسلم بعضها وظل أغلبها مشركاً، وظلت قائمة بعد أن أسلمت جميعاً. وحافظ الإسلام على استقلالية قريش وهويتها عندما قال: “جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، وبالحديث النبوي: “الإمامة في قريش”. وعليه فإن الإسلام كدين (بغض النظر عن سيرة الصحابة والفاتحين فهم بشر لهم ما للبشر وعليهم ما على البشر)، الإسلام لم يأت ليهدم المجتمعات البشرية بقرار سيادي كما يريد أنصار عودة الإمبراطورية الإسلامية، بل هو يحترم هويات الأمم والشعوب بل وحتى القبائل.
نعود إلى تلبيس إبليس، فنجد تلبيساً في التعريفات والمفاهيم، فالأمة والجماعة والمجتمع شأن سابق على ظهور الأديان، فمصر كمجتمع وأمة كانت موجودة قبل موسى ويوسف ويسوع ومحمد وغيرهم، ولم ينشئها أحد منهم، ولم يتم نسبتها إلى أي منهم، وإلا كنا نسبناها بالأحرى إلى موحد القطرين مينا فقلنا مصر الميناوية مثلاً، قياساً على الشكل القبلي للدول الأموية والعباسية والطولونية والإخشيدية والحمدانية..إلخ.
وقد أدرك العربان مبكراً أن الإسلام لا يشكل أمة ولا ينشىء دولة، لذلك نسبوا الدول إلى أنفسهم وحتى اليوم كما في السعودية مركز الإسلام ومنبعه ومالك جغرافيته وتاريخه، فلم يتم نسبة البلاد للإسلام بل لإبن سعود. كالمسلك القبلي القديم بالإنتساب إلى الأجداد والنسب والحمى.
وعليه فإن تعبير (الأمة الإسلامية) تعبير بلا مفهوم وبلا تاريخ في أشتات بقاع الأرض، بالمعنى القبلي القديم المنتسب إلى ثقافة واحدة، رغم تشرذم المسلمين في كل الأرض من أمريكا حتى الصين، كل منهم ينتمي إلى أمة اجتماعية معروفة ومعرفة من قبل ظهور الأديان، لأن الأديان ظهرت في الأمم والأمم هي الأصل والأساس، هي حاضن الأديان وليس العكس كما يحب الدكتور سيف وجماعته الذين يضعون العربة أمام الحصان، ويريدون أيضاً نسخ القرآن “وجعلناكم قبائل وشعوباً لتعارفوا”.
إن الدكتور سيف ورفاق دربه يستخدمون المصطلحات لغير مدلولاتها بقصد خدمة هدف واحد هو كرسي الحكم، ويخلطون المجتمعات المختلفة بمعنى الأمة الواحدة ذات المجتمع الواحد مصبوغة بالإسلام كموحد للمجتمعات المختلفة والأمم المختلفة والدول المختلفة، بما لا يفي في النهاية باستنتاج علمي واحد سليم.
إن مصطلح (الأمة الإسلامية) إذن هو تعريف ديني وليس تعريفاً اجتماعياً أو سياسياً ومن ثم فهو غير منشئ للدولة التي هي اجتماع وسياسة. إن الأمة المنشئة للدولة يلزم أن تكون في حيز جغرافي واحد، وأن تكون ذات منشأ طبيعي لا صناعي مكتسب، وأن هذا المنشأ الطبيعي قد استغرق في تكوينه قروناً متطاولة بعملية تدريبية تطورية دون أية ضغوط أو غزو أو فتح، وروابط الأمة هي اقتصادية أمنية اجتماعية تصب جميعاً في نفع الجماعة، مما ينشأ عنه توافق في العادات والتقاليد تتيح للفرد حرية الإنتقال داخل أمته والتزاوج بين أفرادها بسهولة دون إجبار أو ضغوط.
الأمة الفارسية كانت أمة قبل الإسلام ومعه وكانت قبل الإسلام تشكل إمبراطورية خضع لها الشام ومصر وأمم أخرى، وظلت أمة إمبراطورية في شكل سياسي. ومثلها الأمة المصرية وغيرها. هم أمم اجتماعية المنشأ بشكل طبيعي بروابط أنشأتها الجماعة لتطور طبيعي لنمو المجتمع، وليس بفعل جيوش ضاغطة أو إمبراطوريات حاكمة.
إن مصطلح الأمة الإسلامية هو شئ بلا معنى، هو من لغو الكلام وخلل التفكير وغياب أبسط آليات التفكير المنطقي البسيطة.
هذا ناهيك عن خطأ التعريف (الدولة الإسلامية) من الأساس. فالدولة عبر تاريخها القديم الابتدائي الأول كانت دولة دينية فعلاً، لأن ذلك كان يناسب ظرفها الابتدائي الأول، لأنها كانت وثنية، والوثنية كانت تعني توافق المجتمع على آلهة بعينها تتفق مع بيئاتهم وظروفهم، فتجد مصر مثلاً تقدس سوبك التمساح لوجوده في نيلهم بوفرة، بينما بدو الجزيرة يقدسون الخروف، ومصر تقدس من ظواهر الطبيعة أعظمها الشمس لدورها الهام في نضوج المحصول ودورتها الفصلية في البذار والحصاد، بينما بدو الجزيرة كانوا يقدسون القمر لدوره في إضاءة ليل الصحراء المقفر الموحش، كانت الأمم تصنع أربابها بنفسها لنفسها بما يوافق جغرافيتها ومصالحها وطريقة تفكيرها ومتطلبات عيشها، كذلك لم يحدث أن وقع صراع اجتماعي في المجتمعات الوثنية بسبب الدين، لأن الدين كان من إبداعهم على التوافق بينهم، أما الأديان الكبرى كاليهودية والمسيحية والإسلام المنسوبة إلى رب كوني فإنها ذات طابع صراعي لأنها لا تجيز اعتراف بعضها ببعض، فلا يمكن وصف الدولة ذات الأديان الكبرى المتعددة بأحد هذه الأديان وإلا وقع الصراع بين أطراف هذا المجتمع، صراعاً لا زال يطل برأسه كل يوم حتى اليوم في بلادنا. لأن تلك الأديان لم يتم التوافق الإجتماعي والتواضع الشعبي عليها، وليست بنت بيئته الوطن التي يتشارك فيها جميع المواطنين، إنما هي جاءت جميعاً من خارج الحدود وتم فرضها فرضاً على مختلف الأمم المفتوحة.
ومع دين الإسلام نجد أن هناك رباً واحداً، ونبياً واحداً، وكتاباً مقدساً واحداً، ومع ذلك لا نستطيع أسلمة المجتمع أو الدولة ووصفها بالإسلامية إذ ستتفاقم المشاكل المجتمعية، كنتيجة لعدم إجماع المسلمين أنفسهم، واختلافهم في شئون ليست من البسائط الهينات، بل هي من العظائم الكارثيات، اختلفوا حول الله وصفاته وشب بينهم الخلاف والتكفير وما يتبعه من الإقصاء والموت والتدمير، حتى تكاد تجد في الإسلام أكثر من رب، عندما تطالع الفرق والمذاهب وكيف ترى رأيها في هذا الرب الذي كان في البدء واحداً فعدده المسلمون وتفرقوا حول آلهة شتى لا تلتقي أبداً، مع إصرار كل فريق على صحة وجهة نظره مابين منزهة ومشبهة ومعطلة ومرجئة وجبرية فأصبحوا مللا ونحلا.
لن تجد تعريفاً واحداً فقط للإله متفق عليه بين هذه الفرق رغم أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، فقد صار له أكثر من وصف وتعريف لدى كل فرقة، واختلفوا حول القرآن الواحد فصارت له تفاسير تتضارب بالكلية ولا تلتقي بحال، وقال بعضهم بالنسخ في الوحي كما قرر القرآن، وأنكره آخرون، وبعضهم احتسب المتشابه محكماً وآخرون احتسبوا المحكم متشابهاً، ولم يجمعوا على آيتين، ويحدثوننا عن إجماعهم وإجماع المسلمين على ضرورة قيام الدولة الإسلامية الواحدة الجامعة كحل لهوان المسلمين وضعفهم، بينما الأصل لهذه الدولة المنتظرة الذي هو (الإسلامية) لم يتفق المسلمون حول مفرداته وتفاصيله بل اختلفوا حتى بادت فرق بكاملها بحد السيف، وما بقى منهم في زماننا يبيدون بعضهم بالمتفجرات الحديثة وبالصواريخ عندما تحين الفرصة وتتهيأ الظروف. لم يختلف الوثنيون لأنهم من صنعوا آلهتهم بأيديهم وأقاموا إمبراطوريات عظمى هي درر تاج التاريخ الإنساني، بينما أبناء الدين الواحد والكتاب الواحد والرب الواحد يقتلون بعضهم بعضا على أدق التفاصيل، ويريدون إنشاء الأمة الإسلامية الجامعة !!! من أول وجديد !!!.
لقد ركب العرب الإسلام عندما جاءوا لفتح بلادنا بقيم العرب لا بقيم الإسلام، وبعادات العرب وليس بآيات القرآن، فظلوا قبائل. وسرت عدوى القبلية إلى الشعوب المفتوحة المتماسكة كدول وأمم من فجر التاريخ فكانت النتيجة ان تفكك تعارفهم وانحلت مجتمعاتهم.
إن الإسلام لم يأت لينشئ دولة، ولا ليقيم إميراطوريات، ولا علاقة له بالوحدة والتعدد الاجتماعي، ولم يعرف أصلاً معنى كلمة دولة، وكانت الدولة عنده هي تداول الأزمان والأشياء اى تحركها وتبدلها ” وتلك الأيام نداولها بين الناس ” ليس أكثر. ومع ذلك يتقدم فلاسفة التيار الإسلامي المعاصر بلا وجل، ليستخدموا مصطلحات الآخرين بحسبانها مصطلحات إسلامية.
ويحدثوننا عن شئ ليس في مرجعهم المقدس أي بيان بشأنه، ويحدوثوننا عن الدولة رغم وصف أنفسهم بالإسلاميين، أي المتميزين بخلق الإسلام عن غيرهم من فاقديه، لكنك لا تجد هذا الخلق واضحاً لديهم، لأن استخدام ألفاظ غريبة على الإسلام بحسبانها ألفاظاً إسلامية ذات دلالة إسلامية كالدولة، هو تزوير وتدليس وغش للمسلمين والإسلام. ولا يحق لأحد أن يعبث بمنتج شعب آخر فهذا جرم قبيح فالدولة ليست منجزاً إسلامياً. واستخدام مصطلح دولة يجب أن يعود لأصحابه، سواء مصطلح الدولة في التاريخ القديم، أو مصطلح الدولة في المفاهيم الحديثة والمعاصرة، لكن الدكتور سيف يلبس علينا مصطلح الدولة كما لبس علينا مصطلح الجماعة. أليس أستاذا في فن السياسة؟
***
إن الدولة القديمة ذات الدين الوثني والتي كان شعبها هو من يضع دينه لنفسه ويشكل تفاصيله حسب مصالحه، ويصور آلهته حسب ثقافته وتصوراته وأخيلته التي حددتها له بيئته، والتي كان شعبها هو من يضع لنفسه عاداته وتقاليده بنفس الطريقة، وألوان مأكله ومشربه وملبسه وعلاقاته بمجتمعه وبغيره، والتي كان شعبها هو من يبتكر لنفسه أساليب التواصل بآلهته وكيفية العبادة، وهو من يحدد مطالبه من هذه الآلهة، تشكل هذا المجتمع منذ فجر التاريخ اجتماعياً وطبيعياً في شكل دولة واحدة تضم أمة واحدة، فإن توسعت فلتشكل إمبراطورية. وضمن هذه الإمبراطورية تظل الشعوب محتفظة بهويتها الاجتماعية والدينية دون قسر أو فرض، فكان الخضوع قبل الإسلام قاصراً على الخضوع الإداري والسياسي فقط.
وفي العصر الحديث تكرر ظهور الإمبراطوريات على النسق القديم ذاته، كما حدث مع الإمبراطورية الإنجليزية التي لا تغيب عنها الشمس، والفرنسية والأسبانية في العصر الصناعي. ودولة الفتوحات العربية ضمت بدورها أمماً عدة كان العرب والمسلمون فيها أقليات، ضمت الخلافة الأمة المصرية والفارسية والعراقية والشامية والكردية وجزءاً من المغولية، وظلت تلك الأمم محتفظة بهويتها فترة حتى بدء القسر بالتغول في الجباية وفرض اللغة العربية في الأمصار، ومع الفقر والإفقار والمذلة وعهد الذمة العمري، بدأ أبناء هذه البلاد يدخلون إلى الإسلام هرباً من جباية لا يستطيعونها فانتشر الإسلام محدثاً التضارب بين هذه الأمم وليس الذوبان، فهو ما لا يستطيعه دين من الأديان، لأنه ضد الطبيعة وضد سير التاريخ وضد النظام الإجتماعي نفسه.
والدولة الواحدة قد يتكون شعبها من امة واحدة أو من عدة أمم أو جزء من أمة، فالاتحاد السوفياتي كان أمماً عديدة جمعتها ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، وعندما تغيرت الظروف تفكك الاتحاد السوفياتي وعادت الأمم للظهور وهو ما حدث من قبل للإمبراطورية الإسلامية عندما تفككت فعادت الأمم الأصيلة للظهور مرة أخرى.
بل أن الإسلام لم يتمكن من إذابة الصورة الاجتماعية الأصغر (القبيلة) التي هي أبسط من الأمة، فظلت القبائل العربية بطول التاريخ الإسلامي قائمة متواجدة دون ذوبان أو إندماج.
النتيجة أن هناك قبائل اعتنقت الإسلام، وشعوباً اعتنقت الإسلام، وأمماً اعتنقت الإسلام، وظل كل منها محتفظ بهويته حتى اليوم.
ومن ثم فلا توجد علاقة بين الأمة والدولة، فقد تكون الأمة ضمن أمم أخرى عديدة داخله في تشكيل عدة دول كالأمة الكردية والأمة التركية والأمة المغولية. وقد تتكون الدولة من جزء من أمة أو امة بكاملها أو عدة أمم كاملة، لكنهم عندما يكونون ضمن دولة واحدة فإن الدولة في هذه الحال تحكم شعباً واحداً متعدد الأمم والأعراف والأديان، فالدولة تشكيل سياسي متنوع الأعراق والأديان كما كانت إمبراطورية العرب التي تخيروا لها اسم دولة الخلافة، بينما هي كانت إمبراطورية حلت محل إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم نتيجة سقوطهما حسب حركة التاريخ التي لم تؤد إلى سقوط الأديان أو انتهاء الأمم والمجتمعات.
هذا بينما يقدم لنا الفلاسفة المتأسلمون تعريفاً لشئ اسمه “الأمة الإسلامية”، وهو تعريف ديني بحت لا هو اجتماعي ولا هو سياسي ومن ثم هو لا ينشئ دولاً. لأن الأمة المنشئة للدولة يلزم أن يكون لها حيز جغرافي واضح واحد، وذات منشأ طبيعي تدريجي تم خلال آلاف السنين دون ضغوط عسكرية غزواً أو فتحاً، وذات روابط اقتصادية وأمنية وعلاقات اجتماعية تتمثل في توافقها على مجموعة عادات وتقاليد ونظم، تتيح لأفرادها حرية الإنتقال داخله آمنه والتزاوج بين أفرادها بسهولة، بينما حتى اليوم لا تتيح تقاليد الجزيرة مثلاً زواج البنت لمسلم غير سعودي من أمة أخرى، بل أحياناً لا يجوز ذلك ما بين قبيلة وأخرى، فلا زالت حتى الآن قبائل، حتى الآن لم يشكلوا دولة بالمعنى الحديث بعد.
لذلك إذا دخلت الأمم المتكونة طبيعياً بشكل قسري داخل إمبراطوريات أو دعاة أديان، فإنها سرعان ما تعود إلى أصولها الطبيعية عند زوال عوامل الضغط والإرغام.
وإعمالاً لكل هذا فإن مصطلح (الأمة الإسلامية) هو مصطلح بلا معنى ولا وجود له، فهو بلا معنى سياسي ولا معنى اجتماعي، كل ما يعنيه هو الإشارة إلى مجموع المؤمنين بالإسلام المتفرقين أشتاتاً في بقاع الأرض جميعاً.
أما إذا كان المقصود باصطلاح الأمة الإسلامية هو دعوة تقوم على حق تاريخي بإقامة دولة الخلافة المقبورة وإحيائها من مرقدها، فهو ما يعنى إعطاء الحق بالمثل للمطالبة بإحياء الإمبراطورية الفارسية والإمبراطوريات الإستعمارية الحديثة من بريطانية وفرنسية وأسبانية، وعودة الصراع العسكري سيفاً وفتحاً ومغانم بين تلك الإمبراطوريات وبعضها، كما يعني وجوب السكوت التام عن قيام دولة إسرائيل بالمرة ودون أن ننبس ببنت شفة؟!
ثم أننا إن أردنا إعادة دولة الخلافة فعلينا أن نفهم أن الشعوب لن تخضع بالحوار والقناعات، فجزيرة العرب لم تخضع لابن سعود بالحوار والقناعات، ومن أراد إعادة الإمبراطورية الخلافية فعليه أن يفعل فعل بني أمية وبني العباس وبني عثمان بالقهر والغلبة وأنهار الدماء. فالتاريخ لا يعرف شعوباً خضعت لغيرها بدون العنف والقوة، وهو اليوم ما سيصطدم بمعادلة القوة والضعف، والتي نحن فيها الطرف الأضعف بين العالمين. لذلك فإن ما يكتبه الدكتور سيف ورفاقه لا يزيد في الواقع عن كونه لوناً من العهن المنفوش والمخيال الإسلامي المدقع فقرا.
خاصة وأن الدولة لم تكن إطلاقاً من صلب الدين الإسلامي، لأنها لو كانت من الدين ما تصارع الصحابة فيما بينهم ذبحاً وقتلاً على الحكم، ولاكتسب حاكم الدولة هيبة الدين المؤسس لها، ولما جرؤ الصحابة على قتل الخليفة عثمان، لأن ذلك كان سيعد خروجاً على الدين ومروقاً من الإيمان ولكان معاوية خارجاً على الدين منكراً لمعلوم من الدين بالضرورة، ولكانت خلافته ودولته مناهضة للدين وضد مبادئه ولا يصح وصفها بالإسلامية، والإسلاميون هم من يصفون تلك الخلافة بالإسلامية وليس أحد غيرهم.
ولأن الدولة والحكومة نظام سياسي إداري وليس دينياً تصارعت دولة علي بن أبي طالب وحكومته مع دولة معاوية وحكومته، صراعاً سياسياً إدارياً لا دينياً، وإلا كان احدهما كافراً خارجاً عن الدين، وكلاهما صحابي يعلم حقيقة الإسلام والدين، وأنه ليس فيه حكومة ولا دولة، لذلك تصارعاً دون خشية رب العالمين أو غضبه.
كما أن واقع المسلمين اتجه من بعد إلى تعدد الكيانات السياسية التي حكمت المسلمين على التزامن والتجاور، فإن كان الإسلام دين ودولة لكان هناك تعددية دينية مواكبة لهذا التعدد السياسي. وكانت البداية بخلافة عباسية في بغداد وخلافة أموية في الأندلس، ولكل منها شعب تحكمه، وأمم تخضع لها، فإذا كان الإسلام ينشئ أمه فهل كان هناك أمتان إسلاميتان متباينتان إسلاماً؟ ثم بعدما تفتت الإمبراطورية إلى كيانات تغلب استندت إلى شوكتها وغلبتها وقدرتها على الإستيلاء على السلطة، وظلت تحت ما أسموه خضوعا إسميا للخلافة، مثل الطولونية والحمدانية والإخشيدية والأيوبية هل كانت تلك الكيانات مسلمة أم كافرة؟ وهل أصبح الدين الإسلامي ديانات بعدد تلك الدول شبة المستقلة عن الخلافة؟ أم أن الإسلام واحد ولا علاقة له بالدولة أو بالدول العديدة، لأن الدين شئ والدولة شئ آخر. إن شعار الإسلام دين ودولة شعار كاذب، وهو أول ما يكذب فإنه يكذب على ديننا وإسلامنا، وتكذبه أو ل ما تكذبه أحداث الفتنة الكبرى بين كبار صحابة رسول الله، فعلي بن أبي طالب كان الصحابي الذي كرم الله وجهة، وابن عباس هو حبر الأمة وراويها الأكبر عن رسول الإسلام، ومعاوية كان كاتب الوحي، وهم من عرفوا الإسلام من رسوله مباشرة، وكلهم تصارع على السلطة والدولة والأموال دون أن يأثم واحد منهم دينيا.
إن الدولة القومية القطرية التي يرفضها المتأسلمون كانت دولة علي بن أبي طالب في العراق وارتضاها العراقيون لأنفسهم، وكانت دولة معاوية بن أبي سفيان في بلاد الشام وارتضاها الشوام لأنفسهم، وحافظ كلا الشعبين قدر استطاعته على دولته التي ارتضاها لنفسه وساندوها حتى حققت نصرها، فكانت لها السيطرة على الأخرى ثم التمكن من إخضاع أمم أخرى بالسيف وحده.
وعندما تمكنت الأمم والقوميات من الاستقلال عن دولة الخلافة في كيانات خاصة، فعلت ذلك وإن ظلت ترتبط بالخلافة إسمياً ورمزياً، وإيغالاً في الخصوصية اتبعت هذه الأمم مذاهب دينية خاصة بها لتؤكد استقلالية هويتها وتميزها عن غيرها من أمم تتبع الخلافة. فرجع الشئ لأصله ووضعه الطبيعي السابق على الإحتلال العربي.
لقد ارتضت الشعوب لنفسها دين الإسلام لكنها في الوقت ذاته رفضت الخضوع لغير بني جلدتها من حكام بالشكل الذي يطمس هويتها، ويقضي على شخصيتها بين الأمم، واستمرت هذه الأمم تناضل حتى استعادت هويتها كما هو حالها اليوم.
حتى مهبط الوحي ومركز الإسلام الجغرافي والتاريخ جزيرة العرب، إدراكاً من أهلها أنهم أمة تتميز بخصوصيتها عن الأمم المجاورة اختارت لنفسها اسماً يدل على هويتها فأصبحت المملكة العربية السعودية، ولم تتخذ اسم دولة الخلافة الإسلامية، ولم تقرن باسمها لفظ الإسلام أو الإسلامية، لقناعة الوهابيين الداخلية وهم أكثر المسلمين تشدداً بأن الدولة لا علاقة لها بالدين.
إن ما يسمونه شعوبية وتفتت لأمة الخلافة إن هو إلا عودة إلى الدولة القومية الأولى الطبيعية، إلى ما قبل الاحتلال العربي وقيام إمبراطورية العرب، كما حدث لكل الإمبراطوريات. وأن انتصار العرب زمن الفتوحات لا يعطيهم حقاً أبدياً في استعمار وحكم البلاد التي فتحوها بالقوة والغلبة.
لقد قامت الخلافة بالقوة وانهارت بنفس الطريقة كغيرها من إمبراطوريات. أيضاً بالقوة. فالأمم تريد هويتها وحرياتها وشخصياتها المميزة، وترفض المذلة والاستعباد لغيرها، إلا قلة من أبنائها يجدون في الدعوة للعودة إلى العبودية لأنفسهم مكاناً بين السادة في حلمهم بالخلافة العائدة، غير مدركين أنهم موالي، وأنهم فئ ومغنم للسادة كبقية أبناء الأمم المفتوحة.
ومن غرائب دعاة الأسلمة تباكيهم على سقوط الإمبراطورية العثمانية وتفكك دولة الخلافة وظهور الدول القومية، وهو ما يصنعه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بقوله: “إن هذه المرحلة تميزت بالولادة القسرية والشائهة لما أسمى بالدولة القومية في العالم الإسلامي”. وما أحدثته هذه النشأة المشوهة والقسرية للدولة القومية من ميراث من المشاكل الممتد في داخلها.. وأن هذا السقوط والتفكك والولادة القسرية الشائهة للدولة القومية كان بفعل الإستعمار الغربي الذي عمد إلى إضعاف الخلافة وإسقاطها لتفتيت المسلمين إلى دول وكيانات ضعيفة.
إن الرد على الزعم بأن تفتت دولة الخلافة يعود إلى المستعمر الغربي واتفاقات سايكس بيكو وغيره مما يزعمون، لابد أن يعيدنا إلى تذكر أن الإمبراطورية العثمانية عندما قامت كان قيامها بقوة السيف والجيوش، ولم تصبح مصر ولاية عثمانية إلا بعد هزيمة جيش المماليك في موقعة مرج دابق، وكانت بين جيشين : جيش يريد ان يحمي تراب الوطن واستقلاله، وجيش يريد احتلاله والسيطرة عليه. ونتيجة للهزيمة العسكرية وليس لقناعات دينية بإقامة إمبراطورية خلافة إسلامية، تم ضم مصر قسراً لتلك الإمبراطورية، وتم استنزاف ثرواتها وكرامتها إلى حد قياسي، مع إهمال تام لشئون البلاد والعباد، حتى تحولت مصر إلى دولة من العبيد المعزولين عن العالم والحضارة. حتى نجح محمد علي في تحقيق الاستقلال بينما انهارت الخلافة نتيجة ضعفها وتخلفها وتفككها من داخلها، وهو منهج التاريخ الذي سبق وسقطت بموجبه إمبراطورية فارس وإمبراطورية الروم لتحل محلها إمبراطورية العرب، التي ضعفت ووهنت في الزمن العثماني وهو ما ادى إلى إحتلالها من الدول الأوروبية ولم يكن الإستعمار الغربي هو السبب بل كان هو النتيجة لذلك.
والملحظ الواضح فيما يصر الدكتور سيف والفقهاء على استعادته، أقصد مفهوم (دار السلم ودار الحرب)، انه إصرار ضد أصل قرآني مقدس هو (عالمية الإسلام) التي تنفي مصطلح (غير المسلمين أو ديار الحرب) لأنه بموجب تلك العالمية لابد أن نفترض أن دار الإسلام هي العالم أجمع، ويترتب على هذا القول : إن أمام المسلمين مرحلتين، الأولى هي توحيد الأمة في دولة خلافة يحكمها قانون ونظام عام واحد وقبلة واحدة، تليها مرحلة ثانية هي توحيد باقي العالم حول القبلة الواحدة وتحت راية واحدة ليحكمه خليفة واحد، وفي مثل هذه الدولة العالمية يجب أن يطبق مجلس الأمن الشريعة الإسلامية، وأن يحل أهل الحل والعقد محل هيئة الأمم المتحدة، وأن يحل الأزهر الشريف محل يونسكو، وان يحل فقه الجهاد محل اتفاقات جينيف، وأن يحل بنك فيصل الإسلامي محل البنك الدولي، وأن يسمى العالم بالقرية الإسلامية بدلاً من القرية الكونية.
إن كلاماً مثل ذلك لابد ان يترتب عليه كلاماً مثل هذا، وهو أقرب إلى العبث الكاريكاتوري منه إلى الحق والمنطق. وبينما يرى دكتور العلوم السياسية وأضرابه أننا نتعرض لغزو ثقافي غربي ويطالبونا بالوعي لرده وردعه، يرى مواطنون آخرون صادقوا الإيمان بدينهم وبوطنهم وبالتقدم والحداثة، أن الإتصال بالغرب المتقدم هو ضروري وحتمي إذا أردنا البقاء، ويجب أن نسعى لهذا الإتصال والتواصل وأن نعمقه، لأن هذا الغرب المكروه هو مصدر العلم والتكنولوجيا والكشوف والاختراع والإبداع، هو قلب العالم وعقله وعضلاته، هو التقدم والحداثة باختصار، هو السبيل إلى بقائنا في الوجود إن أردنا البقاء، فليعملوا بمبدأ : ومن نكد الدنيا على الحر عدو ما من صداقته بد، وحتى لو فكرنا بعقلية سلفية، فإنه ما لم نعزز اتصالنا بالغرب فمن أين سيأتي إنتحاريونا بالمتفجرات لصنع المفخخات لنقتل بعضنا بعضا لخلاف ديني ومذهبي وعرقي؟ ونستورد من هذا الغرب كل علوم الطب وأجهزته الإلكترونية، دون أن نتمكن نحن من اكتشاف سر الشفاء في بول الناقة ولا المادة الفعالة فيه.
إن القول بأن دولنا المستقلة اليوم تحكمها حكومات تابعة للغرب، لا يرى أن من اكتشف لنا بترولنا في صحراوتنا القواحل هو الغرب، وان ما بأيدينا من أدوات الحضارة جاءنا من عندهم، بل ان تجديد وحفظ مقدسنا وإعادة طبعه ونشره كان بفضل هذا الغرب. ومع إدراك بعض مشايخنا لهذا المعنى قاموا يربطون مقدسنا بتلك الحضارة فيما يعرف بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وهو كله ما يعنى أنه بدون التواصل والإتصال مع الغرب ما كنا سنحافظ على مقدسنا بشكل لائق، ولا كنا سنعرف المعاني العلمية الحقيقية لقرآننا وسنتنا، ولاستحال علينا أداء فريضة الحج إلى مكة القديمة العتيقة الضيقة ذات المنشأ القبلي الخيموي الذي لا يعرف معماراً، فالغرب هو من علمنا كيف نعمرها وأمدنا بالكريستال السويسري والرخام الإيطالي وما صحبة من هندسات كفرية، لتوسعة ديارنا المقدسة، وكذلك عرفنا مواقيت الصلاة والصيام بدقة أينما كنا، وأصبح بإمكان المسلم أن يحمل مؤذناً خاصة بجيبه في برنامج تليفونه، وأن يجد البوصلة الخاصة بتحديد القبلة مدمجة بسجادة الصلاة التي صنعتها له اليابان الشنتوية والصين الشيوعية والبوذية والكنفوشيوسية وبقية البلاد الطاغوتية، فيسر لنا تقدم العلم عندهم طرق تعبدنا وتواصلنا مع إسلامنا ومقدساتنا.
elqemany@yahoo.com
الوطن والمواطنة عند الإسلاميين (2 من 4)
يتلقى الكاتب المكالمات التليفونية من الخامسة مساء إلى السابعة مساء بتوقيت القاهرة على تليفون رقم 0020189914505 عدا يومي الخميس والجمعة
الوطن والمواطنة عند الإسلاميين (3 إلى 4)
سلمت لنا دوما أستاذنا العزيز،وسلم لنا قلمك الحر وشكرا على هذا المقال الرائع
سمير راغب
الوطن والمواطنة عند الإسلاميين (3 إلى 4)
الأستاذ القمني يضع النقاط على الحروف ولا أظنّ أن الاسلاميين يفهمون الاسلام أفضل منه. بالعكس. فهو في هذه المقالات يعيد الأعتبار للأسلام كدين، كعلاقة عبادة بين المسلم والله. بحيث ان العلاقة لا تتجاوز حدودها وتهيمن على مساحة السياسة والعلم والآخرين.
الدين علاقة فردية واعتقاد، وليس نظريات اقتصاد وفكر سياسي. والمواطنة مشروع يصنعه التاريخ كما يصنع الأنسان تاريخه. ولا يمكن ان يحلم العرب بالديمقراطية أذا لا يضعوا لدينهم الاسلامي حدوده ضمن نظام علماني حر يمنح للدين حريته كعبادة وليس ايديولوجيا، ويمنح مفكريه من أعادة تفسيره وتأويله وتنقيته من شطحات الاسلاميين وشموليتهم..