رغم وضوح التاريخ إلى حد الصدمة أحياناً، فإن الصدمات لا تفيق أهلنا الراغبين في استعادة الخلافة المقبورة، وهم بسبيل ذلك يفعلون بالضبط فعل الإسلام (ق 7 م ) في جزيرة كانت مفككة إلى قبائل عربية متصارعة منذ سبعة عشر قرنا، يفعلون ذات الفعل ولكن في دولة معاصرة وقائمة من ألوف السنين / مصر مثلا، هم يريدون إقامة المجتمع المسلم القبلي الأول كما كان في جزيرته، قبل إقامة الدولة الإسلامية، كما هو في ترتيب أهداف الإخوان المسلمين في مختلف وثائقهم.
إنهم حتى يقيمون دولة عليهم إن ينفوا أولاً وجود المجتمع المناسب لهذه الدولة اليوم. لهذا يجب إعادة خلق هذا المجتمع الأول المطلوب مرة أخرى. إنهم يكفرون كل المجتمع بداية وبداهة مسلم بها، مع بديهية أخرى هي أنهم وحدهم المسلمون، ليأخذوا هم دور الهداة لدينهم الجديد الذي يطلقون عليه اسم الإسلام، رغم أن هذا الإسلام موجود في الواقع في مجتمع مسلم. لكن العقل البدوي يبدأ بالمجتمع أولاً، والحل هو سلخ جزء من هذا المجتمع وإدخاله في الإسلام أو بالأحرى في الدين الجديد المستتر بالإسلام القديم، بدليل ما لحق الإسلام في الوهابية من متغيرات كبرى حتى بات ديناً غير الدين الذي عرفه المسلمون منذ أربعة عشر قرناً.
وبعد سلخ مجتمع الدين الجديد من مجتمع الدين القائم يعود المجتمع الجديد لفتح المجتمع القديم/ كما سبق وفتح المجتمع المدني اليثربي المجتمع العربي والمكي كله/ من أجل حكمة والسيطرة علية، عبر كل الوسائل الممكنة ولو بوسائل مكروهة وطاغوتية معاصرة كفرية المنشأ بما فيها الانتخابات كأداة سياسية معاصرة فعالة، وحينها يمكن إقامة الدولة الإسلامية. ومن بعدها تخوض الحروب وتلغ في الدماء لتقيم الخلافة.
إن البشرية تسير نحو المستقبل فتنتج الكهرباء وما ترتب عليها من اختراعات بالملايين، وتجوب الفضاء وتلعب بأسس الحياة الجينية، ونريد أن نعود نحن لعصر اكتشاف النار، البشرية أنتجت أجهزة الراحة والمتعة والمساعدة على الإنجاز والتشريعات الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمن وحقوق الإنسان ومحكمة جنيف، والكمبيوتر وعالم النت الوهمي الواقعي بخلق بشرى إعجازي، ونحن نطلب عودة عصر الإمبراطوريات، في جنوح ذهاني واضح يشير إلى خلل عميق أصاب العقل المسلم.
فإذا كانوا يؤكدون طول الوقت إن الإسلام لم يتم فرضه عنوة ولا بالعنف ولا بالسيف، فكيف يفرضون دولته بالعنف والحروب، فوفق هذا تكون الدولة التي قامت عنوة على يد أبي بكر الصديق، (ووفق التسليم بمقدمة قيام الإسلام بقوته الإقناعية وليس بالسيف)، لا يصح إن تكون دولة الإسلام لأنها قامت على السيف، كذلك لا يمكن القول بأن إمبراطورية العرب التي قامت بالحرب والغزو إمبراطورية الإسلام الذي لا يعرف العنف ولا ينتشر بالسيف ولا يفرض نفسه على الناس بالإرغام والإجبار.
إن الدولة التي يصح وصفها بالإسلامية أو الدينية هي التي قامت في عهد صاحب الدعوة، حيث اتحدت السلطات زمنية ودينية في شخص الحاكم، على نحو الدولة المسيحية في العصور الوسطى، وعلى نحو دولة النبي (ص) الذي جمع بيده كل السلطات صغيرة كانت أو كبيرة مدنية كانت أم دينية، هذا مع التجاوز في وصفها بالدولة، لأنها بالأحرى كانت تجمعاً قبلياً رئاسياً. ترأس فيه قبيلة بعينها بقية القبائل وتؤلف بينها تحت راية العقيدة الإسلامية.
زمن محمد علي استقلت مصر الحديثة عن الخلافة وأبقت على العلاقة معها رمزياً وإسمياً، وشكلت دولة بالمفهوم المعاصر الغربي الحديث، فلم يضعف شأنها بل تمكنت من تكوين قوة دفعتها لاحتلال محيطها رغم أنها ترتبط مع هذا المحيط برابطة الدين، فقامت باحتلال السودان وقمع المهدية، وقمعت الوهابية في جزيرة العرب، ثم تحولت إلى احتلال ممتلكات الإمبراطورية العثمانية حتى دخلت بلاد العثمانيين (تركيا)، ولولا تحالف دول الغرب ضد مصر في موقعة نفارين بالجزر اليونانية حفاظاً من الغرب على تركيا، وإعادة محمد علي إلى حدوده داخل مصر، لالتهم محمد علي تركيا وربما ما هو أبعد من تركيا. وتم هذا كله خلال عشر سنوات فقط عندما استقلت مصر عن الخلافة، وهو ما يؤدي إلى نتيجة واضحة لا ينتطح بشأنها عنزتان وهي أن الخلافة كانت هي سر تخلف مصر، وبعدما عادت مصر حرة مستقلة في شكل دولة وطنية حديثة جاءت نكسة استيلاء غفر يوليو على السلطة الذين كانوا جميعا أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين، لم يفعل الحكام الوطنيون بحكم مرجعيتهم الدينية فعل محمد علي بالإتجاه نحو أوروبا وكما نصح طه حسين العميد العبقري، إنما اتجهوا نحو نوع من الخلافة الجديدة، كل منهم يعين نفسه خليفة أو تعينه الظروف ويعطيه شعبة البيعة، عندها إنهار الشأن المصري والعربي كله إلى ما وصل إليه اليوم من وضع مهين.
الملحوظة المهمة بهذا السياق هو أن غياب الخلافة لم يؤد إلى غياب الإسلام ولا إلى تراجعه، ففي قرننا الحادي والعشرين حيث لا إمبراطوريات ولا خليفة في أي مكان ولا أهل حل وعقد ولا والي ولا محتسب ولا جزية، ومع ذلك فالإسلام قائم على قوائم صلبة وعلى خير وجه، والمسلمون الركع السجود تجاوزوا المليار، وهو ما كان يخطر لصاحب الدعوة نفسه ولا للفاتحين الأوائل، ناهيك عن كون هؤلاء المسلمين أمسوا يعرفوا كل شئون دينهم بدقائق تفاصيله عبر أجهزة الإعلام وسيطرة الفكر الديني على كل شئون حياتنا، بينما لم يكن يعلم خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص وهم يفتحون بلادنا من دينهم سوى بضع آيات يستخدمونها في أداء طقوس الصلاة، مع مجموعة شديدة البساطة من الأوامر والنواهي.
وبعد سقوط الخلافة تزايد عدد المسلمين بالداخلين فيه قادمين من أديان أخرى دون فتح ولا غزو ولا غنم ولا سبي ولا ذبح ولا سلخ. إن غياب الخلافة لم يؤثر على ديننا بل كان غيابها هو الفعل الموجب العظيم لصالح الإسلام الحنيف.
وربما كان أهم ما بقى من إنجازات محمد علي هو ما بقى منه وهو استقلال مصر كدولة معاصرة عن الخلافة ونظمها، وظلت مصر دولة لها نظمها وجهازها الهرمي التراتبي الإداري، ماكينة تدور على محور وروابط الوطن والمواطنة، حتى بدأت المباراة بين الجماعات المتأسلمة وبين الحكام الوطنيين على من يتمكن منهم إثبات وضعة للدين في ذروة الروابط الاجتماعية المصرية، نعم لازالت الماكينة تدور، ولكن بناقص 12 مليون مواطن مسيحي، ومليون مواطن ملل ونحل أخرى، تدور لكن إلى الخلف، ومثل هذا العبث لا يلحق الضرر بالدولة وحدها إنما هو يلحق الهوان بمجتمع بكامله. ولو ظل الدين والمذهب فوق سلم الروابط فستتحول العراق إلى مجموعة دول، وتنقسم الجزائر إلى دولتين أمازيغية وعربية، ومصر إلى ثلاث دول نوبية وقبطية وعربية .. وهكذا.
بينما عندما يكون أعلى الروابط هو جغرافيا الوطن وحدوده ووحدة هذا التراب وعشقه والإيمان به فوق كل معبود ومقدس، عندما يكون الوطن محراب قدسنا الذي نمارس فيه حب الوطن والجماعة، لن يكون هناك مجرد هاجس أو شاغل بتفكك الأمة المصرية أو غيرها لجماعاتها الأولية كما هو الحال عندما نضع الدين على سلم الأولويات الرابطة للمجتمع، ولأن الدين لم يكن هو الذي وحد تلك الدول القديمة العريقة في الحضارة تحت حكم الخلافة الإسلامية، إنما هو الطموح السياسي والمادي في الاحتلال والسلب والنهب وممارسة كل أنواع الظلم. وهو الأمر الذي لا يستمر أبداً، لأن الإمبراطوريات هي توحيد قسري لأوطان تاريخية لها نظامها المجتمعي والاقتصادي وشكلها الجغرافي وحدودها، لذلك ما تفككت إمبراطورية في التاريخ إلا لتعود الأوطان لشكلها الأول، وما قامت إمبراطورية إلا وتفككت لأنها قامت على القهر والشوكة والغلبة، ولم يشغلها ربط المجتمع ببعضه بقدر ما شغلها استعباد الروح والضمير في طاعة مطلقة بتحجبها وراء الدين، فعندما ينفرط رابط الإمبراطورية التي قامت على القهر تعود الحدود إلى أصلها بمجتمعها وخصائصه وشخصيته، فهي عودة الشيء إلى أصله، بل أن الإمبراطورية الإسلامية ذاتها كانت تضع ولاتها في الأقاليم حسب تقسيم هذه الأقاليم التاريخي الجغرافي الأول قبل فتحها. وهو الأمر الذي لم يشر إليه الدكتور من قريب أو بعيد، كما لو كنا قد وجدنا وخلقنا دولاً وبشراً من بدء الخليقة ونحن جزء مدمج غير محدد بل على المشاع في دولة الخلافة، وهو ما أباح له أن يلقي بتصريحه الثقيل، وهو أن دولنا المستقلة الحالية هي ولادات قيصرية قسرية مشوهة. فكأننا، قبل الخلافة، لم نكن أبداً!! ولم نوجد أبداً.
إن الدين الإسلامي حمل في داخله مبررات تفكك إمبراطورية، فقد انطبع الإسلام بجغرافية منشأة في جزيرة العرب، حيث الصحراء لا تعطي الحد الأدنى للحياة. ويعيش العرب حياة بدائية أقرب إلى الإنسان الأول منة إلى الإنسان صانع الحضارات، في شكل قبائل متحركة دوماً وراء الكلأ والعشب وعيون أو برك ومستنقعات الماء بالأحرى، حيث أي شيء يتحرك قابل للأكل في بيئة شحيحة ضنينة، بيئة لا تعرف ما هو الوطن ولا يكلفها أحد فوق طاقتها مما لا تعلم أصلاً، فالقبيلة المتحركة ليس لها وطن وإنما وطنها مستبطن داخلها وهو ما يسمى بالحمى، وهو شيء معنوي يربط أفراد القبيلة بعضهم بعضا بشكل متين، وعادة ما كان الحمى رمزاً لسلف القبيلة البعيد الذي تم تأهيله كرب خاص بالقبيلة يتحرك معها أينما تحركت، ومع حركة القبائل عالة على الطبيعة تبحث عن طعام أو ماء جاهز، فإنها تدخل في صراع صفري مع القبائل الأخرى يكون حتماً نهاية أحد الطرفين إما بالإبادة التامة والاستيلاء على ما يملك، أو استسلام طرف لآخر ليدخلوا عبيداً في مجتمع القبيلة المنتصرة. لذلك كان النسب هو الحمى الظاهر الملموس المسموع، لذلك حرص العرب ولازالوا على عدم اختلاط الأنساب حتى بين العرب فهم قبائل تعتز كل منها بنسبها فهو عزها وفخرها وشرفها، يتحرك معها يحميها من غوائل الطبيعة أو القبائل الأخرى لأنه الحمى. لذلك عندما جاء الإسلام لم ينشغل بالمرة بشيء اسمه الدولة الوطن لأنه لم يكن في مجتمع يعرف بعد معنى كلمة دولة، بينما ركز اهتمامه على أحوال المسلم الشتى من كبيرها كوضع الرجل والمرأة إلى صغيرها كالنظافة الشخصية في أدق تفاصيلها كنظافة المؤخرة بعد التبرز وكيف تكون، وليس هناك شيء عن الدولة ولا الدستور ولا مؤسسات الدولة، لذلك وحتى في ظل دولة الخلافة من بعد، كان العربي يقدم نسبه وقبيلته وأسرته وعشيرته على أي أرض كانت.
ورغم حضور الثقافة البدوية العربية مع الفتوح تركب الإسلام إلى دول الحضارات المجاورة، وأحياناً فرض هذه الثقافة بفرض اللغة التي تحملها مع إبادة اللغات المحلية المحلية لتضيع معها ثقافات تلك المواطن ولا يبقي لها سوى الثقافة العربية وحدها، رغم ذلك فإن رابط الجغرافيا كثيراً ما كان يجد لنفسه وسيلة يثبت بها وجوده، حفاظاً على المجتمع من التفكك والتشظي، لأنه الرابط الذي يجمع الأديان واللغات والعادات والأجناس والمسيحي والشيعي والسني.
والوطن لا يقوم ولا يحدث بقرار، فقد تنازل المصريون مكرهين عن معظم روابط المواطنة الباقية من زمن كانوا دولة حرة قوية، وتصارعوا في شأن الدين لكنهم لم يتصارعوا أبداً على المصرية، فالقبطي والمسلم والنوبي والبهائي والشيعي والسني والأرثوذكسي والإنجيلي ومن بقى بها من يهود، كل منهم يتمسك بهذه المصرية، فإذا قدمنا الدين على سلم الروابط خاصة مع دين كالإسلام الذي ظهر في بيئة بدوية مفككة، نكون قد قمنا ببدونة المجتمع وأعدناه إلى المنطق القبلي، نكون قد زرعنا فيه بذور التفكيك لا التجمع أو الجماعية التي يركز عليها الدكتور سيف الدين عبد الفتاح كل التركيز كحل خلاصي. فيترك الشاب المتفوق علمه وحاجة وطنه إليه ليذهب متخفياً لينتحر في العراق عند باب كنيسة أو حسينية من أجل ما قالوا له أنه قبيلته الصحيحة ونسبة المتين وأهلة الحقيقيين الذين سيعيش معهم في الأبدية الفردوسية، أو لينتحر في البوسنة أو الشيشان أو كشمير أو أفغانستان عند بقية أفخاذ القبيلة المتشظية، وهي كلها ليست وطناً بأي معنى من المعاني، إنه يموت من أجل القبيلة، وحمى القبيلة ورمز القبيلة ونسب القبيلة ذلك النسب الذي كان ربها وحاميها. إنه ينتحر من أجل المعنوي الذي بدأ نسباً وحمى ورباً قبلياً، وفي الإسلام أصبح رباً للمسلمين والعالمين، معنى لا علاقة له بأرض ولا بتاريخ ولا بلغة، له معنى يرتبط بقبيلة المسلمين الكبرى في أي صقع كان وفي أي بلاد تعيش.
مرة أخرى أعود فأؤكد أن عامل المصلحة والمنفعة هو الذي يقف وراء ترشيح رابطة بعينة ليكون أعلى الروابط الاجتماعية، ولنضرب لذلك مثلاً واضحاً قائماً فاعلاً هو الوهابية في العربية السعودية، حيث نجد ظاهرة غريبة وجديدة في تاريخ المذاهب الإسلامية إذ لا يضع المذهب الوهابي نفسه على طاولة مستديرة تضم كل المذاهب الإسلامية كما هو واقع الحال مع كل المذاهب على قدم المساواة ولا يقبل حتى بطاولة مستطيلة يجلس هو على رأسها، إنما هو يصنع لنفسه طاولة خاصة يعطيها رتبة تعلو فوق اتحاد روابط المجتمع كلها بما فيها الإسلام نفسه، لا يجلس عليها أحد غيره.
ابتدع ابن عبد الوهاب مذهباً ينكر غيره من مذاهب ولا يعتبرها في رتبته أبداً، ثم جعل لنفسه مجموعة خاصة دون بقية المسلمين هي فقط الفرقة الناجية والمسلمون الصحاح الباقون على الدين الإسلامي الصحيح، وغيرهم كافر. ثم انفصل بجماعته عن بقية المجتمع، وهو نفس ما تقوم به جماعة الإخوان المسلمين عندما تسلخ عن المجتمع الأم مجتمعاً خاصاً بها يعلو فوق المجتمع الأم. لم يعجبهم الإسلام على حاله فخرجوا على الجماعة المسلمة، وما كانت حملة إبراهيم باشا ابن محمد علي التي جردها على الوهابيين بجزيرة العرب حتى أسقط عاصمتها الدرعية، إلا مطبقة لشرع الله ضد الخارجين على جماعة المسلمين، ثم عادت الوهابية بعد عودة الجيوش المصرية لبلادها، بالتحالف مع ابن سعود لتصعد مرة أخرى، لأن الإسلام على حاله لم يحقق لهم المنافع كما ينبغي، فاخترعوا لهم مذهباً يحقق لهم ما يريدون وأعلنوا أن هذه هو الإسلام الصحيح وما عداه باطل الأباطيل وقبض الريح.
ما فعله المذهب الوهابي مع المسلمين أنه تركهم بإسلامهم غير الصحيح وقام يصوغ لنفسه ديناً جديداً، فالدين وحده هو ما يمكنه أن يقصي بقية الأديان ويعتبر أتباعها كفاراً لأنهم لا يؤمنون به، أما المذهب فيجلس على الطاولة المستديرة للدين الواحد مثله مثل بقية االمذاهب، قد يتشاحنون، قد يقتتلون أحياناً، لكنهم جميعاً لا يبارحون طاولة الإسلام المستديرة، بينما اعتبر الوهابيون أن مذهبهم هو وحده كل الإسلام وهو وحده الإسلام الصحيح مما يعني أن غيرها غير ذلك. وهكذا عندما لم يتمكن ابن عبد الوهاب بالإسلام الموجود لدى الجميع من تحقيق أغراضه، انقلب عليه من الداخل وسلخ منه، واقتطع جزءاً من المجتمع جعلهم سادة جدد للمجتمع لأنهم الأتباع للدين الجديد الذي مهمته هي السيادة وإصلاح شأن المسلمين بإدخالهم جميعاً حظيرته، فيظهر المذهب كالثقب الأسود ليلتهم من بعد كل ما حوله بما فيه الدين الأم.
إذن فالرابطة الإسلامية التي يصر عليها الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بطول موضوعة كرابطة أساس تليق بثقافتنا وهي الكفيلة بتقدمنا، كانت على عكس ما يراه الدكتور ويريد منا الإيمان به والمنافحة عنه بما قدم مما رآه براهين على وجهة نظره، كانت سبباً في تخلف وجهل وفقر ومرض عم الإمبراطورية كلها.
واللطيف في المسألة أن دكتورنا لا يلتفت إلي أن الرابطة الإسلامية لم تكن هي التي أقامت إمبراطورية الخلافة، لأن الناس في البلاد المفتوحة ظلوا على أديانهم وفضلوا دفع الجزية إلى ما يزيد عن قرنين من الزمان، وظل باق منهم نسب كبيرة من السكان حتى اليوم، مما يعني أن سكان الإمبراطورية كان تسعون بالمائة منهم من غير المسلمين حتى زمن العباسيين، وظل هذا الرقم يتناقص ببطء، ومن ثم لم يكن الدين هنا عاملاً في قيام الإمبراطورية إلا بأوامره بالغزو والفتح لنشر دين الله، ولعودة منافع الغزو على العرب فيئا ومغانم وسبايا وعبيد. ظل السكان قروناً طويلة يقاومون الأسلمة، لأن جماعتهم تشكلت قبل ظهور الإسلام بقرون متطاولة في عمق التاريخ الإنساني القديم، لأن الجماعة البشرية في المفهوم الإنساني وليس الإسلامي هي الأسبق في الوجود من الأديان السماوية الثلاث، وكان كل رسول تبعث به السماء إلى جماعته أو أمته خاصة إلا محمداً الذي بعث للبشرية كافة. إذن حيث لا توجد جماعة لا يوجد أنبياء ولا مرسلين لأن مقصد الرسل هو الإنسان وليس الجبال ولا الأرض ولا حتى السماء نفسها.
إنهم يقيمون نظرتهم إلى المواطن الإسلامية حيثما يقيم المسلمون، حتى لو أقام مسلم واحد في بلد أصبح هذا بلداً إسلامياً، وهوشأن لا يعلنونه لأنه سيكون مرفوضاً من كل العالم على إجماع.
***
والدكتور سيف، وهو( أستاذ علم السياسة بجامعة القاهرة ومسؤول عن عقول أبنائنا) إذ يرشح نظام الخلافة الإسلامية كنظام أو حد يناسبنا وكفيل بحل كل مشاكلنا، لا يلتفت إلى أن الإمبراطوريات لا تنشأ بالدعوة وبالكتابة في إسلام أو ن لاين ولا برغبة الدكتور، وإنما تقوم على الغلبة ووسيلتها الأولى والأخيرة تقوم علي القوة المسلحة. فالشعوب لا تخضعها القناعات والحوارات، فمن أراد إحياء الخلافة فعليه أن يفعل كما فعل بنو أمية بالقهر والغلبة وحد السيف، فلا يعرف التاريخ أن شعباً خضع لشعب بغير السيف. وحديثه عن الدول شبه المستقلة التي كانت في كنف دولة الخلافة باسم (الكيانات) تحقيراً وتصغيراً، رغم أنهم هم من أبدع أي شيء ينسبه العرب اليوم لمكتشفاتهم ومعارفهم. لم يكن للعرب في هذا الإبداع شيء يمكن وضعه في نسبة وتناسب مع ما أنتجه غير العرب. كانوا كلهم على الجملة مع استثناءات تعد على أقل من أصابع اليد الواحدة، فارسيون أو مصريون أو عراقيون أو شوام أو مغاربة، واخترع الفارسيون لأنفسهم مذهباً يستقلون به عن العرب وإسلامهم، فتشيعوا من باب الإحتفاظ بالهوية والتي دعموها بالحفاظ على لغتهم. وعندما كان الدين هو أو ل الروابط، كان كل من يريد الانفصال يعمل لنفسه ديناً جديداً باسم مذهبي جديد، لأن الرابط الوطني قد تم تذويبه تحت سلطان الخلافة، فانقسمت شتاتاً، ومع كل اختلاف يعملوا فرقة جديدة بمذهب جديد وهكذا دواليك. والسبب الرئيسي لهذه الانشقاقات هو وضع الخلافة للدين الإسلامي كأول رابط في سلم الروابط الإجتماعية، فعما بن عبد الوهاب وهابية وانفصل، وغيرة عمل شيعة وانفصل، وغيرة عمل إخوان مسلمين واستولى على السلطة وانفصل، عمل قاعدة وأنفصل عن العالم كله بما فيه المسلمين بأفغانستان. المهم أن التاريخ يؤكد لنا أن الصدام كان حتمياً بين هذه الفرق، لأن هذه الفرق لم تكن أكرم من صحابة النبي الذين سبق وتصارعوا على الدنيا باستخدام الدين. وهنا لابد أن يقفز السؤال: أي مذهب سيكون مذهب الخلافة؟ وماذا سيكون مصير سائر المذاهب؟ وهل عندما تستقل دولة مسلمة بأرضها بمذهب مخالف لمذهب الخلافة كالصوفية مثلا، هل سيكونون كفاراً مارقين، وماذا عن الرافضة؟ أم ستحتويهم تعددية الدكتور سيف داخل خلافة المذهب السني وحده، والذي تبلور جميعه اليوم في المذهب الوهابي وحده، في مختلف أصقاع بلاد المسلمين وحواضرهم.
وإعمالا لهذا كله نصل إلى نتيجة هي أن إنزال الدين من على قمة سلم الروابط الاجتماعية هو تكريم له وتنزيه له ورفع يد العبث عنه، وجعله بمنأى عن الاستخدام الانتهازي في صراع يضر بالمسلمين وبدينهم، لقد أنزلت السيدة عائشة زوج النبي الدين من درجته الأولى كرابط اجتماعي عندما حرضت على عثمان وعندما شقت عصى الطاعة على الخليفة الشرعي، فلماذا لا نتأسى بها؟ لقد انزل الصحابة بقيادة محمد ابن أبي بكر الدين من على سلم أوليات سلم الروابط وقاموا بثورتهم ضد خليفة ديكتاتور، لقد أنزل علي بن أبي طالب الدين من علم قمته عندما حارب السيدة عائشة بل وأمر رجاله بعقر جملها وهي فوقه في هودجها، من أجل سلامة بقية المؤمنين. فهلا تأسينا بهؤلاء الصحابة الكرام؟
الملحوظة الهامة في كلام الدكتور سيف أنه يخلط بين معنيين لا يختلطان؛ فهو يكرر الخلط بين مفهومي الدولة والأمة التي هي جماعة المجتمع، كما في قوله مثلاً أن الدولة العثمانية حققت جامعية الأمة، أو كما يقول إن مفهوم الدولة القومية قد انعكس سلباً على مفهوم الأمة الإسلامية. وهو ما يتطلب التساؤل حول قيمة الدرجات العلمية في بلادنا مع الاستفسار الساذج: توجد في فرنسا الآن جالية مسلمة، فهل هي جماعة مستقلة أم طائفة ضمن دولة؟ إن الدولة تشمل عدة جماعات منها الأسرة والعائلة الكبيرة والمسلم والمسيحي واليهودي أو صاحب أي دين آخر أو بدون وكذلك الأسود والأبيض، وتشكل هذه الجماعات الأمة، والمجتمع بهذا المعنى هو من يشكل نفسه بمجموع هذه الوحدات ليصبح وحدة سياسية كبرى هي الدولة، ثم وحدة سياسية أكبر هي الإمبراطورية التي تشكلها القوة العسكرية قبل أي عامل آخر. أما الدولة فإنها تقام عن قصد وغرض وتخطيط إن سلماً أو حرباً، لتوحيد الجماعات المتقاربة بروابط متفق عليها في منظومة سياسية مركزية، يكون سبب ما بين جماعتها من تماسك حتى ولو بالحرب، هو الجغرافيا الجامعة لهم.
والدين الإسلامي عندما وصل كانت الجماعات موجودة من الأصل في جزيرة العرب، ولم تكن لهم دولة توحدهم بينما كان في الجوار منهم دول أعلام يزورونها ويتاجرون معها ويعرفون بأمرها، كان العرب موجودين كمجتمع قائم، فأقام لهم الإسلام دولة عن قصد وتخطيط، أو بالأحرى شبه دولة. الأمة تستمر في الزمن لأنها تتكون من جماعات تشكل مجتمعاً لا يموت ولا يستحدث من عدم ولا يتم صنعه، فالإسلام لم يخلق المجتمع لأن المجتمع كان موجوداً، كل ما حدث أن الإسلام جاء فبدل في وضع الروابط الاجتماعية على سلمها، وجعل من نفسه الرابطة الأولى المفترض إن تكون على سلم اهتمامات المسلم.
وحتى اليوم تجد الأمة المصرية هي هي من زمن مينا، تغيرت لغتها ودينها وظلت مصرية، فالمجتمع يحتفظ بتلقائيته بحد أدنى من الروابط حتى يمكنه الاستمرار في الوجود عبر متغيرات الزمان، العيد الوحيد الذي يشارك فيه كل المجتمع بكافة طوائفه وفرقه ودياناته ومذاهبه هو “شم النسيم” الذي يعود للعصور الفرعونية. وهو احتفال عريق ببداية الحياة على الأرض، كذلك استبقى المصري ألفاظاً مصرية تصل في بعض الأماكن كالفيوم والصعيد وسيوة وغيرها إلى نسبة 20 % في المعجم العامي المصري، كذلك احتفظ المصري بقواعد النحو القديمة وطبقها على اللغة العربية فأصبح للعامية المصرية نحوها الخاص بها، وعادة ما يكتفي المصري بزوجة واحدة كما كان يفعل أسلافه، ولا تتزوج الأرملة المصرية عادة، بينما تزوج النبي محمد (ص) ما ينوف على عشر ثيبات معظمهن أرامل، حتى التقاليد المعتادة ظلت منذ العصور الفرعونية حتى اليوم.
بينما مهدي عاكف زعيم الإخوان يقول: “طز في مصر وأبو مصر واللي في مصر”، ولا يعيبه، بل هو يفخر بأن يحكمه ماليزي عن أن يحكمه مصري غير مسلم. لقد ضاع الوطن والمواطنة وأصبحوا على استعداد لتسليمه لأي أجنبي شرط أن يكون مسلماً على أن يحكم الوطن مصري غير مسلم؟!
لقد حكموا على طلعت السادات لأنه أهان القوات المسلحة المصرية بسنة سجن، ومن أهان مصر كلها لم تتم محاكمته حتى الآن .. لعل المانع خير يا حكومة؟! ألا يوجد في مصر كلها محام واحد محترم يرفع قضية على هذا الرجل كما يرفعون القضايا على المفكرين والكتاب.
مصر زمن محمد علي كانت قد تأكدت وتيقنت ان رابطة الدين أدت إلى تخلفها، فأعلت رابطة الوطن والمواطنة وأعطت الدين درجة ثالثة في سلم الرابطة الاجتماعية، لأنها رأت ذلك في مصلحتها. ومثلها اليوم دول الخليج أنشأوا ناديا للأغنياء لا علاقة له ببقية المسلمين، وتضع في ناديها هذا (مجلس التعاون) مصالحها الوطنية في المقدمة ولا تضع الدين رغم وجود السعودية حيث جغرافيا الإسلام وتاريخه، كأكبر الأعضاء في هذا النادي.
ثم ماذا لو رفضت دول الخليج الخلافة التي يدعونا إليها الدكتور سيف، والمؤكد أنها سوف ترفضها، بدليل أن ناديهم الخاص بهم للأغنياء فقط له عائد وثمار تعود عليهم فقط. فهل ستقبل السعودية مثلاً إن تخلط ميزانيتها بميزانية مصر المالية، ونحن مستعدون كمصريين أن نبايع جميعاً خليفة سعودي من عندهم. هل تقبل السعودية؟ أم هو كلام لا يثمر ولا ينتج يلقيه علينا الإسلاميون إلقاء دون أي قراءة لواقع اليوم على أرضه، من باب تجييش المجتمع تمهيداً لتفكيكه وانهياره بالكلية.
لو كان رابط الدين بهذه الأهمية التي تعطيه إياه الإخوان والدكتور سيف وكل الإسلاميين، ما حدثت حروب بين الصحابة الأكارم، لو كان الدين هو الأعلى في سلم الروابط ما حدث مجازر لحقت بآل البيت، ولا تطهير عرقي حملت بعدة ألف عذراء من بنات الصحابة في مدينة رسول الله، وما أحرق الصحابة الكعبة، لأنهم كانوا سيتفقون بالتمام والكمال على دينهم الذي لا خلاف حوله، فقد كانوا هم أجلة صحابة النبي ومنهم أهل بدر الذين غفر لهم الله ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، ومنهم العشرة المبشرين بالجنة، ومنهم أمهات المؤمنين، أي القمم الشوامخ لرجال ونساء الإسلام الأوائل الذين لن يجود بمثلهم الزمان مرة أخرى لارتباطهم بزمن النبوة ولا نبي بعدها، ولم تكن هناك مذاهب مفرقة قد ظهرت بعد، وكان الدين واحداُ وكان مفترضاً بحضورهم الزمن النبوي أن يكون تفسيره وفهمه عندهم جميعاً واحد، ومع ذلك قاتل كل منهم الآخر متخذاً من الإسلام الدين الكامل درعاً له ولمصالحة الدنيوية الزائلة.
إن المنفعة كانت هي الأعلى في سلم كل الاهتمامات، والمنفعة الدنيوية المادية المحض، والأكرم لهم القول أنهم حاربوا على الدنيا من أن نقول أنهم يؤمنون بدين واحد ويتحاربون به انتهازياً ونفعاً. كان الدين رابط فقط من باب الإعلان والترويج كشعار جذاب لجلب الزبائن لهذا الفريق أو ذاك.
أما البؤس الذي يعانيه الدكتور سيف وأقرانه من كل فرق التأسلم وتعازيهم المستمرة لسقوط الخلافة العثمانية، فهو ليس فقط غير مفهوم، بل أنه يشي أنهم على استعداد للتضحية بأي شيء حتى لو كان مستقبل الأوطان وخراب العمار ومزيد من التخلف وعودة الظلم والطغيان مقابل عودة الخلافة.
كل هذا ليس بحسبان الذين يألمون اليوم لسقوط هذه الخلافة البشعة بكل المقاييس، لا يشغله البشر المسلمين في كثير أو قليل. لقد جعل العثمانيون كل الإمبراطورية تدفع الجزية غير مسلمين ومسلمين.
يقول الدكتور حسين فوزي النجار في كتابه الإسلام والسياسة (دار المعارف ط 2) أن نظاماً بائساً نشأ مع بدايات الخلافة الإسلامية، حيث كان العرب الفاتحون بمنجاة عن الجباية ومظالمها، وهو ما دفع الشعب المصري إلى اللجوء للعرب فينزلون لهم عن أراضيهم طواعية، ليكفوا عن أنفسهم التعذيب، ولا يكون لهم طبقاً لهذا النظام إلا حصة الزراع في الغلة، وبتوالي السنين تصبح الأرض ملكاً للعربي الملجوء إليه. ويقول بن خلدون وابن الفقيه عن نظام الإلجاء : ” وقد بدأ الإلجاء في عهد الأمويين وامتد إلى أيام العباسيين، وأصبح ما يملكه رجال الدولة والأمراء أضعاف أضعاف ما يملكه عامة الشعب، بينما بلغ ضآلة ما يضرب منه للجباية أقل مما يجبى من الفلاحين المواطنين على قلة أراضيهم وفداحة ما يضرب عليها فتحول الناس إلى أقنان “.
ثم يقول لنا الدكتور سيف وبطانته إن الإستعمار الغربي أسقط خلافتنا العظمية وأنشأ في بلادنا احتلالاً استيطانياً، وهو ما يخص فلسطين وحدها فقط كما نعلم، لكن أليس الإلجاء في النهاية هو نظام احتلال استيطاني دفع الناس للتخلص من أرضهم لصالح الغازي الجابي الذي لا يرحم، والذي ظل لا يرحم ولا يعدل ففرض على ما بيد المواطنين من أرض ضئيلة تمسكوا بها، أضعاف أضعاف ما كان يؤخذ جباية من السادة العرب رغم أنهم حازوا معظم الأرض بنظام الإلجاء، في عملية طرد لأصحاب الأرض للإستيلاء عليها بمساندة القانون والشريعة. أم هو حلال للخليفة حرام على الاستعمار الغربي لأنة ليس مسلماً.
أليس ذلك سوء استغلال من السلطة الحاكمة القامعة الظالمة للدين الذي أتت به واستندت إليه لاستنزاف بلادنا. وهل شرع الإسلام للخلافة المقدسة بحق قدسيتها استغلال الشعوب واستيطان أراضيهم بعد طردهم منها. يقول بن الفقية على لسان الفضل بن يحي : ” أصبح الناس أربع طبقات، ملوك قدّمهم الاستحقاق، ووزراء فضلتهم الفطنة والرأي، وعُلْية أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء لكع ولكاع وربيطة إقناع همّ أحدهم طعامه ونومه “.
فهل هذا هو المجتمع الذي يدعونا إليه الدكتور سيف ويتمنى عودته في ظل خليفة مقدس؟ وفي أى طبقة ترى سيكون موضع الدكتور سيف، وهوبلا حسب عربي معروف ولا نسب قرشي ولا حتى يمني، وليس ابن الأكرمين من الصحابة، إنما هو مصري وضعه الطبيعي والشرعي القانوني بين الموالي، وستكون نساءه جميعاً تحت حق السبي في اى وقت تضعف فيه الخلافة، لتغزونا خلافة أخرى تطبق السبي والاستعباد والقتل، ألا يرى الدكتور وأقرانه إلى أين يذهبون بنا وبأنفسهم؟
ألا يرى الدكتور سيف غرائب التاريخ في بلادنا؟ ألا يرى أن أهل الجزيرة أنفسهم هم من ساعد بذراع طويلة في إسقاط الخلافة بالتحالف مع الإنجليز، مع وعد بتمليك العرب على كل ما يتم تحريره من الخلافة، فأصبح فيصل ملكاً في العراق والأمير حسين على مكة والحجاز ثم أعطوه بعدها الأردن. أليس من مدهشات التاريخ أن البلاد التي خرجت جيوشها لتقيم أو ل خلافة في القرن السادس الميلادي، هي ذات البلاد التي خرجت منها الجيوش في القرن العشرين لتدك عرش آخر خلافة وتقيم دولاً مستقلة. ولمزيد من الإدهاش يفاجئنا التاريخ أن من هدم تلك الخلافة هم من صلب جماعة المسلمين الأولى، فهم من نسل القرشيين الأشراف، هم كما في حال أشراف مكة الذين حكموا ملوكاً على دول مستقلة بعد إسقاطهم الخلافة، في العراق والأردن ومكة والحجاز. إن أصحاب الخلافة وأبناء الخلافة وصانعي الخلافة هم من دكوا الخلافة بحسابات المصالح للإستقلال عن الخلافة.
والملحوظ الواضح أن استقلال الدول الإسلامية عن التبعية لدول الخلافة لم يتسبب بأي ضرر للدين الإسلامي، لأن هذه الدول المستقلة هي التي حافظت على بقاء الإسلام ديناً قوياً متواجداً، يشهد على ذلك أزهر مصر وزيتونة تونس وقيروان المغرب ونجف العراق وقم إيران. ثم يشهد بأعلى الصوت رجال الأزهر ودكاترته الذين تم بعثهم إلى جزيرة العرب ليعلموا أهلها الإسلام ويعيدوا تثقيفهم به.
كانت الكسوة الشريفة تخرج من دار الكسوة المصرية بأبرع فن يدوي إسلامي من نوع خاص ونادر بين فنون العالم، وأوقاف الحرمين، والتكية، إنها مصر المستقلة التي تحب الإسلام لكنها أيضاً تحب الحرية، ومن الحرية أنها سترفض دفع الجزية مرة أخرى لدولة أخرى، ولن تأخذ الجزية من مواطنيها، إن مصر دولة قومية استقلت بعد سنوات طوال من موقعة مرج دابق التي هُزم فيها المصريون أمام العثمانيون، ولم تكن مرج دابق حرباً في سبيل الدين ولا غزواً في سبيل الله، لقد كانت استعماراً تركيا جاء يطلب عرقنا ويمتص دماءنا في شكل خراج وجزية.
elqemany@yahoo.com
لوطن والمواطنة عند الإسلاميين (1 من 4)
يتلقى الكاتب المكالمات التليفونية من الخامسة مساء إلى السابعة مساء بتوقيت القاهرة على تليفون رقم 0020189914505 عدا يومي الخميس والجمعة