الدكتور سيف الدين عبد الفتاح هو أحد رموز الرعيل المعاصر من الأصوليين المسلمين، وهو الجيل الذي انفتح على علوم العصر المتخصصة في ميادين السياسة والاقتصاد والحقوق والاجتماع، وهو الجيل الذي يقدم ما يراه فلسفة جديدة تستفيد من علوم العصر بقراءة المأثور الإسلامي العتيق بلسان الحداثة ومنطق المعاصرة وبلغة العلم ومفرداته.
والمتابع يعلم أن الدكتور سيف ليس وحيداً في هذه المساحة الجديدة التي يفرضها الفكر السلفي اليوم علي ساحة الثقافة العربية الإسلامية.
وضمن كتابات الدكتور سيف عمل هام بعنوان: الدولة في الفكر الإسلامي.. عواقب الدولة القومية..
وهو عمل ذو خصوصية رغم أنه يعبر بشكل نموذجي عن الخطاب السلفي المحدث؟!، وهو الخطاب الذي يفرض حضوره للمناقشة والتحليل لمعرفة طريقة هذا الخطاب ومنهجه وأسلوبه للترويج لمنتج عتيق بألفاظ مستمدة من العلوم الإنسانية المعاصرة خاصة علوم السياسة.
***
وتعود خصوصية هذا الموضوع إلي كون موضوعه (الدولة القومية) مسألة حاسمة وفاصلة في علاقة الأصوليين بالحداثة, وهل هم مع الحداثة أم ضدها، ثم أنها تصنع مشكلة تستعصي علي الحل بين الإسلاميين وبين أشد أنصارهم العروبيين لموقف الأصوليين الإسلاميين العريق الرافض لمبدأ المواطنة ووطنية البلاد، أي لفكرة الدولة القومية، التي هي حاصل جمع المجتمع والدولة والتاريخ والجغرافيا أرضاً وحدوداً، والإقتصاد وطبيعته المتوائمة مع جغرافيته وتاريخه، المنطبعة في عادات وتقاليد ونظم وقوانين هي مجموع ثقافته.
وهنا يقدم لنا الدكتور سيف رؤيته كإسلامي أصولي يعبر عن وجهه نظر أيديولوجية واسعة لمعنى الدولة من وجهة نظر الفكر الإسلامي، منتهياً إلى ما وضع بذرته في العنوان ببيان (العواقب) الوخيمة للانتصار لفكرة الدولة القومية كما نفهمها وكما يفهمها العالم كله.
سنقوم هنا بعرض ما كتب الدكتور سيف دون إغفال أي هام أو أي عنصر فسيفسائي أو مفصلي في تركيبته، لكن مع ترتيب ما كتب حتى يمكنا تناوله لنرى أي عواقب للدولة القومية بمعنى الوطن؟ وهل البديل الذي يطرحه علينا من وجهة نظر إسلامية يستحق منا التخلي عن الوطن والمواطنة؟
يقول الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أن واقع الدول العربية والإسلامية في ظل الخلافة الإسلامية قد عرف التعدد في الكيانات التي خضعت إسمياً ورمزياً للخلافة، وشكلت إمارات شبه مستقلة تبعاً للأجناس والأعراق أحياناً، وللمذاهب الدينية أحياناً أخرى. ويضع لهذا الشكل سؤالاً هو : هل كانت العلاقات بين هذه الإمارات علاقات داخلية داخل مجتمع واحد لكنه منقسم لدويلات بحكم أن بينها رابطاً جامعاً هو الإسلام؟ أم أن هذه العلاقات كانت خارجية لا تأخذ الدين في اعتبارها كعامل يربطها ببقية الدويلات؟ وهل أتى هذا الشكل من خلافة إسلامية واحدة، تخضع لها إمارات شبه مستقلة، بمعايير جديدة في العلاقات بينها بديلة لمعايير الشريعة الإسلامية التي تجمعهم كلهم على عقيدة واحدة.
ثم ينتقل د. سيف دون تقديم إجابات لهذه الأسئلة للدولة العثمانية التي حققت جامعية الأمة مع إتاحتها للتعدد داخلها حسبما يقول، فجمعت بقوة السلاح الإمارات الإسلامية في منظومتها الواحدة، بل وأضافت للدول الإسلامية تحت الخلافة بلاداً أخرى اقتطعتها من أوروبا. وبدورها سقطت الإمبراطورية العثمانية لأسباب خارجية تمثلت في تشكيل أوروبا جبهة موحدة ضد التحدي العثماني، ولأسباب داخلية نتيجة ما سمي بالثورة العربية (حسب تعبيره)، وهو ما أدى مع ظهور الحقبة الاستعمارية واحتلال أوروبا المباشر لبلاد الإمبراطورية العثمانية إلى ظهور علاقات جديدة, هي علاقات المستعمِر والمستعمر، السيد والتابع، ضمن ولادات قيصرية وقسرية لكيانات تم سلخها عن الإمبراطورية العثمانية، تتحرك ضمن علاقات جديدة شكلها شعار الاستعمار الأوروبي (فرق تسد)، وبنهاية الإستعمار القديم وظهور الإستعمار الجديد الذي عمل بنظرية (إرحل لتبقى) باستمرار العلاقات حميمة بين الدول المستقلة وبين مستعمرها السابق، وفي الوقت نفسه تفجير العلاقات بين الدولة الإسلامية المستقلة وبعضها البعض، إلى حد القتال كما في نزاعات الحدود ونزاعات المذاهب بينما غاب التعاون بين هذه الدول إلى حد بعيد، وهكذا نشأت وخلقت الدولة القومية في بلادنا بولادة قسرية قيصرية فجاءت مولوداً شائها لمجموعة دويلات تتعارك مع بعضها.
ثم يقارن بين قيام ونشوء الدولة القومية في بلاد الغرب الحر بما حدث عندنا فيقول: “إن الدولة القومية في الغرب كانت جامعة، بينما هي في العالم الإسلامي نتاج تفكيك كيانات أكبر، فخلقت ميراثاً من المشاكل، إن هذه المرحلة تميزت بالولادة القسرية الشائهة لما أسمى بالدولة القومية في دول العالم الإسلامي.. وحملت في طياتها عناصر تفكيك وهذا ما أريد لها، أكثر مما حملت عناصر جامعية.. إن ميراث الدولة القومية حافظ بشكل حاد ومتواتر على علاقات تسير صوب التفكك لا التكامل (السيادة، الحدود).. والإستمساك الضار بمعنى الدولة القومية.. إن مفهوم الدولة القومية تتعاطاها هذه الدول في مواجهة بعضها، وتتهاون بصدده حيال علاقتها بالعالم الخارجي خاصة الغربي، وهو ما لا يصب إلا في ضعف ووهن هذه الدول فرادي… وزيادة علاقتها التابعة. إن مفهوم الدولة القومية.. جامع في الخبرة الأوروبية.. مفكك في عالم المسلمين.. عبر علاقات غير متكافئة تصب في عافية الذات”.
ولمزيد من تأكيد عواقب الدولة القومية في بلاد المسلمين يشرح الدكتور سيف فيقول: “إن مفهوم الدولة القومية قد انعكس سلباً على مفهوم الأمة الإسلامية، وكذلك على مفهومنا التقليدي المتعارف عليه باسم (دار الإسلام). فقد أفرز مفهوم الدولة القومية تعدد لا هو انفصال بين دولة عباسية عاصمتها بغداد ودولة أموية في الأندلس، ولا هو تعدد التغلب والاستيلاء الذي أفرز كيانات وإمارات ارتبطت اسمياً بالخلافة العباسية، ولا هو التعدد الذي أفرزه النزاع على النفوذ في الحقبة الاستعمارية، لكنه التعدد الذي حكمته موازين ما بعد حقبة الاستعمار الاستيطاني والدخول في مرحلة جديدة من علاقات الدولة القومية التابعة. وهو التعدد الذي صاحبه تعدد في الرؤى ونماذج التنمية.. من الرأسمالية إلي الإشتراكية.. وسادت فيه علاقات وسياسات التجزئة والتبعية والتخلف أكثر مما أثرت فيه سياسات وعلاقات التكامل والوحدة والاستقلال والنهضة. إن هذه الخريطة للتعدد تختلف عن أي خريطة تعدد سابقة في ظل الخلافة لأنها أثرت على المفهوم التقليدي الفقهي الراسخ عن دار الإسلام ودار الحرب، لأن المعايير قد تغيرت وبرز مفهوم المصلحة القومية، هذا ناهيك عن صعوبة توصيف واقعنا اليوم من خلال المفاهيم الفقهية. ولهذا السبب صادف عالم المسلمين أزمات انتهت إلى تحالفات عجيبة كما حدث في حرب الخليج الأولى والحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الثانية وغزو الكويت، مع فوضى فكرية تسربلت بغطاء ديني فشكلت ما يستحق تسميته (الفتنة الفكرية والدينية) التي استخدم فيها الدين وسلاح الفتاوى من كل الفرقاء. ومن ثم فإن مفهوم الدولة القومية كما يمارسه المسلمون يشكل مساراً تهميشياً لمفهوم الوحدة وكانت معظم تأثيراته سلبية على مفهوم الأمة.
ولعل أهم هذه السلبيات أن دولنا القومية هي دول تابعة منشغلة بالحفاظ على واقع التجزئة، ومقلدة لنماذج لا تنبع من داخلها أو من تاريخها إنما مستوردة من خارجها. بل وحاول هذا المفهوم طرد تكويننا الأصيل (الخلافة الواحدة الموحدة) بخلق تكوينات مبتدعة من قبيل الجامعة الإسلامية والشرق أوسطية والشراكة العربية الأوروبية.
وبينما الخبرة الأوروربية تتجاوز مفهوم الدولة القومية نحو التوحد (الاتحاد الأوروبي) نستمر نحن في دعم الدولة القومية في مواجهة التوحد بوضع هذه الدول في مواجهة بعضها، بينما يتجه العالم كله نحو التوحد في قرية عالمية فإن مفهوم القرية العالمية عندنا هو فقط تعظيم الإتصال بالغرب أكثر من الإتصال بالعالمين العربي والإسلامي. بل على العكس أبقت كل عوامل الإنفصال والتجزئة والتبعية والتخلف الذي تكسوه قشرة حضارة “. انتهى كلامه.
إلى هنا ينتهي السرد الموجز المكثف الذي عرضناه بكل أمانة لعمل الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، وهو فيما هو واضح وجلي، كلام عشرة على عشرة، ومن الحكمة عدم الاعتراض على ما قدم من حقائق. لكن ما أرتكبه الدكتور سيف الدين ليس الإفتراء على الحقائق أو اللعب بها، فهو لم يفعل ذلك، لكنه فعل ما هو أسوأ وأنكى وأردأ، لقد زور على قارئه كل شئ، عندما انتقى من اللوحة التاريخية ما يناسب غرضه النهائي، ألا وهو إثبات أن دولة الخلافة هي الحل، لأنها كانت هي الجامع للمسلمين وسر قوتهم التي احتلوا بها أجزاء من أوروبا، وأنه بانهيارها وتفككها انهارت أو ضاع الدول المسلمة المستقلة الوطنية الضعيفة، والحل هو استعادة القوة باستعادة النظام المنشئ لها والمتفق مع ديننا وتاريخنا وفقهنا ومنطقنا، في تقسيم العالم إلى ديار سلم وديار حرب، فتتفق أمورنا وواقعنا مع ثقافتنا مما يؤدى إلى تماسك جماعي قوي معياره وحاكمه هو الدين، حتى تعود ديار السلم إلى فتح ديار الحرب!!
بالضبط مثل الدعوة الصهيونية التي سبقت قيام دولة إسرائيل!!
ثم هل من العلمية أو من الواقعية أن يكون أو ل بنود اهتمامات بلادنا الأشد جهلاً ومرضاً وتخلفاً وضعفاً في العالمين، هو إقامة دولة إمبراطورية للخلافة على غرار الأموية والعباسية؟ إن النبي لم يقم للعرب ما يشبه الدولة في جزيرتهم إلا بعد ما يفوق على الثمانيين معركة عسكرية دموية بكل معنى الكلمة، وتفككت دولته وهو على سرير المرض، فقام أبو بكر يعيد جمعها وتوحيدها بالحرب أيضاً، فلم تقم إمبراطورية في التاريخ بالجدل والحوار، لأنها إخضاع شعب لعبودية شعب آخر سيد حاكم، وإكراه حاكم محلي للتخلي عن الكرسي لحاكم آخر قادم من خارج الحدود وهو ما لا يحدث إلا قسراً.
لقد نازع سعد بن عبادة الأنصاري والإمام علي بن أبى طالب والهاشميون أبا بكر وعمر وعثمان على الحكم ، وتنازع معاوية وابنه يزيد مع الإمام علي وولده الحسين على حكم المسلمين، فهل كان كل هؤلاء سفهاء لأنهم لم يتوحدوا بالطريقة التي يطرحها علينا هنا الدكتور سيف عبد الفتاح؟
وهل كان ظهور دولة أموية مستقلة في أسبانيا خروجا على ملة الإسلام أم إضافة له؟
الدكتور سيف يعلي من الدين كرابطة على سلم الروابط الاجتماعية كحل يجمع الشامي والمغربي والماليزي ليشكلوا القوة المطلوبة لقيام ديار الإسلام. ولا تشغله روابط أخرى تجمع المجتمعات وتميزها عن بعضها مثل رابط العنصر أحياناً (كما في الروابط القبلية)، أو مثل رابط التجاور الجغرافي كما في تجاور الجزر اليونانية الذي أنشأ مجتمعاً واحداً، أو كما في رابط النهر المشترك كالنيل وقال هيرودت مصر هبة النيل، أي أن النيل ربط بين الناس فأقاموا الحضارة، وهو ما حدث في حوض الرافدين وحوض السند، وهناك روابط المصالح المشتركة التي جمعت ولايات أمريكا لتصبح متحدة، أو كما نرى في الاتحاد الأوروبي.
والدين أيضاً رابط اجتماعي قوي لا يمكن إنكاره، لكن المجتمع عبر ما يمر به من مشاكل أو انفراجات أو علاقات أو حروب، فإنه يقوم بتغيير أولوياته باختيار ما يكون مطلوباً من روابط على سلم الروابط فتأتى المصلحة على أو ل درجة وأحيانا الدين وأحيانا أخرى العنصر وأحيانا اللغة، ويتم ترتيب الروابط حسب حاجة المجتمع في زمن ما وظرف طارئ بالذات، تتفق في النهاية وما يراه المجتمع في صالح ما يطلبه الوقت والظرف، ومن ثم تترتب الأولويات للروابط على سلم الروابط الإجتماعية بحساب المصالح كمعيار أساسي لهذا السلم، سواء أدرك المجتمع ذلك بشكل علمي واضح أو لم يدرك، لكن الدين بين هذه الروابط لا تشغله مصلحة الأوطان أو الأفراد بقدر ما ينشغل رجاله بمدى توسيع نفوذهم ومدى توسيع الرقعة الجغرافية الواقعة تحت سلطان الإسلام، حتى ولو كان وضع الدين على الدرجة الأولى في سلم الروابط الاجتماعية شديد المضرة والأذى في بعض الحقب، فإن المجتمع لا يبالي ويقبل بالأذى والمضرة. بسبب جوهري يكمن في الدين كرابط اجتماعي ، وهو أن الناس تعلم أن الدين ليس تحت سيطرتها كالجغرافيا وليس من اختراعها كاللغة والعادات والتقاليد، إنما هو مستقل عنها، ومن ثم فهي لا تستطيع التدخل فيه وتتلقاه كما هو بأوامره ونواهيه دون اعتراض، ولا يبقى في المجتمع من يمكنه التعامل مع هذا المقدس سوى رجال الدين وعصابات المنتفعين بإسم الدين، وكثيراً ما أدى هؤلاء باستخدامهم الدين إلى تخلف مشين كما كان حال أوروبا في العصور الوسطى، وكما هو حال بلادنا اليوم حيث تقبع على التخوم الأخيرة لبراري التاريخ.
المثال الصارخ في العراق حيث الصراع الدموي الانتقامي بين السنة والشيعة في العراق، لأن أهل العراق جعلوا الأولوية على سلم روابطهم الاجتماعية للمذهب الديني وليس الوطن. وبالأمس القريب انفجرت البلقان كلها في صراع دموي عندما اعتلى الدين قمة سلم الروابط الاجتماعية، وهو ما تصرخ به السودان، وما كان من تشقق القارة الهندية لباكستان والهند. عندما كان الدين على القمة لم تشغله مصالح الناس أو البلاد لحظة واحدة، بينما عندما كان الوطن على قمة الروابط فإن ألمانيا رغم انفصالها بعد الحرب ظلت الألمانيتان تؤكدان على ألمانيا واحدة حتى اتحدتا مرة أخرى طوعيا، لأن كل من الطرفين كان يضع على سلم روابطه الحدود الجغرافية للوطن ويعطيه هويته فيسميه ألمانيا.
أما في مصرنا الغالية فلا زلنا نذكر أو نقرأ عن زمن كان طابور المدرسة يهتف قبل أي شئ (تحيا مصر حرة مستقلة). زمنها كانت مصر في حال أفضل بما لا يقارن بحالها بعدما رفع طلابها المصاحف وهتفوا الله أكبر ولله الحمد، منذ الصحوة الإسلامية لا بارك الله فيها.
إذن فالجماعة ذات منشأ إجتماعي طوعي تلقائي، أما الدولة فذات منشأ سياسي يقوم على القصد والترتيب، لذلك نجد أن دولة الرسول بالمدينة (مع التجاوز في تسميتها دولة) كانت تجمع اليهود والمسلمين وقبائل متباينة الأعراف، لأنها لم تضع الدين عند عقد صحيفة المدينة كرابط أو ل، إنما وضعت المصلحة المشتركة بين كل الأطراف.
فالجماعة متجانسة تدخل في تشكيل أي دولة، وفي الدولة تدخل عدة جماعات، لكل جماعة روابط اجتماعية يتفق بعضها ويختلف بعضها مع باقي الجماعات، وهذه الجماعات تقدم أو تؤخر على سلم الروابط أولويات إهتمامها، فتجعل الروابط المتفق عليها بين كل الجماعات هي الأعلى، والرابط الذي لا تختلف عليه جماعة تريد الاستمرار في الوجود هو رابط المواطنة، الذي يتم تعظيمه وإعلاءه على الدين والعرق واللغة والتقاليد، فتصبح الجماعات وحدة تشكل دولة.
فإن تقدم العرق على رابطة المواطنة كانت الحروب العنصرية، وإن تقدم الدين كانت الحروب الطائفية، فتتفكك الدولة، وهو ما حدث في الهند سنة 1948 فظهرت باكستان، كذلك هو الشأن في كشمير وجنوب السودان ودارفور. لأنه عندما تتنحى المواطنة عن قمة الروابط تتفكك الدولة إلى دويلات طبقاً للرابط الجديد الذي حل محل المواطنة، فإن كان الدين هو المتقدم كان الانقسام دينياً وإن كان العرق تم التقسيم طبقاً للأعراق.. وهكذا.
والجماعات البشرية متنوعة في الحجم منها الصغيرة ومنها الكبيرة، ومتنوعة في التركيب منها البسيط ومنها المعقد الذي يضم في داخله أكثر من جماعة بسيطة. وللجماعات البشرية مسميات عديدة طبقاً للحجم والتركيب، أبسطها هو الأسرة المكون الأساسي لكل الجماعات، والإنسان بطبعه حيوان اجتماعي يصعب عليه العيش بلا جماعة توفر له الأمان وسبل المعيشة.
وتتصف الجماعة بالترابط وعدم التنافر لأنها لو تنافرت تفتت لجماعات أصغر حجماً وتركيباً. ويقوم ترابط الجماعة على خصوصيات جامعة، ولذلك يختلف عدد الروابط الاجتماعية باختلاف شكل الجماعة، فكلما كانت بسيطة كانت روابطها أقل، وكلما تعقدت تركيباً وعدداً زاد عدد الروابط. والروابط ليست على مستوى واحد من الأهمية أو الأولوية لكنها هي مركز تمحور الجماعة، فإن تشاركت جماعتان أو أكثر في الرابط المركزي المحوري دارت حوله الجماعات مشكلة جماعة مركبة، فإن ظهرت جماعة ثالثة لها نفس المركز المحوري دارت مع الأخريات في ذات الفلك متحولين من جماعات بسيطة إلى جماعة مركبة أو معقدة.
إذن الروابط تصنعها في الأصل الجماعات البسيطة وهي من يدرجها على سلم الأولويات، وأحياناً تقوم بإعادة ترتيب تلك الأولويات فتنحي رابطاً مركزياً وتستبدله بآخر كان في المؤخرة، فتقدمه وتجعله مركز محورياً. وقد تنحي روابط قديمة مركزية لتحل محلها روابط مستحدثة تراها الجماعة من صالحها وأن هذا الصالح لم تعد تحققه الروابط القديمة، كما يحدث في اعتناق دين جديد أو لغة جديدة أو أيديولوجيا جديدة أو فكر فلسفي جديد، ليحل محل القديم الذي أقرت الجماعة عدم جدواه أو عدم كفايته لتوفير الأمن والأمان، وتحقيق أهداف الجماعة الإنسانية من كفاية وعدل وسعادة وتحاشي الألم.. إلخ.
قالمجتمع البشري يوازن بين الروابط وينحي من على أولويات سلمها ما يراه قد أمسى غير ذي جدوى ويحل محله ما يراه أكثر تحقيقاً لآماله، سواء كان هذا الجديد من بين الروابط الأدنى على السلم أو مستورد أو وافد من ثقافة أخرى. المهم قدرة الرابط على تحقيق أمل الجماعة.
وأقوى الروابط المستمر وراء اختيار أي روابط أخرى هو المصلحة والمنفعة التي هي في الوقت ذاته الحاكم والمعيار على الروابط الأخرى، والجغرافيا هي أهم روابط المنفعة، لذلك ظهرت أو ل الجماعات البشرية في أحواض الأنهار لأن النهر رابط جغرافي، وأن حسن استغلاله من الجميع نفع الجميع، وهو ما يفسر قيام الحضارات على أحواض الأنهار، مقابل تأخر المجتمعات البدوية الصحراوية لفقدان الرابط الجغرافي بحسبانها قبائل متحركة لا تعرف الوطن المستقر. وهو ما يفسر لنا لماذا أنزلت قبائل العرب الإسلام من على سلم روابطها عندما استشعرت مرض النبي وعادت تثور على المدينة في حركات انفصالية ارتدادية. وحالما بدأت الفتوحات كان رابط المنفعة هو الفئ والمغانم والسبي والجزية، فاتخذت قبائل العرب من عائد الحروب رابطاً لها مكنها من الفرس والروم، وعندما كان رابط المنفعة يتراجع كانت تظهر النزعات القبيلة، فإن حصلت القبائل على المنافع التي ترضيها هدأت الأمور. وهكذا قامت نزاعات المنفعة بين الصحابة بلا مراعاة للدين بل باستثمار الدين كحليف ومؤيد لكل فريق ضد الأخر، وقتل فيها الصحابة الصحابة وآل البيت، فلم يكن الدين هو الرابط الحقيقى إنما المنفعة، فرابطة الدين لم تكن الأول على سلم الروابط لذلك تم اغتيال عثمان بن عفان، وهاجمت السيدة عائشة علي بن أبي طالب في الجمل، ولم تردع رابطة الإسلام العراق عن غزو الكويت، ولا تفجير المتأسلمين للسيارات المفخخة في بلاد المسلمين لقتل المسلمين، ولم تمنع الوهابيين من هدم قبر فاطمة بنت النبي ولا نهب كنوز الكعبة، ولا ردعت عن استباحة فروج المسلمات والصحابيات وبنات الصحابة في واقعة الحرة المخزية، إن هذه الأحداث كلها ما كانت لتحدث إلا عندما تم وضع الدين في أعلى سلم الروابط دون أن يكون كذلك في الحقيقة، لأن الحقيقة كانت معاملة الدين واستثماره ومعاملته بانتهازية في صراعات المصالح السياسية والمكاسب الدنيوية كما لو كان هو الرابط الأعلى دون أن يكون ذلك صادقاً أو حقيقياً بالمرة، فكل ما حدث أن كل طرف يستخدم الدين انتهازياً لتحقيق أطماعه، وأعلن كل قاتل إنه يقتل أخيه المسلم بإسم الدين وفى سبيل الله.
وبسبيل إنزال الدين من على سلم الروابط يقوم البعض بإحلال مذهب جديد يتمركزون حوله ويدورون، كرابطة جديدة لأصحاب تدور حول محوره الجماعة تاركة الآخرين يدورون حول ذات الدين لكنه القديم قبل المذهب المحدث. حتى يظل الدين واجهة ترضي العامة فيتحول من رابط فعلي إلى شكلي، والفارق بين الرابط الجغرافي الثابت المحسوس الواضح غير الملتبس والذي تشارك فيه كل جماعات المجتمع، وبين أي رابط آخر، أن أي روابط أخرى مثل المذهب الديني واللغة هي روابط صنعها البشر فهي مكتسبة لم تأت من السماء مع الخلق. الذي جاء من السماء هو الدين الأم وعنه أنتج البشر مذاهبهم وعن قصد بشري وليس بإرادة السماء، ورغم أن المذاهب المصنوعة تغطي على الأصيل النصي القرآني، فإن المذاهب ليس لها أنبياء ولا رسل ولا كتب سماوية خاصة بهم، لكنهم يحوزون عند المسلمين مكان التقديس!!
رغم أن المذاهب غير موحى بها وأنها صناعة بشرية محض وتم إنتاجها بدوافع بشرية محض، لاتخاذها مركزاً ومحوراً يدور حوله المجتمع فيكتسب المجتمع المتذهب استقلالية وتمايزاً عن أصحاب المذاهب الأخرى، وعن مجتمعه الأم.
أيضاً اللغة كرابط تخرج منها لغات جديدة متفرعة عن اللغة الأم لتأكيد الذات والاستقلالية عن الغير، ولم يذكر لنا تاريخ الأديان أن هناك نبي أو رسول قد جاء بلغة جديدة لتحل محل أخرى.
لكن الرابط الثابت بثبات التضاريس والنهر أو الصحراء التي أو جدته أو البحر أو البحيرات، كلها ثابتة لا تتبدل ولا تتغير وعليه ينشأ رابطة المنفعة، فنفط الخليج أنشأ رابط خليجي عازل لها عن بقية الدول العربية، كما غير نمط مجتمعاتها وطبعها بطابع واحد أو شديد التماثل، وجعل هذه الدول ترفض انضمام الأفراد الذين كانت تقبل بهم مواطنين قبل ظهور هذا الرابط (ظاهرة البدون مثلا).. كما أن هذا الرابط جعل الدين يأتي في المرتبة التالية على سلم الروابط بعد أن كان في المقدمة زمن العوز والحاجة، وكانت تتخذ منة مبرراً للهجرة إلى مواطن الوفرة في أحواض الأنهار كمصر والعراق، والممطرة مثل بلاد الشام وشمال أفريقيا أو الجامعة بين الميزتين كبلاد الأندلس.
إذن فالجماعة تنشأ طواعية طبقاً لرغبات وحاجات أفرادها وموروثهم البيولوجي أو لاً، ثم تستمر في التواجد مدعومة بموروثهم الثقافي القابل للتعديل والتبديل، وهو ما كان يؤدي إلى تجمع الجماعات في تركيبات أكبر وأكثر تعقيداً، أو إلى تفكك ذلك المعقد المركب ليعود إلى مجموعات وجماعات أقل تعقيداً وأكثر قدرة على البقاء.
أما الدولة والإمبراطورية فهي رابط في شكل تجمع سياسي تقيمه القوة العسكرية يجمع بداخله تجمعات من أسر وعائلات وقبائل وأمم، وقد تحتوي الدولة على أكثر من أمة، أو على جزء من أمة، كما هو حال الأمة الكردية الموزعة بين أكثر من دولة. فإذا انهارت الإمبراطورية عادت البلاد إلى ما كانت عليه قبل قيامها
من الإمبراطورية الرومية مروراً بالعربية إلى الإمبراطوريات الحديثة كالإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس أو الإمبراطورية الشيوعية التي تمثلت في الإتحاد السوفيتي. فالإمبراطوريات لا تسقط لكي تقوم، بل تسقط لتذهب وتفسح المجال للأمم لتتطور وترتقي. وسقوط الإمبراطوريات ليس سقوطاً إرادياً إنما هو سقوط نظام حكم ثبت فشله عبر التاريخ وعجز عن تحقيق الحلم البشري فسقطت ليحل محله الأصلح.
وعليه فإن طريقة اختيار الحاكم ونظام الحكم وتحديد علاقة الفرد بالسلطة وأنواع السلطة وطبيعتها وعلاقتها ببعضها، هذا يدخل في علم السياسة لنظام الدولة، فإن قلنا أن الدولة تأتي لاحقة للمجتمع وليست سابقة عليه، فمعنى هذا أن الإسلام لا يبدأ بالسياسة ولكنه يبدأ بتكوين المجتمع لتقوم الدولة على هذا المجتمع من بعد. ورغم أن ذلك لا ينطبق إلا على جزيرة العرب وحدها دون غيرها، حيث لم يكن مجتمع الجزيرة قد تجاوز التفرق القبلي نحو النضج والاكتمال لإقامة دولة حاكمة له، إلا على يد الإسلام الذي أكمل تكوين بل وتشكيل ذلك المجتمع قهراً لينضبط في دولة يوافقها رضا أو كرها. بينما كان محيط الجزيرة دولاً ذات حضارات قامت واكتملت قبل ظهور جميع الأديان، فإذا كان الإسلام قد أقام للعرب مجتمعهم قسراً فإن باقي دول الجوار لم يكن للإسلام أي فضل في إقامة مجمعاتها أو دولها. وإذا كان ثمة علاقة بين الدين والسلطة (أو الدولة) فذلك إنما يخص جزيرة العرب وحدها وفي زمن الدعوة وحده.
وبينما لم تلبث دولة النبي الناشئة حتى تفككت وعادت القبائل إلى شكلها الأول، حتى أعاد أبو بكر إنشاء دولة جديدة مرة أخرى على أنقاض الدولة الإسلامية الأولى، ثم سقطت ثم قامت عدة مرات، ولكن خارج الحجاز حيث بلاد الحضارات المفتوحة، ووفق جهاز إداري كان قائماً من ألوف السنين حافظ على تماسك هذه الدول من التفكك. وبينما بقيت مصر منذ مينا حتى اليوم عبر خمسة ألاف عام دون أن ينفك منها أي عضو جغرافي، فإن دولة النبي تفككت وهو على سرير المرض، لأنها كانت بدائية، كان المقصود منها تجميع العرب تحت راية مبدأ ديني واحد، فلم تكن سوى تجمع قبلي لم ينضج بعد ويتطور ويضع لنفسه آلياته وقواعده وجهازه الإداري والرقابي والقانوني، ومجمل الأجهزة الحافظة لنظام الدولة. وظل وضع الجزيرة هكذا إلى أن ظهر بن عبد الوهاب متحالفاً مع بن سعود وتمكنا من إنشاء دولة عربية حديثة مستقرة، وما استقرت لأن أياً منهما لم يكن نبي الإسلام لذلك كانا يعلمان جيداً أن دولتهما ليست هي دولة الإسلام ، لهذا تمكنا من التمكين…. باستخدام الإسلام كركوبة موصلة ليس أكثر.
يتلقى الكاتب المكالمات التليفونبة من الخامسة مساء إلى السابعة مساء بتوقيت القاهرة على تليفون رقم 0020189914505 عدا يومي الخميس والجمعة
الوطن والمواطنة عند الإسلاميين (1 من 4)الاخ الفاضل ارجواان لاتحلط بين الاسلام والمسلمين وبين الاسلام والشعائر الاسلامية وبين دين الله الحقيقى وبين الدولة الدينية فالاسلام كدين والذى لن يقبل الله غيره من اى انسان هو دين البشرية من لدن ادم الى محمد عليهم جميعا الصلاة والسلام وهو دين الفطرة السليمة التى فطر الناس عليها والذى يقتضى بالفطرة عدة ثوابت 1- الحرية : فكل انسان حر فيما يعتقد وله الحرية فى التعبيربشرط الا يفرض رايه على احد والحرية الاهم والاساسية فى دين الله هى حرية السعى فى ارض الله بمعنى ان لكل انسان الحق فى الانتقال”الهجرة” والعمل والاقامة فى اى مكان… قراءة المزيد ..
الوطن والمواطنة عند الإسلاميين (1 من 4) فكرة الخلافة انتهت حقا لم يظهر فى التاريخ دولة اسلامية تتمتع بمواصفات ممكن اتخاذها كنموذج للتطبيق فى هذا العصر انما قامت نماذج لدول بها شذرات من العدل الاجتماعى لايمكن الاعتماد عليها لاقامة دولة عصرية. ولقد فشلت كل المحاولات لاقامة دولة دينية سواء فى الهند أوفى الدول العربية .واذا وصل أحد الاحزاب الدينية الى السلطة فى أية دولة فان مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية تزداد مثل السودان وايران .كذلك يختلف زعماء الأحزاب الدينية فى تعريفهم للدولة المطلوبة وهل تعترف بالديمقراطية وتحترم الديانات الأخرى أم لا ؟ هناك فرق بين الأماني الطيبة والواقع الحادث والموجود فعلا منذ… قراءة المزيد ..