دشن رئيس وزراء الهند السيد مانموهان سينغ مؤخرا مشروعا طموحا يتكلف نحو 33.5 مليار دولار، ويؤمن لبلاده دخول نادي الدول التي يحمل سكانها ما يسمى بـ”بطاقات الهوية البيومترية” الذكية سريعة المسح. وهذا النادي يقتصر عضويته حتى الآن على 50 دولة فقط، من بينها معظم دول أوروبا، والصين، والبرازيل، واليابان، وإسرائيل، والعراق، علما بأن دولا مثل كندا، وأستراليا، ونيوزيلندة، والولايات المتحدة الإمريكية، ماضية الآن في صياغة التشريعات اللازمة لدخول النادي تحت تأثير مخاوفها من تسرب الإرهابيين إلى أراضيها.
وميزة بطاقات الهوية هذه التي تأخذ شكل معينا وتشتمل على إسم الفرد وعنوانه وتاريخ ميلاده وجنسه وأسماء أبيه وأمه أو زوجته وزوجه أو بناته وبنيه، إضافة إلى معلومات جغرافية وبصمات لأصابع اليد العشرة وقزحية العين، أنها تحمل رقما فريدا. وهذا الرقم مرتبط بدوره بقاعدة بيانات مركزية تساعد على التيقن من حقيقته أو زيفه، الأمر الذي يقلل أو يلغي إحتمالات وجود بطاقات هوية مزدوجة للفرد الواحد، أو وجود هويات قومية مزورة.
وقد يستنكر البعض أن تنفق دولة كالهند، يعيش نصف سكانها تقريبا تحت خط الفقر، مثل هذا المبلغ الضخم على مشروع كهذا، لا يخلق فرص عمل جديدة، ولا يرفع من مستويات المعيشة والدخل. غير أن الهند بهذا المشروع، الذي أطلق من قرية قبيلة “تيمبلهلي” (حيث يعيش نحو 1500 نسمة) في ولاية “مهاراشترا” الواقعة على سواحل الهند الشرقية، تريد أن توطد أقدامها في الساحة العالمية للحوكمة الإلكترونية، عبر إصدار بطاقات هوية بيومترية ذكية موحدة الشكل لكل فرد من سكانها الذين تجاوزوا اليوم رقم مليار ومائتي ألف نسمة، بمن فيهم أولئك المهمشون الذين لم يحصلوا يوما على أية هوية، ممن يزيد عددهم عن 300 مليون نسمة، علما بأن المواطنين الهنود يثبتون هوياتهم في الوقت الحاضر بواسطة وثائق مختلفة في تصاميمها وأشكالها، ونوعية بياناتها، وأغراضها، مثل شهادات الميلاد، ورخص القيادة، وبطاقات التموين، وغير ذلك من الوثائق التي لم تعد مقبولة عالميا للتحقق من الشخصية.
ثم أن هذا البلد الكبير لجهة سكانه، والشاسع لجهة مساحته وتقسيماته الإدارية، والضخم لجهة مشاكله، و الفريد لجهة تعدد قومياته وأديانه وثقافاته، بحاجة ماسة إلى مثل هذه التقنية، لتحقيق المزيد من الشفافية في العمل، وإيصال الخدمات الإجتماعية لمستحقيها بكفاءة أكبر (وبالتالي جعل حياة الملايين من المهمشين، والمهاجرين من الأرياف إلى المدن، وحملة الوثائق المزورة، أكثر سهولة)، ووضع خطط أكثر دقة للمستقبل (خصوصا في هذه الحقبة الزمنية المتميزة بالتنافس والصعود في آسيا)، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون الأخذ بالتقنيات العصرية الجديدة في مجالي الإحصاء والمعلوماتية، وتوحيد أشكال بطاقات الهوية ونوعية المعلومات التي تتضمنها.
والحقيقة ان الحكومة الهندية تعرضت لنقد مرير من قبل بعض الجماعات والمنظمات التي تسرعت في إطلاق الأحكام على المشروع (دون التدقيق في دوافعه وفوائده)، ووجدت فيه إهدارا للمال العام، غير أن نيودلهي سارعت، عبر الشخص الذي إختاره رئيس الوزراء بنفسه لقيادة مشروع “الهوية البيومترية”، وهو “ناندان نيلكاني” (شخصية معروفة على مستوى الهند كلها كأحد مؤسسي ثاني أكبر مجموعة لتقنية المعلومات في البلاد، وهي مجموعة “أنفوسيس”) إلى توضيح بعض الأمور الخافية، مثل أن المشروع المذكور عبارة عن تحالف أو إئتلاف قومي كبير تشترك فيه وزارات الدولة المختلفة، وحكومات الولايات الهندية، وقطاعي المصارف والتأمين، إضافة إلى ثلاث من شركات النفط المحلية الكبرى، ومؤسسات خاصة عاملة في قطاع تقنية المعلومات، ومثل أن المشروع يفرض رسوما على كل من يريد التزود بخدمات التأكد من الهوية، وبالتالي فإنه (أي المشروع) يتوقع له أن يدر سنويا ما لا يقل عن 60 مليون دولار. هذا ناهيك عن ما لا يقل عن أربعة بلايين دولار يمكن للدولة أن تحصل عليها، بعد إكتمال المشروع، كنتيجة لسده الطريق أمام المتهربين من دفع الضرائب الحكومية.
على أن ما سبق ذكره، لم يكن النقد الوحيد الذي وجه إلى المشروع. فحينما قام النشطاء المدافعون عن الخصوصية، والمنظمات المدافعة عن الحريات المدنية بحملة إنتقادات ضد مشروع “البطاقات البيومترية” بحجة أن الهند ليست لديها قوانين صارمة كتلك الموجودة في الغرب لحماية البيانات ومنع سرقتها أو إفشائها أو بيعها من قبل البيروقراطيين الفاسدين، ثم بحجة وجود تلك البيانات الحساسة في مكان مركزي واحد، مما يشكل مخاطرة أمنية جسيمة بحسب زعمهم، تصدى لهم “نيلكاني” قائلا أن الهيئة التي شكلت لتنفيذ وإدارة المشروع (الهيئة الهندية للهويات الإستثنائية) سوف تستعين بأفضل الخبراء وأحدث التقنيات من أجل ضمان سرية البيانات، ومضيفا أن البرلمان الهندي في طريقه للموافقة على حزمة قوانين جديدة من شأنها – حين دخولها حيز التطبيق – أن تضمن الأمن والحماية لكل المعلومات التي يتم جمعها عن الشعب ضد الضياع أو السرقة أو الإعتداء أو التسريب غير القانوني، علاوة على تحديد عقوبات رادعة سوف تطبق بحق كل من يعتدى على قاعدة البيانات بأي صورة من الصور.
وقد إعترف “نيلكاني” في حديث له لمجلة “تايم” الإمريكية بأن المشروع الهندي المذكور، ليس سهل التحقيق في بلد كبير كالهند، بمعنى أنه لكي يكتمل وفق الخطة الموضوعة في عام 2018، سوف يواجه تحديات كبيرة، قائلا: ” إننا بصدد إصدار هويات لنحو مليار وربع المليار من البشر، ولكم أن تتخيلوا المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه الهويات لو وضعنا الواحدة فوق الأخرى”، ومضيفا: “سوف يبلغ إرتفاعها مائة وخمسين مرة أكثر من إرتفاع قمة إيفرست البالغ 1200 كيلومترا. غير أنه أوضح أن الفوائد التي ستتحقق للهند وللهنود من وراء المشروع يبرر المضي فيه بعزيمة وإصرار. فهو يسمح للدولة بخلق قاعدة بيانات سليمة ودقيقة عن الشخصيات الضالعة في عوالم الجريمة والإرهاب وقطع الطرق. ومن ناحية أخرى، هو يسمح للهند بتتبع الأفراد الذين يتهربون من دفع الضرائب للدولة، علما بأن دافعي الضرائب الهنود لا يتجاوزون حاليا نسبة 5 بالمئة من السكان. إلى ذلك فإن المشروع سوف يساعد الهنود على الإرتباط أكثر بخدمات النظام المصرفي الذي لا يستفيد منه سوى القلة، بسبب عجزهم عن فتح حسابات في المصارف لأن هذه الأخيرة تشترط عليهم تقديم ما يثبت هوياتهم بصورة مفصلة، والهويات الدقيقة المعتمدة لا وجود لها.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh