انخرط الكثيرون في جوقة التباكي على الوطن والسيادة واستنكار الوصاية الدولية، وكأنها صاعقة مباغتة نزلت من سماء صافية لتضرب الأرجاء وتستثير النخوة “الوطنية” في بلاد تقطعت فيها أواصر الانتماء للوطن قبل أن تتخلق وتتجسم، وغربت عنها شمس الوطنية قبل ان تشرق.
المفارقة ان جلّ هؤلاء المتباكين على وطن ضاع يعلمون تماما ان اليمن اندرجت رسميا وفعليا تحت الوصاية الدولية يوم التوقيع على المبادرة الخليجية في نوفمبر 2011، وكان ذلك نتيجة لعجز وفشل كافة فرقاء السياسة عن ابتكار صيغة للخروج من نفقٍ مظلم شاركوا جميعا في حفره وهرولوا إلى قعره إلى ان تدلى أمامهم حبل الخلاص من الخارج وتعلقوا به لينجوا بأنفسهم من أنفسهم.
في العادة لا تُفرض الوصاية إلا على قاصر عديم الحيلة والوسيلة، ومفخخ بكل أسباب القصور والدمار الذاتي؛ وذلك ما كان عليه حال “فرسان الميدان” في اليمن.
وقد صارَ الذي صار في ظل غياب وعدم تبلور القوة السياسية اليمنية التي ترفض لليمن ان يعيش ذليلا متسولا ضمن صيغة شوهاء وطريق مسدود.
صارَ الذي صار في ظل نخبة مشوهة ورثّة وزعامات تنتمي الى سلالة الكائنات العلقية التي امتصت ثروات البلاد وروح الوطن والإنسان، وفتحت كل شيء على غبار الخوف، وحولت اليمن إلى مشكلة أمن قومي للدول المجاورة وخطر يتهدد الأمن والسلام الدوليين.
حتى الثورة المغدورة في هذه البلاد لم تصمد كثيرا وإن كفزاعة، وهي بالكاد أفضت إلى تصدع بين المتنازعين على تفاحة السلطة وإزاحة رأس النظام ثم أوقعت باليمنيين في براثن المليشيات والعصابات المسلحة وعصابات الجريمة والفوضى العمياء ووقائع القتل اليومي.
ولئن كان زمن “الزعيم” الدكتاتور الفاسد والمستبد قد انطوى وتولى، فإن الزمن الراهن قد طفح بشرذمة شعثاء من الاستيلائيين الهجامين على ما تبقى من أسلاب السلطة والبلاد من باب تقاسم الدكتاتورية والاستبداد والفساد.
وإذا كان لسان الرئيس السابق الذي صار “زعيما” قد هرف وجدف وجازف وشطح ونطح وأرغى وأزبد بالكثير من الغثاء، فإنه قد صدق ذات مرة حينما قال بأن اليمن سينهار وسوف تمزقه الحروب الأهلية الى قطع وأوصال.
والحال انه لم يكن يتنبأ بقدر ما كان يقرأ الخارطة الذي كان فاعلا رئيسيا في تصميمها بمقاييس رسم سياسية وعسكرية وأمنية واجتماعية متقنة.
وكان انجازه الأكبر هو تفخيخ البلاد والعباد كتحصيل حاصل لالتصاقه بكرسي السلطة على غرار ما كان عليه “القذافي” الذي كانت السلطة بالنسبة له بمثابة الجلد الملتصق بالجسد ولم يكن بالإمكان فصله عنها إلا بالسلخ.
وذلك هو ديدن كل الحكام العرب، وقد كانت الأحداث التي شهدتها البلاد منذ مطلع 2011 بمثابة الانعطافة الحادة نحو عملية السلخ.
في السياق، كان السياسي والدبلوماسي الليبي المخضرم عبدالرحمن شلقم تحدث في مقابلة أخيرة مع “الأهرام الدولي” وقال: لم تكن السلطة بالنسبة لمعمر القذافي “الجبة” التي يضعها على ظهره، بل كانت الجلد الملتصق بجسده، ولم يكن بالإمكان فصله عنها إلا بالسلخ.
بالمناسبة كان للتدخل الدولي في ليبيا دور حاسم في عملية السلخ التي مازالت مفاعيلها الدامية تستشري وما زالت تداعياتها وظلالها الكابوسية تغلف أرجاء ليبيا.
وفي اليمن كان من شأن الأوضاع المتدهورة وتردي دور الفاعلين المحليين وانشغال النافذين بلعق فتات مائدة السلطة، وانهيار منظومة الخدمات الحيوية والأمنية، والخراب المتطاول والمتفاقم؛ استدعاء تدخل المجتمع الدولي وتوسيع وتطوير مستوى ذلك التدخل لإنجاد شعب منكوب على طريقته، الى ان انتهى مطاف ذلكم التدخل بوضع اليمن تحت الفصل السابع.
ويكذب جل اليمنيين المحسوبين على حقل السياسة إذا مازعموا انهم لم يكونوا يعيشون في حالة ترقب وتطلب لـ”عقوبات دولية” بحق المعرقلين للعملية السياسية، وكان كل طرف يريدها على مقاس رغبته ومصلحته.
وجاء قرار مجلس الأمن الأخير ليفيد بأن المجتمع الدولي صار معنيا بملاحقة الناهبين ولصوص الثروة والثورة وملاحقة المخربين والمدمرين لخطوط الكهرباء وأنابيب النفط والإرهابيين والعصابات المسلحة.
جاء هذا القرار ليعزز مستوى وفاعلية التدخل الدولي ويملأ “فراغ القوة” وكان من الطبيعي ان يفزع منه المستهدفون على نحو مباشر، ويتلققه بعض المستهدفين والضالعين في الخراب بترحاب منافق، ولم يكن من الطبيعي ولا من الوارد ان يستثار البؤساء والمطحونون برحى المفسدين والقتلة.
اللافت ان استثارة النزعة الوطنية والاحتماء بخطابها المتقادم قد جاء منفعلا بخليط من النرجسة والمظلومية، متسرعا بلغة التخوين والإقصاء للآخر وللعالم، واستحالت معه “الوطنية” الى مفهوم تحريضي شوفيني مقيت يكرس الاستئصالية والانفصالية في العلاقة مع الآخر في الداخل والخارج.
وفجأة صار جمال بن عمر، الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الى اليمن، شيطانا رجيما؛ بعد أن كان في مطلع ظهوره وحضوره ونهوضه بدوره في مقام المنقذ والمخلص للبلاد من براثن الخراب.
صار المجتمع الدولي الذي نتسول معوناته ونلوذ برعايته طامعا باحتلال اليمن الطاعن في الخراب والخريف والعفن، ولم تتوجه الأبصار والبصائر نحو قراءة مفردات القرار الدولي وتفاصيله التي استوعبت الأخطار والتحديات الماثلة أمام اليمن واليمنيين، وغدت تلح على ضرورة تبلور دور وفاعلية لكتلة مدنية سياسية في الساحة لتعبر بوضوح عن مصلحتها في بناء دولة قانون بالاستفادة من الغطاء الدولي المتاح؛ وفي إطار هذا الغطاء وما يمكن ان تتولد عنه من فرص لإحلال الاستقرار في البلاد.
وعموماً لم يكذب من قال إن الوطنية هي الملجأ الأخير للأوغاد!؟
* صنعاء