لعل باكستان والصين هما أكثر دولتين سعادة بالأزمة الدبلوماسية القائمة بين واشنطون ونيودلهي، على خلفية إعتقال الأمريكيين لنائبة القنصل الهندي في نيويورك “ديفيان خوبراكاد” وإتهامهم لها بتقديم معلومات كاذبة في طلب إستخراج تأشيرة لمربية أطفالها التي زعمت أنها تتلقى في الساعة 3.31 دولارا أي أقل بكثير من الحد الأدنى للأجور في نيويورك وهو 9.75 دولارا، . فباكستان التي تعتري علاقاتها التاريخية بحليفها الإمريكي متاعب جمة بسبب إصرار الأمريكيين على ضرب معاقل الإرهاب داخل الحدود الباكستانية بطائراتهم من غير طيار يسعدها كثيرا نشوء شرخ في العلاقات الهندية – الأمريكية يؤدي إلى فقدان الهنود لحظوتهم لدى الأمريكيين. اما الصين فإن مصدر سعادتها هو أن أي خلافات هندية – إمريكية سوف يعيق رهانات واشنطون على نيودلهي للعب دور اللاجم للنفوذ الصيني في المحيط الهندي وجنوب آسيا.
والحقيقة التي لا جدال فيها أن واشنطون، من بعد خسارتها لأهم حلفائها في منطقة الشرق الأوسط كباكستان والمملكة العربية السعودية ومصر بسبب سياسات السيد أوباما المتخبطة، هاهي تخسر اليوم العملاق الهندي الذي بذلت جهودا كبيرة على مدى عقود من الزمن لإلحاقه بقائمة حلفائها الإستراتيجيين، وذلك بسبب تشبثها بدور راعي البقر العالمي الذي يــُفترض ألا يــُسأل عما يفعل، بما في ذلك خرق المعاهدات الدولية كمعاهدتي فيينا لعامي 1961 و 1963 الخاصتين بتنظيم العلاقات والحقوق والواجبات الدبلوماسية والقنصلية بين الدول، بل والمغالاة في الخرق على نحو ما حدث للآنسة “خوبراكاد” حينما إعتقلتها شرطة نيويورك، وكبلتها بالأصفاد، وفتشتها عارية أكثر من مرة، وحبستها مع المجرمين ومدمني المخدرات، قبل أن تفرج عنها بكفالة 250 ألف دولار، تمهيدا لمحاكمتها بتهم تصل عقوبتها إلى السجن 15 عاما.
إعتقدت واشنطون أن الأمر سيمر مرور الكرام من منطلق أن الهند سوف تصمت لأنها بحاجة إليها إستراتيجيا لترجيح كفتها أمام باكستان والصين، وبحاجة إليها تجاريا للمحافظة على مبادلاتهما البينية البالغ قيمتها 90 بليون دولار في السنة، لكن الأمريكيين نسوا أنهم يتعاملون مع أمة عظيمة لا تخنع وتعتز بكرامتها وكبريائها. وهكذا خلع الساسة الهنود، سواء في الحكم والمعارضة، قفازاتهم الناعمة التي كانوا يتعاملون بها مع الأمريكيين ليتباروا في توجيه اللكمات للكابوي الأمريكي.
جاء أول ردود الفعل الرسمية الهندية على لسان وزير الشئون البرلمانية الهندي “كمال ناث” الذي قال “إن على الولايات المتحدة أن تفهم أن الهند ليست من جمهوريات الموز”، وذلك في إشارة إلى دول أمريكا الوسطى الصغيرة التي كانت ذات يوم تتبع السياسات الأمريكية دون نقاش، ثم تبعه مستشار الأمن القومي الهندي “شيفشنكار مينون” الذي وصف ما قام به الأمريكيون بالعمل البربري، فزعيم المعارضة في مجلس الشيوخ الهندي “أرون جايتلي” الذي دعا إلى التعامل مع الولايات المتحدة على قدم المساواة، قائلا انه في الازمات الدبلوماسية يجب يقابل أي تصرف بتصرف مماثل ، مضيفا “إذا دست على طرفي مثلا فتوقع مني أن أدوس على طرفك”. ثم جاء دور النائب عن الحزب الشيوعي الهندي (الجناح الماركسي) “سيترام يشوري” الذي وصف ما حدث بالأمر غير المقبول والمتناقض مع جميع المعايير والقواعد الدولية، فالسيد “دي. راجا” الأمين العام للحزب الشيوعي الهندي الذي قال أن ما حدث يكشف بجلاء النفاق الأمريكي حول حقوق الإنسان، فالقيادي الكبير في حزب “بهاراتيا جاناتا” المعارض “ياشاوانت سينها” الذي لفت النظر إلى أن هناك ضمن الطاقم الدبلوماسي الأمريكي في الهند مثليين يستقدمون ذكورا من بلادهم لمعاشرتهم معاشرة الأزواج، مقترحا أن يطبق عليهم قانونا أقرته المحكمة الهندية العليا مؤخرا حول تجريم علاقات المثليين.
وتلت هذه التصريحات خطوات عملية من جانب السلطات الهندية لإفهام الأمريكيين أن إنتهاكهم للأعراف الدبلوماسية لن يمر دون ردود فعل إنتقامية. وقد تمثلت هذه الردود في رفع الحماية الأمنية الإضافية التي طالبت بها واشنطون دول العالم لحماية سفاراتها وقنصلياتها، فصارت الأخيرة محروسة حراسة عادية كأي بعثة دبلوماسية أخرى (أحدثت هذه الخطوة هلعا في واشنطون التي تذكرت ما حدث لقنصليتها في بنغازي الليبية)، ورفض مسئولين ومشرعين هنود مقابلة وفد من الكونغرس الأمريكي كان في زيارة للهند، وقيام الهند بمطالبة واشنطون بمساواة الهنود العاملين في سفارتها وقنصلياتها ومدارسها بنظرائهم الأمريكيين لجهة الرواتب والحوافز والتعويضات. إلى ذلك قامت السلطات الهندية بتجريد كافة موظفي السفارة الامريكية وعائلاتهم من بطاقات “عدم التعرض” التي كانوا يتمتعون بها، وتجريدهم من تراخيص المطارات للمرور المباشر فصاروا يتعرضون للتفتيش مثل غيرهم، وإلغاء رخص الإستيراد الخاصة الممنوحة للسفارة الامريكية وقنصليلتها، ومطالبة الإمريكيين بكشوفات مفصلة عن مرتبات العاملين في سفارتهم في نيودلهي للتأكد من دفعهم لضرائب الدخل للدولة الهندية مقابل ما يشترونه ويحصلون عليه من خدمات.
أما على الصعيد الشعبي فقد تمثلت ردود أفعال الهنود في مظاهرات غاضبة إنطلقت في أكثر من مدينة هندية، ولاسيما نيودلهي ومومباي وكلكتا وتشيناي (مدراس سابقا) وحيدر آباد مع إحراق دمى للسيد أوباما ورفع لافتات تندد بالتعجرف الأمريكي، ناهيك عن تحطيم متاجر تابعة لسلسة مطاعم الماكولات السريعة الأمريكية مثل “دومينو بيزا”.
لكن من ناحية أخرى إتضح أن وسائل الإعلام الهندية إتخذت منحى آخر في تعاملها مع هذه الأزمة. فبعضها شدد على المشتركات والمصالح الاقتصادية والامنية الكثيرة بين نيودلهي وواشنطون، قائلا أنه من الضروري إحتواء الأزمة بدلا من تصعيدها وإستخدامها بعض الساسة لها كورقة إنتخابية، والبعض الآخر طالب بإعلان رسمي أمريكي صريح وواضح من جانب الحكومة الأمريكية يفيد بإرتكابها خطأ في حق الهند، خصوصا وأن ما تعرضت له “خوبراكاد” إنطوى على الإستخفاف بكرامة إمرأة هندية و”كرامة المرأة الهندية هي جزء من كرامة المجتمع والدولة” كما كتبت “سواتي شارما” في الواشنطون بوست.
وكان هناك فريق ثالث إنتقد الحكومة الهندية لعدم وضعها معايير واضحة لتوظيف الأشخاص الذين يرافقون دبلوماسييها إلى الخارج، ولعدم تأهيلها لدبلوماسييها بما يكفي لمعرفة ما يجوز لهم وما لا يجوز في الدول التي يتم إرسالهم إليها كيلا يتسببوا في إحراج الهند أو إفساد علاقاتها مع الآخر. ولعل هذا تحديدا ما دفع بوزير الخارجية الهندي “سلمان خورشيد” للقول بأنه “فور تسوية الأزمة الحالية ستفحص الحكومة المعايير الحالية لتوظيف المساعدين والخدم الذين يرافقون الدبلوماسيين في الخارج”.
كما كان هناك فريق رابع إنتقد الحكومة الهندية لوقوفها في صف الدبلوماسية المتهمة دون الحديث عن الضحية المزعومة وهي خادمتها، مشيرا إلى أن حوادث إنتهاك كبار الموظفين الهنود الرسميين، سواء داخل الهند أو خارجها، لحقوق العاملين لديهم من جنسيتهم كثيرة ومتكررة ومشينة (سجلت ثلاث وقائع من هذا النوع في الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث الماضية).
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh