احتفلت إسرائيل بالذكرى السنوية الأربعين لحرب حزيران 1967 التي احتلت خلالها الضفة الغربية وقطاع غزة، وهضبة الجولان السورية.بالإضافة طبعاً لكل شبه جزيرة سيناء.
لم تكن إسرائيل تدرك، عندما احتفلت احتفالاً دينياً وهستيرياً باحتلال القدس العربية الشرقية، بعد الاحتلال مباشرة، أنه ينطبق عليها المثل الشعبي الفلسطيني القديم: “واوي بلع منجل..عند خراه نسمع عواه”.
لقد انبعثت، في إسرائيل حركة دينية قومية احتلالية شرسة جداً. وهذه الحركة وجدت تعبيراً عنها في بدايات الاستيطان الكولونيالي في الضفة الغربية وأيضاً في التصميم الهستيري على “توحيد” القدس، أي تحويل القدس الغربية والقدس الشرقية الفلسطينية المحتلة إلى “مدينة واحدة موحدة”.
إن القيادة الإسرائيلية التي اندفعت في هذا الاتجاه “الديني” و”القومي” المجنون، تحت ضغط المتدينين واليمين المتطرف، تناست موقف القيادة الصهيونية من اقتراح لجنة، بيل(1937) التي اقترحت تقسيم فلسطين وأيضاً تقسيم القدس، بحيث تكون القدس الغربية إسرائيلية والقدس الشرقية فلسطينية.
يومئذ كانت القيادة المتنفذة في الحركة الصهيونية علمانية تماماً وبراغماطية إلى حد بعيد، ولم يكن جنون العظمة الامبراطورية قد لوَّث التفكير الرسمي اليهودي.
ليس صدفة أنه بعد احتلالات حزيران 1967 ازدهرت في إسرائيل أيديولوجية دينية أصولية وانتشر التفكير الديني الذي يتكلم عن قرب القيامة. ويبدو أن القيادة السياسية الصهيونية أيضاً، بزعامة حزب المباي (العمل فيما بعد) أصيبت هي أيضاً بالهَوَس الرهيب، وحلمت بتوطين كتل يهودية كبيرة في الضفة الغربية مما سيمنع إقامة كيان فلسطيني، ومع الوقت تتكون أكثرية يهودية في الضفة، ولذلك “من الطبيعي” أن تتحول القدس والخليل وبيت لحم إلى مدن يهودية إسرائيلية.
خلال الأربعين سنة الماضية، مع أن إسرائيل تصول وتجول في المنطقة، فقد حدثت تطورات بالغة الأهمية أبرزها انبعاث الحركة القومية الفلسطينية واشتعال المقاومة مما حطّم الوهم باستيطان الضفة وعمَّق مشاكل إسرائيل المصيرية، بدل أن يجلب لها الإنقاذ.
لقد “وحدوا” القدس رسمياً، ووزعوا الهويات الإسرائيلية على مَن يريد من سكان القدس الشرقية المحتلة. ومع الأكل زادت الشهية فضموا إلى منطقة نفوذ القدس الموحدة عدداً كبيراً من القرى الفلسطينية التي كانت دائماً زناراً حول القدس، ولم تكن جزءاً من القدس.
في الذكرى العشرين لاحتلال القدس اعترف تيدي كولك رئيس بلدية القدس آنذاك، أن القدس “ليست موحدة” وعشرين سنة ليست كافية لتوحيد حقيقي للقدس.
الآن، في الذكرى السنوية الأربعين لاحتلال القدس (ضمن الاحتلال الشامل) دار نقاش حاد في الأوساط السياسية اليهودية وفي الصحافة العبرية حول الوضع في القدس. فقد دل بحث ديموغرافي رسمي أن في الجانب العربي الفلسطيني من القدس “الموحدة” هناك 280 ألف فلسطيني لم يعترفوا يوماً بالاحتلال ويشاركون في التصويت للبرلمان الفلسطيني وينتمون سياسياً إلى مختلف الفصائل الوطنية الفلسطينية.
والأخطر من ذلك، صهيونياً، هو التقدير بأنه حتّى سنة 2020 سوف يصبح عدد العرب الفلسطينيين في القدس “الموحدة” أكثر من اليهود.
كما أشارت الصحف إلى حالة خاصة في القطاع اليهودي في القدس، فالعلمانيون والشباب والمثقفون، بشكل عام، يرحلون إلى الساحل، إلى تل أبيب بالأساس، لأنهم يريدون حياة عصرية مدنية وحياة ثقافية واجتماعية ويريدون الانخراط في التطور الاقتصادي العاصف الذي تمثله تل أبيب وبأية حال لا تمثله القدس.
العلمانيون والشباب يرحلون من القدس الوحدة ويتركونها أساساً للقوى الدينية اليهودية، الأصولية والتوراتية التي قطاعات واسعة منها لا تعمل، لأنها “متفرغة” كلياً لدراسة التوراة. وفوق كل هذا فهناك قطاع من المتدينين اليهود الأصوليين معادٍ للصهيونية السياسية، وهناك قسم متطرف أكثر لا يعترف بدولة إسرائيل ويعتقد أن المطلوب هو قيام مملكة الله لا دولة الصهيونية.
كتب أحد الصحفيين في يديعوت أحرونوت: عندما يصل اليهودي إلى شارع صلاح الدين في القدس العربية الشرقية فأنه يحس أنه خارج القدس، وأيضاً خارج إسرائيل.
الدكتور موشيه عميراف المحاضر في الجامعة العبرية في القدس، كان سنوات طويلة عضواً في مجلس بلدية القدس. وقد كتب مقالاً في جريدة “هآرتس” قال فيه إن ما يسمى “توحيد القدس” كان نتاج غطرسة وغباء معاً. وقال إن مناطق واسعة لم تكن قبل ال67 وحتّى قبل 48 جزءاً من القدس جرى ضمها للقدس. ولذلك الآن العرب الفلسطينيون هم 40 بالمائة من السكان الرسميين للقدس الموحدة. وخلال عشرين سنة-قال- يصبح أكثرية سكان “عاصمة إسرائيل الأبدية”، “القدس الموحدة” عرب فلسطينيون لا يدينون بالولاء لدولة إسرائيل بل لدولة فلسطين العتيدة.
ويقترح الدكتور عميراف “تصحيح الخطأ الفاحش”: يطالب بفك كل المناطق العربية الشرقية في القدس (ربما في ما عدا حائط المبكى) عن القدس، لتعود القدس الغربية عاصمة إسرائيل.
هناك جانب آخر للمشكلة فبينما “القدس الغربية” هي مدينة عصرية، بمقاييس أوروبية، فإن المنطقة العربية في القدس مهملة بشكل إجرامي، البنى التحتية فيها متخلفة جداً والمضايقات السياسية والاقتصادية عنيفة وحادة، حتّى أن هناك أساتذة يهود يقارنون وضع القدس العربية-الشرقية- بأحياء الزنوج، على هوامش المدن الأمريكية.
إن القدس بشقيها، الغربي والشرقي ليست موحدة، بل هي بؤرة حادة للصراع القومي بين اليهود الإسرائيليين وبين الفلسطينيين والقدس العربية ليست أكثر من أداة في نظر المؤسسة الإسرائيلية-لجلب السياح المسيحيين والغربيين عموماً إلى القدس لزيارة الأماكن المقدسة المسيحية، كما تستغل إسرائيل الأماكن الإسلامية وفي مقدمتها المسجد الأقصى الشريف، للعلاقات مع مصر والأردن وتركيا والدول الإسلامية الأخرى، إذا أمكن.
الكاتب والصحفي يهودا ليطاني الخبير حقاً في اللغة العربية والتاريخ الفلسطيني عموماً ومن مواليد القدس كتب مقالاً في يديعوت أحرونوت (16/5/2007) قال فيه إنه كإنسان علماني يحس انه ينتسب إلى الأقلية في القدس الغربية، ويقصد الأقلية العلمانية، الديمقراطية، الطامحة إلى السلام مع الفلسطينيين.
لقد وعد رئيس الحكومة الإسرائيلية إهود أولمرت في الاحتفال الحكومي بأربعين سنة على “توحيد” القدس بتخصيص خمسة مليارات شاقل (مليار ونصف دولار) لدعم “العاصمة الأبدية الموحدة”. وقد كتب الدكتور موطي غولاني المحاضر في جامعة حيفا: “إن الاحتفال بتحرير وتوحيد القدس كان جنائزياً أكثر منه احتفالاً حقيقياً.” وقال الدكتور غولاني إنه مع أن الفلسطينيين في مأزق حقيقي صعب ومعقد، إلاّ أن إسرائيل أيضاً في مأزق يصل إلى مستوى “التراوما” (الكابوس) يمكن أن نسميه المأزق الديموغرافي.
سألني هذا الأسبوع صحفي يهودي : ما هو شعورك في يوم “توحيد القدس” فأجبته: إذا اعترفت فيروز صاحبة أغنية زهرة المدائن بتوحيد القدس، فأنا مستعد أن اعترف. ولكن التاريخ والجغرافيا والمشاعر وفيروز وكل الشعب الفلسطيني يرون أن القدس العربية الشرقية كانت وتبقى مهد الحلم الفلسطيني بالاستقلال.
salim_jubran@yahoo.com