من بعد خفوت صوتهم وتراجع نفوذهم في النيبال على أثر الإنجاز الوحيد الذي حققوه – إن كان بالفعل إنجازا – وهو الإطاحة بالملكية وإعلان الجمهورية، لم يعد للماويين معقل ينشطون فيه ويمارسون هواية التخريب والتمرد على النظام وإطلاق الشعارات الخاوية التي لم تعد مهضومة حتى في بلاد المعلم “ماو” نفسه، إلا في دولتين هما الهند والفلبين. وسوف نخصص هذا المقال للحديث عن ظروف التمرد الماوي في هذين البلدين الديمقراطيين، والتحديات التي تواجهها حكومتيهما، وأسلوب كل منهما في التعامل معها.
أولا: في الهند
المعروف للمتابعين أن التمرد الماوي في الهند له من العمر الآن عدة عقود، حيث ظهر على السطح لأول مرة في الستينات من القرن المنصرم إنطلاقا من قرية “ماكسالباري” في ولاية البنغال الغربية، قبل أن ينتشر كالنار في الهشيم وتدعي السلطات أنها تمكنت منه، لكن ليعود وينهض مجددا في مناطق مختلفة من البلاد في الثمانينات، ويصل عدد المنضوين تحت لوائه إلى ما بين 10 -20 ألف عنصر.
صحيح أنه بمرور الزمن تضاءلت قوة الماويين الهنود ونفوذهم، لكن الصحيح أيضا أنه لم يسبق أن وجد دليل قط على هزيمتهم أو القضاء المبرم عليهم. بل يمكن القول أن أخطارهم وتهديداتهم صارت تأخذ في السنوات الأخيرة منحى تصاعديا بدليل الإحصائيات الصادرة عن وزارة الداخلية الهندية والتي نقرأ فيها أنه في عام 2003 تأثرت 55 ناحية في 9 ولايات من ولايات الهند الثماني والعشرين بالأنشطة الماوية، وفي عام 2004 تأثرت 156 ناحية في 13 ولاية، وفي عام 2005 تأثرت 170 ناحية في 15 ولاية، وفي عام 2009 تأثرت 223 ناحية في 20 ولاية. ولعل هذه الأرقام التصاعدية هي التي دفعت رئيس الحكومة الهندية الدكتور “مانموهان سينغ” إلى وصف التمرد الماوي في بلاده مؤخرا بأنه أكبر تهديد داخلي تواجهه الهند.
والحقيقة أن قول الرجل ليس فيه أدنى مبالغة، ليس بسبب إتساع الرقعة التي يمارس فيها الماويون الهنود أنشطتهم، وإنما أيضا بسبب التغير النوعي في خططهم. فمن بعد أن كانوا محاصرين داخل الغابات والأحراش، ولا يجرأون على الإحتكاك بالمواطنين وقوات الأمن إلا فيما ندر، صاروا يهاجمون السجون لتحرير رفاقهم المعتقلين، ويدمرون خطوط السكك الحديدية وأبراج الإتصالات الهاتفية، ويختطفون عربات السكك الحديدية بحمولاتها، ويزرعون الألغام في الطرق التي عادة ما تسلكها قوات الشرطة، وذلك على نحو ما حدث في الرابع من أبريل المنصرم حينما قتل أربعة من رجال الشرطة بتلك الطريقة في ولاية “أوريسا” الشمالية. تلك الحادثة التي أعادت إلى الأذهان ما فعلوه في فبراير المنصرم حينما داهموا معسكرا لقوات الأمن في ولاية “البنغال الغربية”.
وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه حوادث، وآخرها نجاح المتمردين الماويين في منتصف إبريل الماضي في قتل 76 من رجال الأمن الهنود في كمين نصبوه لهم في مقاطعة “تشاتيسغار”، ما كان ليمر دون أن يفجر جدلا ونقاشا واسعا في الوسائل والمنابر الإعلامية والسياسية داخل الهند.
ففي الوقت الذي اعترضت فيه جماعات حقوق الإنسان ونشطاء منظمات المجتمع المدني وكتاب الرأي وفي مقدمتهم الروائية المعروفة “أرونداتي روي” على إستخدام القوة لمواجهة التمرد الماوي بدعوى أن ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من سفك الدماء، وتعريض حياة قوات الأمن للخطر، خرج فريق ينتقد الحكومة بسبب تساهلها في التعامل مع الماويين،أو بسبب إعتمادها في مقاومة المتمردين على قوات لا تملك الخبرة الكافية في حرب العصابات والحرب النفسية والإستخباراتية، وظهر فريق آخر يطالب بأن يزج الجيش في المعركة بدلا من قوات الأمن والشرطة، لأن الأول أحسن خبرة وأفضل تدريبا، وأكثر إمتلاكا للإسلحة الحديثة المتطورة من الثاني. بل ظهر فريق ثالث يطالب الحكومة بضرورة إستخدام المقاتلات الحربية والمروحيات في قصف الماويين من الجو، وذلك على غرار ما فعلته قوات الجيش السريلانكي العام الماضي في حربها مع المتمردين التاميل والتي إنتهت بتحقيقها نصرا مدويا.
وكما كان متوقعا، فقد انبرى للمطالبين بإستخدام سلاح الجو للقضاء على الماويين، بعض رموز جماعات حقوق الإنسان وكتاب الصحافة المحلية، قائلين أن جيش البلاد قد أوجد للدفاع عن حدود الوطن، وليس لسفك دماء المواطنين أيا كانت المبررات والحجج! ومحذرين من أن إستخدام القصف الجوي في مناطق وعرة أومكتظة كالتي ينشط فيها الماويون قد يؤدي إلى وقوع ضحايا كثر من الأبرياء، الأمر الذي قد يبعد الناس عن الدولة ويقربهم من المتمردين. وردا على مثل هذا الكلام قال وزير الداخلية الهندي “بالانيابان تشيدامبارام”، موجها حديثه بصفة خاصة إلى دعاة حقوق الإنسان: “أن حكومتي قد لا تلجأ في الوقت الحاضر إلى القصف الجوي، لكنها ستترك الباب مفتوحا أمام جميع الخيارات في المستقبل”، ومضيفا “على الذين يتباكون على حقوق الإنسان، وعلى الذين يدبجون المقالات الطويلة دفاعا عن حقوق الماويين وسلامتهم، أن يتذكروا كيف ستهدر حقوقهم وتصادر أقلامهم إذا ما حقق الماويون أجندتهم ووصلوا إلى السلطة”.
ثانيا: في الفلبين
في الفلبين يتجمع الماويون تحت مظلة “الحزب الشيوعي الفلبيني”. والأخير يعتبر الذراع السياسي للجيش الشعبي الجديد الذي ظل يقاتل الحكومات الفلبينية المتعاقبة بوحشية طيلة العقود الأربعة الماضية، أي منذ تأسيسه في عام 1969 على يد قائده الأعلى أستاذ الأدب الإنجليزي السابق في جامعة الفلبين الحكومية البروفسور”خوزيه ماريا سيسون” (71 عاما) الذي يقيم في منفاه بهولندا منذ أن أطلقت الرئيسة السابقة “كورازون أكينو” سراحه من بعد سجن دام تسعة أعوام. وكان هدف الجيش الشعبي الجديد هو تحويل البلاد إلى دولة ماوية على النمط الصيني، قبل أن ينجح في تأسيس تيار جماهيري لنفسه ويخوض به الإنتخابات البرلمانية من اجل تفعيل أجندته السياسية والإقتصادية والإجتماعية، علما بأن “سيسون” نفسه قاد مفاوضات مع حكومة مانيلا من أجل إنهاء التمرد الماوي المسلح، لكنها تعثرت بسبب إصراره على إشتراك الماويين في السلطة، وهو ما رفضه الكثيرون على إعتبار أنه شرط غير دستوري.
وطبقا لمصادر حكومة السيدة “غلوريا ماكاباغال أرويو”، فإن المتمردين الماويين المسلحين من أعضاء الجيش الشعبي الجديد قد تم إضعافهم عدة وعتادا كما تم تقليص أعدادهم بفضل الهجمات والعمليات العسكرية المتتالية ضدهم، ثم بفضل البرامج الإقتصادية والإجتماعية التي دشنتها الحكومة لرفع مستويات المعيشة وتحسينها، حيث يقال أن عددهم تقلص من 25 ألف عنصر مسلح في عام 1987 إلى حوالي 4700 عنصرا في عام 2009.
غير أن هناك من المراقبين من يعتقد أن هذه الجماعة المتمردة لا زالت قادرة على التخريب ونشر الفوضى، وذلك بفضل إنتشار عناصرها في مناطق مختلفة ووجود معاقل قوية لهم في “بيكول” و “لوزون” و الأجزاء غير المسلمة من “ماندناو”. بل أن هؤلاء المراقبين يعتبرون الماويين أكثر تهديدا للسلم والأمن في الفلبين من المتمردين الإسلاميين، ويقولون أن ماويي الفلبين باتوا يصدرون خبراتهم القتالية وتكتيكاتهم العسكرية إلى الخارج. والجزئية الأخيرة ربما تكون مرتبطة بمعلومات إستخباراتية تحدثت مؤخرا عن العثور على متمردين ماويين فلبينيين وهم يقومون بتدريب عناصر ماوية في ولاية “غوجرات” الهندية و في المقاطعات الجنوبية من تايلاند.
أما آخر التطورات على ساحة الماويين الفلبينيين، فهو أنهم للمرة الأولى منذ عودة الديمقراطية إلى الفلبين في عام 1986 ، يشاركون في إنتخاب رئيس البلاد ونائبه. حيث تقول الأنباء الواردة من مانيلا أنهم أسسوا تحالفا إستراتيجيا مع المرشح الرئاسي “مانويل فيلار” الذي يحتل الموقع الثاني مباشرة في إستطلاعات الرأي خلف المرشح السيناتور “نوي نوي أكينو” إبن الرئيسة الراحلة “كورازون أكينو”. أما خيوط وتفاصيل هذا التحالف فتعود إلى الجسور التي ظل يبنيها “فيلار” علنا مع إثنين من قادة اليسار المعروفين وهما “ساتور أوكامبو” و “ليزا مازا” اللذين يمثلان حزبي “بايان مونا” و “غابرييلا” على التوالي، واللذين يخوضان أيضا سباق دخول البرلمان تحت مظلة “إئتلاف الأحزاب القومية” بقيادة “فيلار”.
وردا على الإنتقادات التي وجهت إلى اليساريين عموما، وإلى الماويين خصوصا حول وضع يدهم في يد شخصية برجوازية وإقطاعية مثل البليونير “فيلار” الذي حقق ثروته من المضاربات العقارية، أشارت مصادر من داخل “الحزب الشيوعي الفلبيني” وذراعه العسكري “الجيش الشعبي الجديد” إلى أن التحالف القائم هو مجرد عمل تكتيكي سوف ينتهي بإنتهاء الأغراض التي أقيم من أجلها، وهو الحصول على دعم مالي لإنجاح أكبر عدد من المرشحين اليساريين في الإنتخابات التشريعية القريبة.
وعلى الرغم من خروج “فيلار” عن صمته لينفي أنه وضع جزءا من ثروته تحت تصرف مرشحي اليسار والحركة الماوية للفوز بالانتخابات البرلمانية، فإن الرجل سيقع لا محالة في ورطة – إذا ما فاز بالرئاسة – مع قادة المؤسسة العسكرية لأن هؤلاء لن يغفروا له تحالفه مع جماعة بينهم وبينها بحار من الدماء. ومن هنا قيل أن قادة الجيش يمارسون نفوذهم من خلف الكواليس لإنجاح المرشح الرئاسي الآخر “جلبيرتو تيودورو” وزير الدفاع السابق في إدارة الرئيسة ” غلوريا ماكاباغال أرويو” والذي يحظى بتأييد الأخيرة ودعمها.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh